نواصل مع إحدى حلقات سلسال المبدعين المصريين، الدكتور محمد رياض (1927)، أمد الله فى عمره. فى مجلده المرجعى البالغ الأهمية حول الإنسان والمكان والزمان فى مصر. والذى يضع فيه خلاصة خبرته وعلمه فى وضع رؤية وطنية شاملة لتنمية مصر بصورة مستدامة، لا خاطفة، أو جزئية، أو فوقية، أو سطحية، أو مصطنعة... إلخ. والأهم ألا تكون تابعة. وألا تكون لصالح القلة. تنمية تتعلم من دروس الماضى، فلا تكرر ما ثبت فشله. ما أدى إلى إفقار متزايد للمواطن. وفى هذا المقام يعطى أمثلة عديدة.
(2)
فيقول التنمية المستدامة بالنسبة للظروف المصرية- أرجو ملاحظة تأكيد شيخنا الجليل على ضرورة إبداع رؤية تنموية وطنية تتسق والظروف الواقعية لمصر- هى: «غالبا مجموعة من الأنشطة التى لا تحتاج إلى غزارة المياه مثل الزراعة وذلك بالتركيز على حياة مدنية صغيرة إلى متوسطة تعتمد اقتصاديا على الصناعة التحويلية. وتنشيط الصناعة الحرفية للتعامل مع خامات صناعية أو بيولوجية وإنتاج الطاقة اللازمة للإنسان ونشاطاته الاقتصادية. وكذلك مجموعة اقتصاد الخدمات (تعليم وصحة وتجارة محلية ونقل واتصالات ومنشآت ترفيهية وثقافية وفنون،... إلخ). وبنية تحتية منضبطة من مياه وصرف صحى وشبكة طاقات متجددة وطرق وجسور. أما عن الصحارى الساحلية والداخلية فتعتمد على النشاط الأولى بسيادة زراعة الرى الحديث المتمثل فى: التنقيط، والرش، والرى المحورى، وزراعة الصوبات. بالإضافة إلى السماكة الطبيعية والمزارع السمكية المنتقاة. وأخيرا ثروة حيوانية متلائمة مع إيكولوجيا حياتية أميل إلى الجفاف.
(3)
ويخصص عالمنا الجليل فقرة عن منطقة الوادى والدلتا حيث يقول بأنها تحتاج زمنا وجهدا طويلا لإعادة صياغة وتجديد أشكال الإنتاج الحالية بها. ويحدد إعادة الصياغة بحزمة من الخطط والسياسات كما يلى: أولا: إعادة تأهيل الممارسين للأنشطة بأنواعها الزراعية والصناعية والحرفية والخدمية. وثانيا: تحديد الحدود الدنيا للملكيات الزراعية وملكيات الورش والتجارات الصغيرة لكى تصبح نشاطا مردوده معيلا فعلا للممارسين وأسرهم مع القدرة على الادخار. وثالثا: يحتاج الناشطون إلى تطوير إمكاناتهم وتبنى الآليات الحديثة وأفكار المبدعين فى ظل تزايد أنواع وتخصصات السلع المنتجة وارتفاع أسعار السوق سواء بالنسبة: للمسكن أو تكلفة الحياة إجمالا. ورابعا: ولن تؤتى التنمية ثمارها بغير ممارسة حقوق المواطنة: من حريات، ومشاركة سياسية حزبية. ومشاركة مدنية مجتمعية. حيث يؤكد أن المواطنة ضرورة صحية متممة للتنمية.
(4)
ومن أهم الأفكار التى يطرحها مبدعنا المخضرم هو الإبداع فى تحقيق علاقة: «تبادلية وتكاملية» بين أراضى وأقاليم مصر. حيث «تقدم المزرعة فى المعمور النيلى الغذاء للناس فى معسكرات العمل الصحراوية المنتجة لأشكال من الخامات والسلع كالمحاجر والمناجم أو صناعات التقنيات المتوسطة ذات العمالة الكثيفة وبخاصة الإسمنت، وصناعة التقنية العالية كثيفة رأس المال كالبترول والغاز». وعليه مطلوب تنمية مستدامة تنتشر فى مستوطنات فى أرجاء مصر الصحارى والوديان والجبال. فتتجمع فى هذه المستوطنات أنشطة اقتصادية تتكامل معا لإرساء حياة مستقرة تعتمد على منتج ذى قيمة سوقية فى تبادلية مع الأسواق المصرية. ويعطى مثلا بإنشاء «مستوطنة تعتمد على مزرعة المياه الجوفية لإنتاج محاصيل إعالة سكان المستوطنة نباتية وحيوانية أو سمكية - وربما أيضا محاصيل للسوق المصرية أو الخارجية، حسب موارد المياه والتربة وتأهيل السكان- مع تنشيط اقتصاديات تستخدم بعض الموارد الطبيعية حولها كالتعدين والتحجير أو الرمال المشعة كخامة لصناعات الحرف اليدوية كالخزفيات والزجاج والسلع الجلدية والنباتية وهى صناعات متوسطة التقنيات كثيفة الأيدى العاملة. فضلا عن توليد الطاقة المتجددة الشمسية والرياح.
(5)
ويؤكد عالمنا الوطنى المبدع أن ما طرحه من تصور تنموى متكامل لابد أن يرتبط بمنظومة الخدمات العامة بأنواعها: مدرسة التعليم الأساسى، والتعليم المهنى المطلوب لنوع الخامات. وعيادة طبية وبيطرة تتحول إلى مستشفى مع زيادة السكان وأنشطة المستوطنة. ويسرى ذلك على كافة أنواع الخدمات المتخصصة كوسائل النقل والرياضة وثقافة المكتبة وصالة الفنون والمصارف. ويرتبط بكل ما سبق الحرص على تأمين بيئة جمالية معينة ينتج منها نمط من السياحة البيئية المحلية. أو أنشطة السواحل أو سياحة السفارى للمصريين فالأجانب.. ويحرص عالمنا على تقديم عدة نماذج خاضت تجارب تنموية من الماضى وراهنة لم تكن شاملة سواء فى مصر أو دول المنطقة النفطية فلم تكتب لها الاستدامة..
(6)
بالإضافة إلى ما سبق كان الدكتور محمد رياض حريصا على أن يرصد تاريخ التحولات التى طرأت على المسألة الزراعية وما آلت إليه. كذلك كل ما يتعلق بها من إشكاليات تقنية وسياسية واقتصادية. وذلك بالمعلومة والإحصائية والشكل التوضيحى والرأى.. نواصل مع محمد رياض..
إلا أنها حاضرة وبقوة ما يلزم متابعتها ورعايتها ورصدها وتسكينها فى الخريطة المعرفية. ومن ثم الاحتفاء بها والاستفادة منها وإثارة حوار وطنى حقيقى حولها بعيدا عن الجدالات التكنوقراطية البيروقراطية الضيقة.