فى رسائله الخمس الأولى، من مجموعة رسائله العشر حول تنمية مصر، استخلص لنا الدكتور إبراهيم العيسوى مجموعة دروس من دراسته لتاريخنا الاقتصادى، فى القرن التاسع عشر ومساره إلى يومنا هذا، مفادها أنه لا تنمية دون: «الاعتماد على الذات، والتخطيط، والديمقراطية». ثم يحدثنا عن رؤيته لما أطلق عليه: «التنمية السوية». أو التنمية العصرية الصحيحة وضرورة أن تكون متكاملة ومتشابكة: سياسيا، واجتماعيا، وبيئيا، وتكنولوجيا، وإداريا، فى إطار علاقات دولية لا تحول دون التقدم والاستدامة على قاعدة إنتاج مادى متعددة المستويات. وفى رسائله التالية، من السادسة إلى التاسعة، يقوم بدق جرس الإنذار للتحذير مما سماه: «أوهام وأساطير التنمية». حيث رصد مجموعة من الخرافات التى دأب أنصار الليبرالية الجديدة على ترديدها لإقناع المواطنين بأنها الحل الناجع لتحقيق التنمية. إنها خرافات تراوح فى وصفها العيسوى بين: الأوهام والأساطير.
(2)
بحسم يقول الدكتور العيسوى إنه: «لا تنمية حقيقية مع حرية السوق وتفكيك الضوابط الحكومية على حركة الاقتصاد، ولا مع فتح الاقتصاد الوطنى ودمجه من موقع التخلف والتبعية فى الاقتصاد الرأسمالى العالمى. ويؤكد، ويكرر بوضوح شديد، أنه «لا تنمية حقيقية مع السياسات النيوليبرالية (أو ما يعرف تاريخياً بإجماع واشنطن حول الخصخصة والأخذ باقتصاد السوق). ويصف ذلك بأنه «وهم».. ويدلل على ذلك من خلال استعراض تجربة الدول الصناعية وتفنيد وهم أنها نجحت فى المراحل الأولى لتنميتها بفضل الالتزام الصارم بالأسواق الحرة وحرية التجارة والاستغناء عن أى دور للحكومات. فالحقيقة الثابتة، يقول العيسوى: «هى أن هذه الدول قد لجأت إلى أساليب شتى لحماية صناعاتها الناشئة وتعزيز التطور الرأسمالى بما فى ذلك استعمار دول أخرى أو الهيمنة عليها ونهب ثرواتها. هذا ما حدث فى إنجلترا ومن بعدها فرنسا وألمانيا، ومن بعدهما الولايات المتحدة الأمريكية التى تبلور فيها مبدأ حماية الصناعة الناشئة على يد هاميلتون فى 1791. وتابع ذلك فى تاريخنا، وفى أكثر من موضع بما فيها مصر، عندما شهدت تقدما صناعيا وحصلت على حقها من رسوم جمركية حمائية ما مكن من اتباع سياسة الإحلال محل الواردات ومن ثم نمو العديد من الصناعات.. وهو ما لم يتحقق مع زمن السوق.
(3)
وبصرامة أكثر يرسل الدكتور العيسوى رسالته التالية (الثامنة) حول وهم صبغ أساس علمى لمقولات الليبرالية الجديدة. ويصفها «بالعلمية المزعومة». ويقول: «ليس صحيحاً المقولة التى تروّجها المؤسسات المالية الدولية والدول الرأسمالية الكبرى بأن آليات السوق هى الأسلوب الطبيعى لإدارة الاقتصاد». ويفصل هذه النقطة عبر كثير من الدلائل والإحالات. والأهم تقارير التقييم التى تناولت المؤسسات المالية الدولية ومن أشهرها «تقرير ديتون» الذى صدر فى 2006. و«تقرير ميشكن» الذى صدر فى 2010.. والخلاصة، وبحسب والدن بيللو، أستاذ علم الاجتماع فى جامعة الفلبين، أن «نيوليبرالية توافق واشنطن لم تنجح طبقا لأى معيار من معايير التنمية، لا سيما الاستدامة، وتخفيض الفقر، وتخفيض اللامساواة».
(4)
فى ضوء ما سبق، ينتقل الدكتور إبراهيم العيسوى إلى رسالته التاسعة التى تتضمن أربعة تحذيرات من أربع أساطير هى: «أولاً: القطاع الخاص ركيزة التنمية». ثانيا: «التجارة محرك النمو الاقتصادى وتحرير التجارة يحفز التنمية». ثالثا: «الإلحاح على أن المشروعات الصغيرة- بل المشروعات متناهية الصغر- دعامة أساسية لدفع عجلة النمو الاقتصادى». ورابعا: «القفز، بما يعرف بحرق المراحل، إلى اقتصاد الخدمات وترشيحه لقيادة التنمية».. ويشرح تفصيلاً لماذا هى أساطير. منها ما يتعلق بضعف البنية الذاتية للرأسمالية المصرية. ويميز بين المقولات الشائعة كأسباب للنمو وأنها نتيجة لعملية تنموية مركبة. كما يلجأ للدراسة المقارنة ليدحض ما شاع من أساطير.
(5)
ولا يتركنا الدكتور العيسوى دون التأكيد على أن هناك بدائل. ويقول فى ختام رسائله التحذيرية: «إن الساحة الفكرية تزخر بالبدائل». ومنها: بديل التنمية المستقلة ذات الركائز الست فى رسالته العاشرة والتى نفصّلها فى مقالنا القادم..