بعد أن مر قانون بناء الكنائس «مقنناً» لفكرة الطائفة فى الخريف الماضى. ناهيك عن «تقنين» شروط العزبى باشا التى صدرت مطلع الثلاثينيات من القرن الماضى فى ظل دستور إسماعيل باشا الاستبدادى الشهير، الذى جاء معطلاً لدستور 23. أرى فى الأفق مناقشات جديدة ينوه عنها الأخ المجتهد والدؤوب الأستاذ عماد خليل، الصحفى فى «المصرى اليوم» عن التحضير لقانون الأحوال الشخصية- مرة أخرى- «للطوائف المسيحية».. ويبدو لى أن هناك فريقاً لا يرى فى استخدام كل من مفهوم «الطائفة» أو «الطوائف» أى غضاضة، والأهم فى «تقنينهما». بالرغم من تناقض الاستخدام والتقنين مع التاريخ النضالى لمواطنى مصر على اختلافهم، من أجل الدولة الحديثة التى تقوم على المواطنة. ومع المسار الدستورى والقانونى المصرى. ومع العلم والمعرفة.
(2)
قد يقول قائل: «يعنى هى كلمة حتفرق؟».. واقع الحال الكلمة- أى كلمة- لها دلالة مفهومية ورمزية وعملية. فالطائفة بمنطق العلوم السياسية، والاجتماعية تعنى: «الجماعة النوعية المغلقة» (Sect). وقد قامت الدولة العثمانية بتقسيم قاطنيها طبقا للانتماءات الفرعية فعرفت «بدولة الطوائف». وهى دولة تمنح فيها الامتيازات لا الحقوق للطوائف أو الملل: الإثنية. وتتفاوت الامتيازات بحسب رغبة الحاكم. ومن المعروف أن من له حق المنح له حق المنع. وهو أمر يتناقض مع مفهوم الحقوق فى دولة المواطنة حيث الكل سواسية.
(3)
المفارقة أن مصر لم تعرف «نظام الملل». ويمكن مراجعة عزيز سوريال عطية فى المسيحية الشرقية. وأبوسيف يوسف فى الأقباط والقومية العربية. ومحمد عفيفى فى الأقباط والدولة العثمانية. وكاتب هذه السطور فى الحماية والعقاب. حيث وحدت المعاناة الاقتصادية بين المصريين فى مواجهة الحاكم العثمانى الوافد ووكيله المملوكى فى الحكم. وقد أدى سوء الإدارة العثمانية إلى ما يعرف بالامتيازات الأجنبية ما أصابها بالوهن والضعف مبكراً. وتحت ضغط الدول الغربية ولد ما أطلقت عليه «نظام الرعاية المذهبية». حيث ترعى كل دولة أوروبية مذهباً مسيحياً فى أنحاء الدولة العثمانية مترامية الأطراف. وهو ما لم يحدث فى مصر. والمصريون من المسيحيين ينخرطون فى الجسم الاجتماعى المصرى ما يحول دون حدوث ما حدث فى الشام وغيرها. وتحت الضغط الغربى أصدر السلطان العثمانى «الخط الهمايونى» سنة 1856. وهى «رسالة رعوية وليس فرمانا». وقد أثبتنا ذلك فى دراسة عن بناء الكنائس فى مصر. (نشرت فى مجلة اليسار منتصف التسعينيات، وجريدة الوفد 2008. وصدرت فى كتيب نشر منذ ثلاثة أعوام).
وقلنا إنه «لا يصح أن نعتبر الخط الهمايونى مرجعاً للحركة الوطنية المصرية.. لماذا؟».
(4)
بداية، أخذت مصر محمد على مساراً مختلفاً عن باقى دول المنطقة. فبالرغم من التبعية القانونية للدولة العثمانية، إلا أن محمد على بدأ يفك الارتباط نسبياً بينها وبين مصر. وبزغت المواطنة من أعلى. فقبل الخط الهمايونى أسس محمد على الجيش الوطنى المصرى. فدخله المصريون المسلمون أولاً ثم المسيحيون. كما ألغى سعيد الجزية فى 1854، كما بدأ تمليك المصريون الأرض. ثم جاء الخط الهمايونى فى سياق ضغوطات أوروبية على السلطان العثمانى. ويعنى الخط الهمايونى: «الخطاب أو التوجيه أو البيان الموجه من الباب العالى»، أى نص ليس له صفة التشريع الملزم.
(5)
وحوله، نرصد الملاحظات التالية: أولاً: الخط الهمايونى، مثله مثل أى خطاب يصدر عن رئيس دولة ليست له صفة التشريع الملزم، خلافا «للفرمان»، و«الديكريتو».. ثانياً: لم يصغ النص فى مواد كما هو الشأن فى التشريعات. وإنما كتب بصيغة يتغنى فيها صاحبه بعبارات التمجيد والتفخيم.. ثالثاً: بالرغم من أن جريدة الوقائع المصرية، الجريدة الرسمية المخصصة لنشر القوانين والتشريعات، كانت قد صدرت منذ سنة 1830، إلا أنه لم ينشر فيها هذا الخط، ومن ثم لا يكون قد اكتسب صفة التشريع الملزم. وهذا النشر لم يقم عليه دليل حتى الآن.. رابعاً: كانت مصر وقت صدور الخط الهمايونى تتمتع باستقلال تشريعى بحسب إجماع المؤرخين والقانونيين.. خامساً: كان هذا الخط موجهاً إلى الكتل المسيحية التى قبلت بنظام الملل فى الشام بالأساس.
(6)
وعليه، لا يمكن اعتبار «الخط الهمايونى» مرجعاً قانونياً بأى حال من الأحوال. لا على المستوى السياسى أو الدينى. كما حاول بعض البرلمانيين أن يروجوا للقانون الحالى بأنه حررنا من الخط الهمايونى.. نواصل.