حتى وقت قريب، كان الإنسان يعيش حياته الواقعية، من جهة، ومن جهة أخرى، يخوض تجربة غير مسبوقة فى التاريخ البشرى، من خلال الانطلاق فى العالم الافتراضى يطلع، ويتعارف، ويرى، ويرتحل، ويوظف الشبكة العنكبوتية- كيفما يريد وبضغطة زر- وهو قابع فى مكانه. إلا أنه، وتدريجيا، أصبح ما يُعرف بـ«الافتراضى» ينتقل إلى الواقع بهدوء.. وذلك عندما عمل البعض على توظيف التقدم فى التكنولوجيا الرقمية من أجل حياة أفضل للإنسان.. حياة أفضل تتسم بما يلى: أولاً: تقليل الجهد الذى على الإنسان أن يبذله. ثانياً: رفع أى نوع من الوصاية عليه. ثالثاً: خلق علاقات مباشرة بين الإنسان والخدمة التى يختارها وفق معايير معرفية منضبطة. ومن ثَمَّ امتناع الوسطاء يصير طبيعيا. رابعاً: دفع الإنسان إلى تجاوز كل ما هو تقليدى ونمطى.. كيف جرى ذلك؟ وما تداعياته؟.
(2)
إنها ثورة التحول الناعم إلى «الحياة الرقمية» واقعيا، حيث استثمر البعض عملية التواصل المتزايد بين المواطنين و«المركز الرقمى» فى أن يتحول هذا المركز لتقديم خدمات ونشاطات متنوعة للمواطنين على أرض الواقع، أى تتجاوز العلاقة «الأثيرية» (الافتراضية) إلى الحياة الاجتماعية، فمن خلال دراسة دقيقة للإشكاليات التى يواجهها المواطن فى حياته اليومية، أصبح يمكن تقديم الحلول الرقمية الناجعة.. ويتم ابتكار التطبيقات المتعددة التى تجعل من «الأحلام» حقيقة. حالة مشابهة لتلبية «ساحر الفانوس» رغبات مالكه، دون وسطاء.
(3)
فبنعومة، وبدون حفلات افتتاح أو قص شريط، أو وضع حجر أساس، أصبح المجتمع الإنسانى يستقبل يوميا مشروعات ومنشآت ومؤسسات تعتمد على التقدم فى تكنولوجيا الرقميات. لا يقتصر الأمر على مجال بعينه، بل أصبح يمتد إلى قطاعات متعددة: السياحة، والنقل، والتجارة بمعناها الواسع.. إلخ، حيث يتم التعامل مع المواطن مباشرة- أيا كان مكانه- من خلال التطبيق الذى تم تصميمه لراحة المواطن.. فى هذا الإطار، انطلقت عشرات المشروعات العملاقة دون مبانٍ أو حجر. مشروعات عابرة للحدود تمثل منافِسا حقيقيا لكل ما هو تقليدى. من هذه المشروعات نشير إلى: «مشروع أوبر»، الذى يُعد مثلا عمليا معبرا عن التحول الناعم- الثورى- الذى طرأ على الإنسانية.. ففى 2010، قامت مجموعة من الشباب بدراسة إشكاليات النقل فى الولايات المتحدة الأمريكية. ومن خلال المعلومات والخرائط وبرأسمال: «صفر». أبدعوا فكرة تقوم على ابتكار تطبيق «App»، يقوم المواطن بالاتصال بالمركز الرقمى، طالبا حضور تاكسى حيثما يكون. ويقوم المركز من خلال الربط بالخرائط (عبر جوجل) من جهة، والربط بمواقع انتشار «التاكسيات» على الخريطة، والذى يتم وفق دراسة دقيقة، من جهة أخرى، باختيار «التاكسى» المناسب من حيث سرعة تلبية الطلب وتخفيض التكلفة بأقصى حد ممكن. وبعد ستة أعوام من انطلاق هذا المشروع فى أمريكا، أصبحنا نجده فى جميع القارات، وبقيمة معاملات تُقدر بـ70 مليار دولار.
(4)
حول هذا الموضوع انشغل العقل الإنسانى خلال 2016، حيث صدرت مجموعة من الأعمال المهمة، لعل من أهمها كتاب «Platform Revolution»، الذى تَشارك فى وضعه ثلاثة مؤلفين من أهم العقول فى مجالات المعلوماتيات وهندسة الاتصالات والتفكير المبدع، ففى هذا العمل يلقون الضوء على التحولات الناعمة، التى يُحدثها توظيف تكنولوجيا المعلومات فى واقع الناس، من خلال أفكار بسيطة تلبى احتياجات المواطنين ومن خلال الشراكة معهم، فالتاكسيات الأوبر يملكها أفراد يوظفون سياراتهم لصالح المركز الرقمى، الذى ينسق بين طالب الخدمة ومقدميها، الذين لا يمكن عدُّهم موظفين، وإنما طرف فى العملية، التى تتم عبر المجال الرقمى وتُنفذ فعليا على أرض الواقع بتكلفة أقل من تكلفة النقل العادى التقليدى. وتُعد هذه العملية «عملية تثوير» كاملة للاقتصاد الراهن بكل عناصره: الإدارية، والتنظيمية، والاجتماعية، والسياسية، فالطلب والتنفيذ لا يتمان عبر إدارة هرمية أو طلبات ورقية تُقدم، ويتم «التأشير» عليها بالموافقة والرفض. وأصلا لا يوجد مكان أو مبنى لتدوير العملية. وإنما عبر حركة رقمية وخرائط وتحرك منطقى من أقرب وحدة.
(5)
ويقينا، ومع مرور الوقت، وانتشار هذه العمليات على نطاق أوسع مثل التعليم والصحة والخدمات النوعية المختلفة.. سوف يحدث تحول كامل لحياة الإنسان.. نواصل..