«تجديد العمر»: قراءة فى رواية «البحث عن دينا»

«لم يكن هناك موعد لهبوط دينا علىّ. تهبط فجأة، وسواء أكنت جالسا على مقعد فى مقهى، أم مضطجعا على فراشى فى البيت، فهى تهبط دون أن تهاتفنى أو ترسل لى إشارة من أى نوع، ولا أملك الرفض، بل أنهض معها صاغرا وربما سعيدا أيضا».

(2)

الكلمات السابقة جاءت فى مفتتح رواية الأخ العزيز محمود الوردانى: «البحث عن دينا»، التى صدرت عن دار الكتب خان نهاية العام الماضى. عرفت بصدورها وبحثت عنها وسهرت عليها ليلة كاملة مستمتعا بنص رقيق وعميق. استطاع فيه الوردانى أن يرصد برشاقة أدبية ما جرى فى مصر خلال «سنوات الحراك». من خلال الأديب الستينى الذى جددت فيه دينا الروح والحيوية كاتبة له «عمرا جديدا». فلقد كانت هى التى تبحث عنه لتصحبه إلى الميدان فيفعل صاغرا.

(3)

كان ميدان التحرير والشوارع المحيطة به ـــ أى قلب العاصمة ـــ هو مسرح أحداث روايتنا. وهو نفس الميدان أو «الكعكة الحجرية»، بحسب أمل دنقل، الذى حصلت فيه أحداث مطلع السبعينيات. لذا لم يستطع الراوى أن يفلت من ربط الحدثين ببعضهما البعض ومد الماضى بالحاضر وكيف ظل الميدان حاضنا لحراك المواطنين ونضالاتهم كما جمع بين الزمنين: الماضى والحاضر، «دينا».

(4)

كانت دوما «دينا»، سواء التى قابلها أيام زمان: المناضل الشاب، أو التى تظهر له الآن: الراوى المشاهد، ليس مهما، «تبادر دائما، وتجره جرا للنزول إلى الميدان، بعد أن يكون قد فقد الأمل».. وهكذا تبحث عنه دينا، «تجدد عُمر» المشارك الشاب القديم مرة أخرى رغم تجاوزه الستين ليصير فى قلب الحدث. فلا يكتفى بأن يكون راويا وإنما مشارك فيما يحدث، مرة أخرى، من تطورات ميدانية.. وشاهد.

(5)

لقد كانت دينا أقرب إلى ربات مصر القديمة (أو ربات غيرها من الحضارات). مثل ايزيس ربة مصر التاريخية دائما، وماعت ربة العدالة،...، إلخ. فلقد كانت تظهر وتختفى، وتحضر فى شخصيات حقيقية. تحمل روح مصر الثورية لتجدد حيوية محبيها.. فكانوا يمتلئون من روحها وينطلقون فى كل مكان يحدوهم أمل تغيير «وضع بالغ البؤس» وكانت تنتظر عودتهم لتجدد حيوية من بقى حيا. وتحتضن الشهداء الملائكة من الشباب والشابات، الذين يطيرون فوق الجميع بأجنحة بيضاء. كان هناك ملاك يشبه الشاب مينا الذى كان صديقا لدينا.. كذلك الشيخ عماد عفت بعمامته الأزهرية الحمراء. حتى فى تذكر الراوى للعقود التى سبقت «الحراك»، لم يكن يسعه أن يذكرها دون أن يذكر كيف أن لحظة الحراك الراهنة بفضل دينا قد أطلقت حالة جديدة يصعب العودة عنها. فملاذ الكهول خلال العقود التى سبقت لحظة الحراك الممتدة لم يعد ممكنا التسلح به بعد أن أصبحت مادة الثورة ومن استشهدوا من أجلها معينا لإبداع هؤلاء الكهول.. وهو نفسه، الراوى، كانت دينا تمده بنماذج من مدونات الشباب ــ على الإيميل ـــ والتى اعتبرها الأديب المخضرم «من أفضال دينا عليه» حيث «عصف النص به وحرك لديه الكثير وجعله فى قلب المعركة وفى وسط الميدان». وهكذا كانت دينا ربة الثورة تشعلهم بروح الثورة وتعينهم فى نفس الوقت. بتقوية المتعبين، ومساندة المحتاجين، وطمأنة الخائفين، ورعاية المجروحين، وحماية المخنوقين بغاز القمع، وجمع بقايا أجساد قتلى الاستبداد (من المشرحات المختلفة) وحمايتها. وكيف لا تقوم بهذا العمل وهى حافظة للعهد «الإيزيسى» التليد. فمصر «البهية» لا تقوم لها قائمة إلا بنضالات أولادها ومحبيها.. وهؤلاء لا يمكن أن يكون لهم حضور إلا «ببهية».

(6)

ما وصل إليه الراوى، وأظنه حقيقة تاريخية، أن ما يربط بين دينا وبينه، ليس مجرد «عواطف من النوع الذى يمكن وصفه أو الحديث حوله». فرغم تأخرها فى المجىء، هكذا يظن الراوى، فإنها حاضرة/ باحثة عندما يقرر محبوها الحركة. وتظهر دوما عند اللزوم.. وتختفى طالما ركن محبوها إلى «الملاذات/ الملذات» ما يجعلنا نبحث عنها لأننا لا نرضى عما وصلنا إليه.

(7)

إلا أنه وقد وصل الراوى إلى الإحساس المتناقض بعدم القدرة على الصمود وفى نفس الوقت عدم القدرة على التراجع.. أثق بأن «دينا» سوف تعود تبحث عنا لاستكمال ما انطلق. تحية للأستاذ محمود الوردانى الأديب المبدع صاحب الروض العاطر ونوبة رجوع ورائحة البرتقال. فأنا ممن «تجدد عمرهم» بفضل حراك 25 يناير وما بعدها. نواصل...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern