منهج التاريخ.. أمن قومى «3» بؤس منهج التاريخ

بدأنا منذ ثلاثة أسابيع سلسلة الحديث عن منهج التاريخ وأهميته القصوى، بل اعتباره مسألة «أمن قومى». فالوطن الذى ينسى تاريخه يتحول إلى: وطن «ضائع»؛ لا يستطيع أن يواجه الحاضر. ووطن «حائر»؛ لا يستطيع تشكيل اختياراته ومستقبله.. وفى مقالنا الثانى- أى قبل أسبوعين- كتبنا أن غربتنا عن تاريخنا، تفقدنا ذاكرتنا المشتركة: فى ماذا نجحنا، وفى ماذا أخفقنا، ولماذا، وكيف؟... ونتيجة الغربة عن التاريخ تؤدى إلى أن نغترب عن بعضنا.

فكل فئة نوعية سوف تعود إلى دائرة الانتماء الأولى، وتحاول اختراع تاريخ خاص- مفيش أحسن من كده- وينتج عن ذلك الصراع بين كل فئة نوعية باعتبارها الأفضل... وجانب من الصراعات المجتمعية الدائرة فى الواقع ترتكن إلى أن تاريخها «أميز» من الآخرين (وأظن أن أحداث التفجيرات التى جرت يوم «أحد السعف الدامى- والتى قطعنا فيها سلسلة مقالات منهج التاريخ الأسبوع الماضى- تصب فى هذا المقام. حيث تعطى جماعة لنفسها الحق فى تقديس تاريخها ما يرتب لقتل الآخرين).

(2)

إذن، التاريخ ليس ترفا وإنما ضرورة لأنه يلعب دورا موحدا، ويؤسس للعلاقة بين مكونات الجماعة الوطنية الواحدة على قاعدة المواطنة، انطلاقا من النضال المشترك... وأظن أن منهج التاريخ الراهن من البؤس الذى يحول دون تحقيق الذاكرة التاريخية المشتركة... لماذا؟

(3)

أولا: لأن ما يقدم فى مناهج التاريخ هو شذرات، مقتطعة من التاريخ. لا رابط بينها. ولا منهج يشرح الاختيارات ودلالاتها وأهميتها فى حياة المصريين. ولا منطق يفسر حركة التاريخ وما يترتب على الوقائع والأحداث من نتائج وتداعيات إيجابية أو سلبية، ومن قبل الأسباب. كذلك دور المصريين فى الدفع بعجلة التاريخ.

(4)

ثانيا: التعامل مع الحقب التاريخية باعتبارها أزمنة مغلقة على نفسها لا علاقة لها ببعض، فعندما نتحدث عن حقب ومراحل الدولة الفرعونيةـ مثلاـ لا نجد بصورة محددة تواريخ بداية كل حقبة ونهايتها، وبالتالى ما الفلسفة التى تحدد أن نقول على هذه الفترة الدولة القديمة، وعلى فترة أخرى الدولة الوسطى، وثالثة الدولة الحديثة. وهكذا، يجد الدارس نفسه ينتقل إلى حكم الإسكندر بسبب ضعف الدولة الحديثة التى لا نعرف لماذا ضعفت؟ وما دلالة أن يحضر الإسكندر إلى مصر؟... ويتم هندسة التاريخ باعتباره فصولا متعاقبة، مثل المسرحية الدرامية... الاختلاف أن فصول المسرحية بحسب قواعد الكتابة الدرامية لا بد لها أن تتواصل فيما بينها، بينما فصول التاريخ المصرى لا علاقة بينها وبين بعض... وفى هذا المقام، نبه إسماعيل صبرى عبدالله إلى خطورة: النظر لحلقات التاريخ وكأنها منبتة الصلة عن بعضها البعض، كذلك انتقد التقسيم الكلاسيكى لتاريخ مصر (مصر القديمة، مصر اليونانية/ الرومانية، مصر الإسلامية)، الذى يبدو كأن كل مرحلة منه منفصلة جذريا عن المرحلة التى سبقتها وعن التى لحقتها. وضرورة «اعتماد اسم العصر القبطى فى دراساتنا التاريخية» لأسباب كثيرة... فالتقسيم غربى بامتياز.

(5)

ثالثا: لأن تعليم التاريخ يركز على تاريخ «الحكام»، لا «المحكومين» أو تاريخ حركة المواطنين: المواطنة- أى تاريخ الملوك والأسر الحاكمة، لذا لا نجد أى ذكر تقريباـ وعلى الأخص حتى الدولة الحديثةـ للمواطنين المصريين ونضالاتهم فى مواجهة الحكام الوافدين/ المستعمرين والمستبدين... هكذا وكأن الحكام يحكمون «فضاءا» مجتمعيا لا يوجد فيه «ناس»...أو يوجد فيه ناس ولكنهم ينزعون إلى السكون، لا يتحركون قط فى مواجهة الاستعمار والاستبداد والاستغلال... بينما التاريخ الحقيقى والحى أو الأكثر حيوية هو الذى يعكس تاريخ نضالات المواطنين. خاصة أن تاريخ المصريين هو تاريخ دائم من الثورة والبحث عن الأفضل، منذ أول ثورة مارسها المصريون على الإقطاع فى العصر الفرعونى (فى أعقاب الأسرة السادسة أى حوالى عام 2280 ق.م.) إلى يومنا هذا. على غير ما هو سائد بإن المصريين خانعون... إلخ.

(6)

رابعا: يتعاطى منهج التاريخ مع الواقعة التاريخية باعتبارها «قدرا»، فالواقعة تحدث دون أدنى إشارة عن الظروف التى أدت لحدوث الواقعة، ومن ثم علينا أن نقبلها كما هى... وقطعا علينا أن نقبل النتائج المترتبة عليها، خاصة، إذا لم نكن نعرف ما أدى إليها.

(7)

هكذا يصبح منهج التاريخ ميتا. لا يثير أى دافع للاهتمام بوقائعه وأحداثه.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern