رأيت المهندس على نجيب ثلاث مرات على فترات متباعدة بداية من مطلع التسعينيات. وفى كل مرة كان يتكلم قليلا ولكنك تشعر أن لديه الكثير والكثير الذى يمكن أن يسهم به فى تنمية مصر. وحاولت أن أعرف ما هو مكنون لدى الرجل. وبالفعل عرفت من بعض الأصدقاء من هو على نجيب. كما أحضرت كتبه التى سجل فيها أفكاره فى الاقتصاد والمجتمع. كذلك يومياته المهمة التى سجل فيها تجربته الثرية. ووجدتنى أمام واحد من «سلسال المصريين المبدعين»، الذين يعيشون بيننا. ينجزون ويبدعون ويوثقون رؤاهم فى صمت وبهدوء شيمة الكبار الذين يخدمون أوطانهم لوجه الله والوطن.
(2)
على نجيب ابن الطبقة الوسطى المدنية. من عائلة اختارت العلم المقترن بالوطنية هاديا ومرجعا للحياة. عشق الكيمياء وتخصص فى الكيمياء الحيوية. وشارك فى الحركة الوطنية المصرية فى الأربعينيات وكافح من أجل الثورة والتغيير. واعتقل لسنوات فى الخمسينيات ومطلع الستينيات. وعاد ليعمل فى بناء المشروع التنموى الوطنى التاريخى، والأهم الذى عرفته مصر الحديثة. وبالرغم من الكثير من الإعاقات البنيوية التى كانت فى جسم القاعدة الصناعية التاريخية التى تأسست خلال هذه الفترة، إلا أنه عمل «بما يرضى الله» على نجاح التجربة. عمل كإنسان ومواطن محب لوطنه. واختار فى هذه المرحلة وما بعدها أن يلعب دور «الخبير المثقف»، من خلال تنمية مصر ومشروعها التصنيعى.. مستثمرا قيم أسرته، وخبرته السياسية كعضو فى لجنة العمال والطلبة التى تأسست فى 1946، والحبس المبكر، والعلم المتخصص فى مجال الكيمياء الذى حصل منه الكثير، والثقافة الموسوعية.
(3)
نعم.. يمكن أن نطلق عليه «الخبير المثقف» الوطنى- وهو موضوع كتبنا عنه منذ فترة لنميز بينه وبين الخبير الموظف الذى ابتلينا به نتيجة زمن اقتصاد الليبرالية الجديدة- «الخبير المثقف»، الذى من أهم سماته ما يلى: أولاً: «التكوين المعرفى الواسع». وثانيا: «الرؤية الشاملة». وثالثا: «إدراك طبيعة المجتمع وتفاعلاته وصراعاته».. ونجحوا فى ممارسة العمل الفنى الإدارى وقدموا الخبرات، ولكن على خلفية معرفية ورؤية وحس مجتمعى.. «كخبراء مثقفين».. من هؤلاء سوف نجد «سلسالا من المبدعين المصريين المعتبرين»، منهم: إسماعيل صبرى عبدالله (المؤسسة الاقتصادية)، ومحمد محمود الإمام (معهد التخطيط)، وثروت عكاشة (وزارة الثقافة)، ورشدى سعيد (هيئة التعدين)، وأحمد فؤاد (بنك مصر) رحمهم الله جميعا.. ومن ضمن هذا السلسال يأتى: «على نجيب»، أمد الله فى عمره، الذى عمل بإحدى شركات القطاع العام، ثم لاحقا أدار مكتبا علميا لـ«التطبيقات الصناعية».
(4)
وقد وثق تجربته الثرية فى عدد من الكتب المهمة التى تعد وثائق تاريخية لابد من الاطلاع عليها والتعلم منها والانطلاق منها من أجل تقدم مصر.. نذكر من هذه الكتابات: أولا: «كراسة فى تصنيع مصر»، وثانيا: «مدخل إلى رأسمالية الريع»، وثالثا: «كتابات فى الاقتصاد والمجتمع»، ورابعا: «حكايات إنسان فى سلام مع نفسه».. حيث تشكل هذه الكتابات- تحديدا- حصيلة الرجل العملية والفكرية تجاه وطنه مصر. كما تعكس الإطار المرجعى لأى «خبير مثقف» من حيث: «رؤيته الشاملة» للاقتصاد وللنموذج التنموى المطلوب لمصر، و«تكوينه المعرفى المتنوع» الذى يتجاوز التخصص الضيق إلى المعارف المتنوعة، والتى لا غنى عنها عند التصدى للنموذج التنموى الشامل، و«حسه الاجتماعى والسياسى» الذى به يفهم السياق المجتمعى وكيفية فهم موازين القوة المحركة له وشروط تقدمه.
(5)
ويضاف إلى ما سبق «وطنيته». ذلك لأنه فى تجربة التصنيع المصرية كانت هناك معركة حقيقية تديرها قوى خارجية رافضة تنمية قاعدتنا الصناعية الوليدة، وهناك من المتواطئين فى الداخل من كانوا يتبعون هذه القوى ومتورطين معها فى ذلك.. وهى معركة خاضها بكل جوارحه. بالإضافة إلى المواجهة مع الفساد الداخلى البازغ.. إنه على نجيب «الخبير المثقف الوطنى»، الذى نقترب من خلاصة خبرته فى مقالنا المقبل.