(1) شهدت مصر محمد على، منذ مطلع القرن التاسع عشر، حربا ضروسا ضد الدولة العثمانية لتأسيس مصر ’’المستقلة‘‘. وكان الحضور المصرى هو جوهر عملية الاستقلال الوطنى والأساس الذى قامت عليه الدولة الحديثة. لم يحدث هذا مرة واحدة، وإنما من خلال عملية نضالية بدأت كنتيجة للتفاعل بين محمد على صاحب مشروع الاستقلال والمصريين الذين كافحوا طويلا من أجل ’’اختراق حاجز السلطة‘‘- بحسب وليم سليمان قلادة- عبر العصور.
نعم كانت مصر تابعة للدولة العثمانية منذ 1517، إلا أن ثورات المصريين المستمرة، من جهة، والحكم السياسى الثلاثى المستويات جعل مصر بعيدة كثيرا عن المركزية العثمانية. فالعثمانيون، ولأسباب عديدة، قد فوضوا المماليك، والأوجاقات، بمتابعة حكم مصر لصالحهم. وقد تفنن هذا الحكم الثلاثى السافر والوافد على امتصاص ثروات المصريين دون تمييز، ففرضوا ضرائب وإتاوات قاسية متلاحقة على المصريين كما يلى: الجزية لغير المسلمين والخراج للمسلمين؛ ولم يمنع التماثل المذهبى بين الحكام العثمانيين والمحكومين المسلمين من فرض الخراج عليهم...
(2) وتفسر المعاناة المشتركة للمصريين من الحكم ثلاثى المستويات، لماذا أبدع المصريون فى «الفلفصة» من تشريعات الدولة العثمانية التى وجهت لعموم الدولة. ومن ضمن هذه القوانين «قانون الطوائف» الذى ميز التنظيم السياسى العثمانى فى كل المساحات التابعة له، إلا أن الواقع يقول بأن مصر وفيما يختص بموقع الأقباط فى هذه الصيغة، نجدهم قد قرروا أن يرفضوا الصيغة الطائفية بصورتها العثمانية. ومن ثم ’’تنمية المفهوم القومى للجامعة السياسية‘‘ بين المصريين. ويقول طارق البشرى فى كتابه العمدة «المسلمون والأقباط فى إطار الجماعة الوطنية»: «إن ثمة التزاما تاريخيا بين بداية تكوين الجامعة الوطنية المصرية فى العصر الحديث، وبين بناء الدولة الحديثة على عهد مجمد على»، على كل المستويات: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية...
(3) وعليه ساهم «مجموع السياسات العملية التى نفذها كل من محمد على، وسعيد، وإسماعيل، وإن اختلفت منطلقاتها وحيثياتها، فى خلق الظروف المادية والفكرية لإعمال مبدأ المساواة»، وهو ما لم يحدث فى الشام. لذا يمكن القول إن المحصلة النهائية لمجموع هذه السياسات قد أنجز ما يلى: أولا، «أعاد صياغة التركيب الطبقى للمجتمع». كما حقق ثانيا: حضورا سياسيا مشاركا للمصريين من خلال مجلس شورى النواب. وثالثا: تحضير الدولة والمجتمع إلى الانطلاق نضاليا من أجل تحقيق: الاستقلال الوطنى، وإقامة حكم ديمقراطى، واستكمال بناء الدولة الحديثة، (راجع دراستنا: «الأقباط من انتزاع المواطنة إلى اصطناع الأقلية واختراع الملة». فى لا عروبة من دون المسيحيين، مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية- بيروت، يناير 2011).. وعليه فإنه لا يجوز الحديث عن «طائفة أو طوائف»...
(4) وكان من ضمن العملية النضالية والاستقلالية ضد/ عن الدولة العثمانية: تصفية الإرث القانونى: الاسمى، والفعلى. ومن ضمن هذه القوانين: قانون الطوائف فى 9 يناير 1890. والذى اعتبر نقلة حداثية نحو تأسيس النقابات العمالية الحديثة من جهة، وممارسة المصريين للسياسة عبر المجال العام: السياسى والمدنى كونهم مصريين.. وينص دكريتو 1890 على ما يلى: «مباح لكل شخص قاطن بالديار المصرية». مصر: المجال العام لحركة المواطنين وليس ما هو أدنى.. ويعد هذا القانون ذروة نضالية لتطور علاقات الإنتاج فى مصر بين المصريين والدولة الحديثة.
(5) فى هذا السياق، ’’النضالى‘‘، تم إلغاء «الطوائفية» ومن ثم مرجعيتها القانونية. لذا استغربت الإصرار على ذكر تعبير الطائفة فى قانون بناء الكنائس. وتوهم أنه حررنا من الخط الهيمايونى الذى أثبتنا أنه مجرد خطاب روحى وأن ما حكم مصر فى هذا الشأن هو الشروط الإدارية للعزبى باشا التى صدرت فى ظل دستور اسماعيل صدقى الاستبدادى. وتم تقنينها- وهنا المفارقة- فى القانون الأخير.. كذلك استغرب الحديث عن قانون للأحوال الشخصية «للطوائف المسيحية» بدلا من الحديث عن قانون موحد للمصريين يتضمن قوانين فرعية لغير المسلمين... الخلاصة أن أى حديث يستعيد «الطوائفية»؛ إنما يعد نكوصا عن نضال المصريين، وارتدادا إلى ما قبل الدولة الحديثة. والسير فى مسار قانونى لا أظنه يعبر عن المسار الذى ارتضاه المصريون. وإنما يعد- وكأنه- إعادة تأسيس لسلطة الطوائف فى إطار عثمانية جديدة لفظها المصريون تاريخيا.. نواصل.