أهم أفكار 2016 (2) دولة الرفاه الإنسانية: المواطنة للجميع

كما تعودنا فى نهاية كل عام، نجمع بعضا من حصاد ما يمكن أن نصفه بـ«الحيوية الذهنية» لعقل يتسم «بديمومة إبداعية»، تقوم على ما أطلقنا عليه فى مقدمة هذه السلسلة: ’’فضيلة المراجعة الدائمة‘‘؛ (بدأنا هذه السلسلة فى الأسبوع قبل الماضى 7/12/2016، وقطعناها بمقال عن حادث البطرسية 14 /12/ 2016). وذلك من خلال اختيار عدد من الكتب التى نتصور أنها تمثل إضافة للعقل الإنسانى فى عدة مجالات. فى هذا السياق، نبدأ بكتاب صغير الحجم كبير القيمة عنوانه: «هل دولة الرفاه قادرة على الاستمرار؟»- 2016؛ لمؤلفه: أندرو جامبل، أستاذ السياسات فى جامعتى كمبريدج وشيفلد. ويتناول الكتاب الإشكالية المزدوجة التى يواجهها الغرب المتقدم والتى تتمثل فى أزمة اقتصادية حادة منذ 2008 لم يبرأ منها بعد، من جهة. واللامساواة المتنامية فى شتى المجالات من جهة أخرى.

(2)

بداية، ينفى المؤلف الاتهام الذى يروجه الأثرياء بأن تطبيق سياسات الرفاه هى المتسببة فى حدوث الأزمة الاقتصادية العالمية بسبب الصرف المفرط على المواطنين لتحقيق المساواة بين الجميع. ويؤكد من خلال تحليل مركز أن الأخذ بالسياسات الاقتصادية لليبرالية الجديدة هو الفاعل الرئيس فى الأزمة. وأن سياسات التقشف التى ترتبت عليها سوف تفاقم من الاختلالات واتساع الفجوة بين المواطنين: القلة الثرية والأغلبية. أو ما يعرف «بربط الأحزمة». وتعتمد سياسات التقشف على تطبيق تخفيضات كبيرة فى الموازنات لمعالجة الديون الحكومية المتنامية والهدر فى الصرف، إلا أن هذه السياسات وفق الكثير من الدراسات لم تنجح، ذلك لأن السبب الحقيقى فى الأزمة المالية لا يرجع «للرفاه» بقدر ما يرجع لتصدى الحكومات لتمويل إنقاذ مؤسسات مالية متعثرة. وتحول ديون القطاع الخاص إلى ديون للقطاع الحكومى وبالتالى ديون على دافعى الضرائب من الطبقة الوسطى وما دون. هذا لا يعنى عدم هدر الضبط. إلا أن الربط القسرى والمتعسف بين ضبط الهدر ووقف سياسات الرفاه من جانب، ودعم تعثر الأثرياء من المضاربين والمستثمرين والماليين من جانب آخر هو الأمر الذى لم يعد مقبولا، لأن نتيجته هى «اللامساواة» التامة. والإخلال بمبدأ المواطنة الذى هو جوهر «الرفاه» فى تأمين المساواة بين من يملك ومن لا يملك، أى أن هناك بعدا جوهريا يتعلق بتحقيق العدالة، وتأمين الفرص المتساوية بين المواطنين.

(3)

إن دولة الرفاه الجديدة التى يجب تأسيسها، ليست أمرا يتعلق بالاقتصاد السياسى، إنما هو أمر يتجاوز الاقتصاد السياسى إلى التنمية بمعناها الشامل: الاقتصادى، والقيمى، والثقافى، والاجتماعى، والسياسى، والتاريخى. وينبغى رؤية الأمر من المنظور التنموى خاصة بعد الأزمة الاقتصادية الأخطر فى التاريخ. فأى معالجة لتداعيات الأزمة، لابد أن تتجاوز المفهوم الرأسمالى التاريخى المحض بالفصل بين إعادة التوزيع فى الدخل من أجل تحقيق العدالة، خاصة للفقراء وبين الاستثمار. ويشير المؤلف إلى أن «شبكة الأمان» الاجتماعى التى باتت البديل لدولة الرفاه لن تستطيع أن تحقق المساواة، ذلك لأن هناك تباينا كبيرا بين المفهومين. فالأول (شبكة الأمان) مجرد أداة علاجية لتداعيات الأخذ باقتصاد السوق حيث لن يعود المواطن مواطنا وإنما مجرد «شىء» تتم رعايته بالمعونة والإعانة. بينما الثانية (دولة الرفاه) تحمل جوهرا «تمكينيا» للمواطن، وأن له حقوقا اجتماعية لابد من تأمينها.. فما «دولة الرفاه الإنسانية ’’التنموية‘‘ الجديدة، إلا مشروع ممتد لمد حقوق المواطنة للجميع»...

(4)

فى نهاية أطروحته، يقول المؤلف: «إن المعوقات كبيرة ولكن الجائزة كبيرة أيضا».. شريطة توفر نظام ديمقراطى شفاف، وإرادة سياسية حقيقية تنحاز لجميع المواطنين وليس قلة منهم، وتحالفات سياسية تمثل فيها كل ألوان الطيف السياسى. تعتمد فلسفة اقتصادية جديدة تقوم على التنمية المستدامة للجميع توازن بين الحرية والعدالة. وفق منظومة قيمية تتضمن: الإنصاف، والتوازن بين الحقوق والواجبات، والمساواة، وتأمين كل الاستحقاقات لكل المواطنين دون تمييز. فى هذا الإطار يطرح المؤلف استراتيجية تفصيلية لتحقيق دولة الرفاه فى ثوبها الإنسانى ’’التنموى‘‘ (إن جاز التعبير) الجديد.

(5)

حظيت أفكار الكتاب الذى نشر فى سلسلة “Global Futures”؛ بنقاشات موسعة وخاصة فى «الأكاديميا» البريطانية. وخرج منها العديد من الأفكار التفصيلية لمواجهة ما بات يعرف «بالأخطار المجتمعية الجديدة» “New Social Risks”؛...نواصل...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern