منهج التاريخ: أمن قومى.. (5) تاريخ مصر: حاصل ضرب لا حاصل جمع

كنا أشرنا فى الأسبوع الماضى إلى كتاب: «تكوين مصر»؛ لمحمد شفيق غربال، باعتباره كتابا مرجعيا وملهما وحاكما عند وضع منهج تاريخ معتمد للمصريين...فى هذا المقال نلقى الضوء على كتاب: «وحدة تاريخ مصر»- 1972؛ للمفكر والمثقف الكبير الراحل محمد العزب موسى، ففى هذا الكتاب الذى يقع فى 250 صفحة يبحر الكاتب فى تاريخ مصر عبر العصور من خلال شعبها من عدة زوايا مختلفة: تاريخية، وثقافية، وأنثروبولوجية،

وفولكلورية. صحيح أنه يخصص قسما من الكتاب لتأكيد عدم وجود تعارض بين تاريخ مصر وسماتها الخاصة وبين انتمائها العربى قوميا وحضاريا أو بمعنى آخر «ليس ثمة تعارض ألبتة بين الوطنية المصرية والقومية العربية». إلا أن المؤلف وهو يجتهد فى بحث هذه النقطة يؤكد على أمرين أكثر شمولا هما: أولا: أهمية إدراك الاستمرارية الحضارية لمصر والمصريين. ثانيا: أن القول بالعروبة (أو وصف مصر بأى انتماء آخر) يستدعى بتر التاريخ المصرى. ذلك لأن من شأن الصراع بين هذين القولين إحداث بلبلة فكرية فى نظرة المصريين إلى التاريخ والقومية معا.

(2)

ومن البداية يعمل المؤلف جاهدا على إثبات أن هناك «خيطا يربط مراحل تاريخ الشعب المصرى». وينقد الفكرة الاستشراقية (النظرة الغربية لتاريخنا) التى ترى مراحل تاريخنا أشبه «بقوارير منفصلة لا رابط بينها ولا إطار يجمعها».. كما يعترض على الرؤية التقسيمية لتاريخنا التى سادت مع مطلع النهضة الحديثة لمصر. حيث سادت «ثلاثة اتجاهات قومية لم تستطع- للأسف- أن تتعايش فيما بينها بل كان كل منها يرفض أحد زميليه أو كليهما بشدة». ويقصد الاتجاهات: الإسلامية، والفرعونية، والعربية.. كيف؟

(3)

حيث تمحور الاتجاه الإسلامى حول العقيدة الدينية باعتبارها أساسا للتوجيه السياسى. كما تمسك الاتجاه الفرعونى باختلافه عن كل ما يجاوره من شعوب. ما حصر نشاط مصر فى إطار وحدة وادى النيل. وأخيرا الاتجاه العربى الذى ركز على أن مصر جزء لا يتجزأ من الوطن العربى ما يعنى أن تكون القومية العربية محورا للفكر والسياسة.. ويخلص محمد العزب موسى إلى أن هذه الاتجاهات كان لها تأثيرها الواضح فى النظرة إلى التاريخ المصرى، والذى كان سلبيا فى واقع الأمر.. لماذا؟

(4)

الذين ينادون بالاتجاه الإسلامى «ركزوا على تاريخ مصر الإسلامية وثقافتها وأغفلوا التاريخ الفرعونى باعتباره تاريخا وثنيا.. كما رفضوا القومية العربية باعتبارها نزعة شعبوية». والذين يتمسكون بالاتجاه الفرعونى «ركزوا على تاريخ مصر القديم وخصائصها الإقليمية وقللوا من أثر العروبة والإسلام معا».. والذين تحمسوا للاتجاه العروبى «تجاوزوا عن تاريخ مصر القديم وخصائصها الذاتية بدعوى أنهما يذكيان النزعة الإقليمية الانفصالية، ويقللون فى نفس الوقت من أهمية العامل الدينى باعتباره لا يصلح أساسا للقومية».. وفى محاولة لقراءة مغايرة لهذه القراءة المتوازية لتاريخ مصر. يطرح محمد العزب موسى تصورا مفاده: «أنه بالرغم من الاختلافات الظاهرة بين هذه الاتجاهات الثلاثة فإنها غير متناقضة أصلا فيما بينها، فهى ثلاثة أوجه لحقيقة مصر الواحدة»،...

(5)

وعليه فإن علينا عند كتابة التاريخ ألا نتعصب لأى من الإقليمية المحلية على أساس التميز التاريخى والعرقى للمصريين، والتعصب للمشاعر الدينية الذى يلغى التاريخ والقومية معا، والتعصب للفكرة العربية إذا أنكر الشخصية المصرية وجردها من سماتها التاريخية والحضارية الخاصة.

(6)

ويخلص محمد العزب موسى إلى أن «استمرارية الشعب المصرى ’’ديناميكية‘‘ وليست ’’استاتيكية‘‘، فليس صحيحا أن الإنسان المصرى لم يغير سوى ثيابه أو جلده الخارجى مع تغير العصور، بل إنه فى الحقيقة تطور فى أعماقه وأصبح حاصل «ضرب» لا حاصل «جمع» مختلف الحضارات التى عاشها وتمرس بها».

(7)

على هذه الأرضية يؤسس محمد العزب موسى «لوحدة تاريخ مصر»؛ التى لا تعنى إلغاء الخصوصية وإنما التفاعل الحى فى إطار مركب حضارى شكل حياة الناس على أرض الواقع. وهى الرؤية القادرة على توحيد المصريين فى الحاضر من أجل تقدمهم إلى المستقبل كجماعة وطنية واحدة لا جماعات أولية موازية. ذلك لأنها تشير إلى نضالهم بغض النظر عن التحولات الثقافية الذى مارسوه معا فى مواجهة الاستعمار والاستبداد والاستغلال.. بهذه الروحية تكتب مناهج التاريخ الموحدة على قاعدة المواطنة...

(8)

ونشير إلى مقولة بديعة وردت بالكتاب تقول: «ليس تذكر التاريخ حلما بعصر ذهبى مضى ولن يعود أو إغراقا فى أحلام يقظة لن تتحقق، أو دعوة إلى التفاخر والتكاسل فحواها أن ماضينا يغفر لنا أخطاء حاضرنا، وإنما هو تجديد للروح، وأخذ بالعبرة، وتسلح بالثقة لمواجهة الحاضر والمستقبل».. نواصل...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern