الشرق الأوسط: التقسيم والتقاسم

فى عام 2000 أصدرت كتابى «الحماية والعقاب: الغرب والمسألة الدينية فى الشرق الأوسط». حاولت أن أتتبع فيه مسيرة علاقة الغرب بالشأن الداخلى لدول المنطقة مع التركيز على البعد الدينى. وكان الدافع هو دراسة دوافع أمريكا فى إصدار قانون متابعة الحريات الدينية حول العالم.. وكانت الإشكالية البحثية الأولى التى واجهتنا لماذا يصر الغرب- تاريخيا- على وصف المنطقة بالشرق الأوسط؟، وما هى الحدود الجغرافية لهذه المنطقة؟، أو أين تبدأ وأين تنتهى؟،.. إلخ. وكانت الإجابة الحاسمة وفق الكثير من المصادر أن «الشرق الأوسط»؛ ما هو إلا «مفهوم، محض، استراتيجى»، أى دلالته سياسية أكثر منه جغرافية. لذا فهو تعبير «مطاط»، يسمح باستبعاد دول وضم أخرى بحسب المصالح الاستراتيجية الغربية.

(2)

ويترتب على ما سبق ثلاث نتائج كما يلى: أولا، الحيلولة دون تحقيق وحدة سياسية ذات توجهات مشتركة. ثانيا: تدويل المنطقة بحيث يمكن التحكم فى إعادة تخطيطها حسبما تحتاج الاستراتيجيات الغربية. ثالثا: دعم تشكيل التحالفات الصغرى المؤقتة والمتغيرة بحسب الضرورة كبديل للوحدة السياسية الجامعة.. ونشير هنا إلى أن المرء سوف يفاجأ عندما يراجع المصادر المختلفة التى تحاول توصيف الشرق الأوسط حيث تجد البعض يضم أفغانستان وباكستان إليها. وهناك من يضع تركيا وإيران ومصر والسعودية فى قلبها ويستبعد تونس والمغرب والإمارات إلى هامشها وهكذا، أخذا فى الاعتبار أن إسرائيل فى كل تعريفات الشرق الأوسط هى موجودة فى القلب منه.. أيضا يعد تعبير الشرق الأوسط هو الوصف الاستراتيجى الذى حل محل تعبير الشرق الأدنى الذى كان سائدا وقت الصراع مع السلطنة العثمانية واستمر حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية.. وحول ذلك يقول ساطع الحصرى إن «الاختلاف حول مدلول الشرق الأوسط يدل دلالة قاطعة على أن هذه التقسيمات والتصنيفات، لا تستند إلى أسس ثابتة من الجغرافيا الطبيعية أو البشرية، إنما هى تقسيمات اعتبارية، تسعى إلى تقريرها سياسة الدول الغربية، حسب ما تقتضيه مصالحها الاقتصادية».

(3)

ولعل «الفسيفسائية»؛ هى النتيجة الطبيعية لاعتماد مفهوم الشرق الأوسط.. وهى الحالة التى تتيح للاستعمار بصورتيه القديمة المباشرة والجديدة الاقتصادية أن يحقق ما يلى: أولا- التغلغل الأجنبى، ثانيا- الضغط الاقتصادى وتوسيع الامتيازات، ثالثا- بروز مشكلة الأقليات بكل مستوياتها العرقية، والقومية، والمذهبية، والدينية. وفى هذا السياق، نشير إلى أنه فى دراستنا «الحماية والعقاب» أثبتنا أن العلاقة بين الغرب والمنطقة لم تخرج عما سبق فى الأغلب الأعم عبر خمس مراحل منذ الدولة العثمانية وإلى وقتنا هذا (أضفنا مرحلة سادسة فى دراسة لاحقة)...

(4)

نتج عما سبق أربع نتائج خطيرة: أولها- سريان «فيروس التفكيك» فى بنية الدول ومجتمعاتها. وثانيها- تدويل المنطقة، واستباحتها واستباحة ثرواتها ونقلها إلى المركز، وتأليب دولها على بعضها البعض، وإفساد تنوعها وتعدديتها، وثالثها- منع احتمالية سعى دول المنطقة إلى تكوين وحدة سياسية تكاملية على قاعدة المواطنة والتعددية. ورابعها- إعاقة أى تطور وطنى ذاتى وحصار مطالب المواطنين والتسفيه من «الحركات المجتمعية» الساعية نحو التغيير وتقييدها...

(5)

ونؤكد على أننا نعى جيدا أن استراتيجيات الخارج لم تكن لتنجح ما لم يكن الداخل جاهزا لذلك. ومن ذلك تقدير التنوع والحرص على تطبيق المواطنة الثقافية. وأن ما أطلقت عليه شبكات الامتيازات المغلقة والتى تعد امتدادا لمصالح الخارج فى الداخل تعين فى إحداث عملية مركبة هى ما نشاهده الآن بامتياز شديد. عملية عناصرها ما يلى: كما ذكرنا مبكرا أولا- «الإلحاق- التجزئة»؛ إلحاق اقتصادى.. وتجزئة القومية/ الدينية/ المذهبية. ونضيف إلى ما سبق ثانيا- «التقسيم- التقاسم»؛ تقسيم يقوم على ما هو أصغر وأقل على أسس عرقية بالمعنى الواسع لمفهوم العرقية،.. وتقاسم بين أصحاب المصالح والذين يتدرجون من الدول مرورا بالمنظمات الدولية والمؤسسات المالية والهيئات الإعانية إلى الشركات.

(6)

الخلاصة أنه لا سبيل للتخلص من «التقسيم والتقاسم» الذى نتعرض له فى إطار «الإلحاق والتجزئة» دون العمل على تجديد فكرة الدولة الحديثة الوطنية المستقلة وفق مشروع تنموى شامل وتكاملى.. والتحرر التاريخى من الهندسة الاستراتيجية القسرية الخارجية.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern