المصريون وسر تأخرهم.. (1) نص منسى «تأسيسى»

دخلت مصر القرن العشرين وهى تحت الاستعمار البريطانى، وتعانى من هزيمة مشروع محمد على، وحصار طموحات إسماعيل النهضوية، والانحياز الحاسم للرأسمالية الأجنبية بكل ما يعنيه ذلك من أضرار للرأسمالية البازغة آنذاك.. ولكن حركة المواطنين التى تقدمت نحو «اختراق حاجز السلطة والحكم ــ بحسب تعبير أستاذنا وليم سليمان قلادة ــ للمرة الأولى منذ البطالمة إلى محمد على. ولم يفتر حماسهم من أجل أن تحافظ على مكاسبها غير المسبوقة تاريخيا، والتى كانت ذروة تجلياتها فى حضورهم الفاعل فى مجلس شورى النواب من خلال:

أولا- مساءلة الحاكم، وثانيا- تبلور علاقة جديدة بين المحكومين والحكام أساسها الندية، وثالثا- تشكل طليعة برلمانية مصرية ترفض الرقابة الأجنبية والتدخل الأجنبى الاقتصادى، ورابعا- تهيئة مجال عام «نضالى ومقاوم» بعد حكم توفيق وهزيمة عرابى، وخامسا- مجال عام ثقافى وفكرى ومعرفى صب كله فى رفع الوعى العام لأبناء «الأمة المصرية»؛ بتعبير تلك الأيام.

(2)

وعليه، تنوعت الحركات والأفعال السياسية والمدنية المناضلة ضد الاحتلال والمقاومة من أجل كل ما يقلص من أى حقوق اكتسبها المصريون. كما توالت المؤلفات والترجمات وتعددت الإصدارات الصحفية فى هذه الفترة التى أطلقت عليها فترة «الحكام الصغار» (من توفيق إلى ما قبل فؤاد).. فى هذا السياق، صدر كتاب «حاضر المصريين أو سر تأخرهم»؛ للأستاذ «محمد رفعت»، «المستخدم بمصلحة البوستة (البريد) المصرية»، بحسب ما عرف نفسه على غلاف الكتاب، الذى نشر فى عام 1902.. (ما يقرب من 300 صفحة)، وقد وصلتنى طبعته الثانية التى نشرها «المكتب المصرى لتوزيع المطبوعات» عام 1998. حيث قام الدكتور مجدى عبد الحافظ بكتابة مقدمة رصينة مطولة حول النص تقع فى 60 صفحة، حيث صدر المقدمة بعنوان: «محمد عمر ونصه المنسى: رؤية نقدية للواقع المصرى فى بداية القرن» (العشرين).. ويبدو المفقود، أيضا، حيث يشير الدكتور مجدى إلى أنه حصل على نسخة من النص من الباحث الفرنسى المعروف «آلان روسيون».

(3)

على أى حال، حسنا فعل الدكتور مجدى عبدالحميد أن أعاد نشر الكتاب «المنسى» بحسب ما صدر مقدمته، ذلك لأن النص بديع وسابق عصره، ما يدفعنى أن أصفه «بالنص الـتأسيسى»؛ لإرهاصة إبداع مصرى مبكر فى مجال علم الاجتماع بشكل عام، كذلك محاولة رائدة لفهم الجسم الاجتماعى المصرى من منظور «طبقى».. وتحديدا لطبقتى: «الأغنياء والفقراء».. لماذا؟.

(4)

يقول عبدالحافظ إن الكتاب يعد «معالجة غير مسبوقة لحياة الناس فى مصر»، حيث المؤلف «يضع يده على مواطن الداء التى يعيشها، ويتنفسها، ويفهم، دواعيها، وأسبابها، كما يعيها كمواطن مصرى».. فلقد اهتم «بتشريح الواقع والاقتراب من مشاكله وحصرها». أى انطلق من واقع الجسم الاجتماعى بطبقتيه: الغنية والفقيرة، وتحركهما اليومى فى دوائر الحركة المختلفة من مؤسسة دينية، ومصلحة وظيفية، وجمعيات، ونشاط عام.. إلخ. ومواقفهما من بعضهما البعض، ومن النشاط الاقتصادى، ومن العادات والتقاليد. واختياراتهما المهنية، والتعليمية، والثقافية. وعاداتهما الدينية، والاجتماعية فى الأفراح والمآتم والزواج والطلاق.. وعن ذلك يقول عبدالحافظ: «ولم يكن نجاح كاتبنا يعود إلى ما قد استطاع أن ينقله من انطباعات إلى الباحث فى طبيعة الحياة فى هذا الوقت، ولكن نجاحه يكمن فى قدراته على رصد مظاهر هذا الواقع من خلال أرقام وإحصاءات وبيانات دقيقة، مما نقل مستوى الانطباع الشخصى إلى مستوى الصورة الحقيقية لما كان عليه الواقع بالفعل».. يضاف بالطبع إلى أن «محمد رفعت» قدم مادة معرفية حقيقية من الواقع بحكم حضوره فى قلب الجسم الاجتماعى وعمله الوظيفى.. وظنى أنه قدم كتابا رائدا جسد فيه العبارات التى حاول فيها المقريزى رسم طبقات الجسم الاجتماعى المصرى «على عجل» فى الجزء الأول من كتاب السلوك.

(5)

وتنطلق أهمية الكتاب فى التشابه بين واقع مصر مطلع القرن العشرين وواقعها الراهن من حيث التعاطى مع كثير من القضايا.. كما أن الكتاب يقدم نموذجا ــ فى حدود المعرفة العلمية المتاحة آنذاك ــ لكيفية رسم خريطة معرفية للجسم الاجتماعى.. وهو ما نتطرق إليه فى مقالنا القادم... ونواصل.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern