مدخل

 

       لا يخفى على أي باحث أو مراقب لما يدور في الواقع العربي المعاصر، أن أحد أهم الملامح الأساسية التي يتسم بها هذا الواقع هو الصعود البارز للإشكاليات الخاصة بالأقليات القومية والدينية بتقاطعاتها المختلفة:المذهبية واللغوية والعرقية.بحيث باتت هذه الإشكاليات مصدرا للتوتر وللقلاقل واستباحة استخدام العنف

،الأمر الذي يمثل إعاقة حقيقية وجدية لتقدم المنطقة. فالارتداد إلى الأشكال الأولية للتنظيم من جهة،والتوحد بدوائر الانتماء الفرعية من جهة أخرى إنما يمثل "ترنحا للأسس القومية للدولة وتفككا للدول الاتحادية".[1] وإذا كان هناك من يؤكد على أن الحركات الأقلوية باتت تتكاثر في كل مكان بشكل غير مسبوق،وبات الانفجار يخيم على العديد من الدول،فإن نصيب المنطقة من هذه الحركات جعلها في مقدمة المناطق القابلة للتشظي والانفجار. فعلى الرغم من أن صيغة الدولة ـ الأمة هي الصيغة التي سادت في أوروبا بموجب شرعية وستفاليا(1648)،فان هذا لم يمنع من أن تقبل الصيغة الأوروبية تفكك الكيانات المتعددة القوميات مثل الاتحاد السوفيتي،ويوغوسلافيا،وتشيكوسلوفاكيا..،لكن [2]كانت هناك قدرة ذاتية على إعادة اندماج الدول الوليدة في إتحادات قارية وإقليمية:إقتصادية وجمركية وسياسية وثقافية. وهنا تكمن الإشكالية المزدوجة الطابع هو عدم قدرة الدولة الوطنية أو دولة ما بعد الاستقلال في منطقتنا على بناء جماعة سياسية حاضنة للتنوع على قاعدة المواطنة من جانب، وتوفير المناعة المطلوبة لرفع قدرتها الدفاعية للحفاظ على هذه الجماعة بتنوعها في إطار الوحدة من جانب آخر. ويصبح السؤال لماذا وصلنا إلى هذا الحد..وماذا عن المستقبل؟

 

       في ضوء هذين السؤالين حاولت أن أختار المقاربة المناسبة التي تعين في فهم مسألة الأقليات،وبلورة رؤية مستقبلية حولها،وقمت بقراءة كثير من المعالجات التي تناولت هذا الموضوع،"فمعالجة موضوع معقد كموضوع الأقليات في الفكرين القومي والإسلامي تتدخل وتتداخل مقاربات من وجوه وزوايا عديدة"[3].

    ففي ظني أنه ليس من المفيد في اللحظة الراهنة استعراض الرؤى المختلفة حول الدولة الوطنية بما تضم من جماعات، حيث الرؤية القومية لها موقفها من التقسيم والتجزئة الاستعمارية، والرؤية الإسلامية التي تقول بأنه حدث انقطاع عن دولة الخلافة…وهكذا.  

   بيد أن ما حسم أمري فيما يتعلق باختيار المقاربة المناسبة،هو أنه وقت بدء كتابة الورقة، أقر مجلس الشيوخ الأمريكي بأغلبية 75عضوا(من أصل 100) مشروع قرار – غير ملزم للإدارة الأمريكية - تقدم به السيناتور الديمقراطي جوزيف بايدن ينص على:تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات/كيانات /أقاليم فيدرالية،شيعية وسنية وكردية،على أن تبقى بغداد عاصمة فيدرالية تتولى إدارة الأمور الأمنية والثروة". وبعد ذلك بأيام تناقلت وكالات الأنباء خبرا عن اشتداد الأزمة في السودان بين الشمال والجنوب بسبب النفط ،و تزايد علو الصوت الأقلوي الديني والقومي هنا وهناك.وبدا لي المشهد العربي المعاصر ينزع  نحو التفتت والتجزئة، وهو أحد المشاهد الثلاثة(المشهدان الآخران:مشهد التنسيق والتعاون،ومشهد الوحدة) التي تم  توقعها لمستقبل المجتمع والدولة القطرية في الوطن العربي[4]،منذ ما

 

يقرب من عشرين سنة. وعليه رأيت أنه ليس من المفيد الحديث عن الواقع العربي بأريحية تحليلية كما لو كانت هناك خيارات متاحة لدينا يمكن أن نختار فيما بينها، وإنما المفيد هو استعادة الأسباب التي أدت إلى ما نحن فيه من جهة،وإلقاء الضوء على المستجدات الداعمة للمزيد من التفكيك،في ضوء ما طرأ على المسرح العالمي من تحولات راديكالية ساهمت بشكل مباشر فيما نحن فيه،وضرورة التمييز بين طبيعة ونوعية اللاعبين على هذا المسرح،وأنهم يختلفون جذريا عن لاعبي الماضي،وإن تشابهت أهدافهم،وأن الاختلاف واسع بين سياق التفاعلات بين اللاعبين كما عرفته المنطقة في الماضي وبين نظيره  المعاصر،على أن تكون هذه المقاربة من منظور المواطنة.

 

(أ) أسباب النزوع نحو التجزئة

 

         تشير الدراسة الاستشرافية[1] التي أشرنا إليها إلى أن هناك جملة تحديات تواجه الدولة العربية،وان النجاح في مواجهتها هو الكفيل بألا تسقط في أسر التجزئة والتفتيت،من هذه التحديات ما يلي:

(أ) التحديات الخارجية:

  • التحديات الاقتصادية:
    • اختلال شروط التبادل التجاري بين الأقطار العربية والعالم الخارجي،
    • زيادة المديونية،
    • تضاؤل أرصدة البلدان النفطية، أو المصدرة لمواد خام أخرى،
  • تحديات جيوـ سياسية:
    • المزيد من الهيمنة الأجنبية من خلال أشكال ثلاثة:

            * التبعية الاقتصادية السافرة،

            * الابتزاز،

                          * استخدام القوة السافرة.

3. التحديات التكنولوجية ـ الاتصالية ـ الثقافية:

  • تحلل الثقافة العربية في غيبة مشروع قومي حضاري،
  • إضعاف الهوية والانتماء،
  • نمو عادات وأنماط استهلاكية تكرس التبعية للخارج.

    4. التحديات البشرية ـ الثقافية:

  • الخلل السكاني بين السكان الأصليين والهجرات الوافدة وما يترتب عليها من تهديد للعروبة، ووجود كتل سكانية غير مندمجة،
  • تنامي المطالبة بالحقوق من قبل الوافدين .

(ب) التحديات الداخلية:

     1. التحدي السكاني والحضري:

  • زيادة سكانية لا تقابلها قدرة على توفير الحاجات الأساسية من غذاء وسكن وتعليم وصحة،
  • التكدس الحضري قوامه بروليتاريا هلامية قلقة وقابلة للاستغلال والاشتعال.

    2. التحدي الإثني ـ الأقلوي:

  • التلكؤ في الاستجابة أو التعاطف مع مطالب الأقليات من توفر قسط عادل من الثروة والسلطة وحقوق المواطنة المتساوية .

    3. تحدي الصراعات الطبقية:

    4. التحدي الديني:

  • وقوع صراعات متعددة بين الجماعات المتطرفة،بعضها مع الدولة،وبعضها مع أبناء الأديان والطوائف الأخرى،وبعضها مع التيارات العلمانية.

(ج)  تحدي غياب المشاركة السياسية.

  

       في ضوء ما سبق ترصد الدراسة عددا من المظاهر ستتعرض لها الدولة عندما تعجز في مواجهة التحديات السالفة الذكر وذلك كما يلي:

  • هروب رؤوس الأموال والكفاءات البشرية العالية.
  • تفاقم الفساد وانهيار نسق القيم.
  • انهيار القانون والنظام العام وهيبة الدولة.
  • الصراعات الأهلية الممتدة.
  • نمو الثقافات الفرعية والأيديولوجيات التفتيتية.
  • زيادة التدخل الخارجي السافر.

 

       وعليه ترصد الدراسة أربعة مظاهر محتملة للتفتيت كما يلي:

    * التفتت الواقعي.                       * التفتت القانوني.

     * الانقسام والانضمام والإلحاق.         * تآكل الهوية الوطنية العربية.

 

        وبعد يبدو لي أن المشهد العربي الحالي الذي ينزع فيه اللاعبون المختلفون إلى التجزئة والتفتت،يؤكد الفشل في الاستجابة للتحديات التي رصدتها الدراسة الاستشرافية،ومن ثم حدوث التفتت بمظاهره الأربعة على أرض الواقع. بيد أن هذا التفتت أيا كان نوعه فان تداعياته لا تصيب الأقلية من دون الأغلبية،ذلك أن التفتت في واقع الأمر يعني أن هناك مشكلة اجتماعية،"لا تمس كيان وسلوك الجماعات الأقلية ولكنها تمس أولا الأغلبية.أي باختصار  تتحول الجماعة القومية الكبرى الأغلبية إلى طائفة وتنحو إلى السلوك كطائفة بعد أن كانت تسلك تجاه ذاتها وأعضائها وتجاه الجماعات الأخرى كأمة،أو كأساس للأمة.عندئذ يعم النظام الطائفي القائم على الغش المتبادل في السياسة وفي الدين والذي يخفي كما قلنا عدم ثقة متبادلة وحربا كامنة تجنح إلى الاندلاع"[2] .وهنا تتحمل الدولة المسؤولية في عدم قدرتها على إدارة التنوع،وابتكار سياسات وآليات دمج للأقليات،ذلك بسبب السلطة المطلقة والمركزية الشديدة أو ما أسماه نزيه نصيف الأيوبي"المركزية الوظيفية وتركيز السلطة"[3]. لقد فشلت الدولة الوطنية وبخاصة دولة ما بعد الاستقلال في "تطوير الوسائل الفاعلة لاستيعاب الأقليات القومية والدينية"[4]،والنتيجة النهائية هي ما نشهده في مواضع كثيرة من تزايد الاختلافات بين أعضاء مجموعة قومية وأخرى،كذلك بين أعضاء مجموعة دينية وأخرى،وبين أعضاء المجموعات القومية والدينية، مما يؤدي إلى"ارتفاع دعاوى الانفصال في بعض الحالات أو العزلة في البعض الآخر Secession،ما يعني تنامي غياب الاستقرار السياسي واحتمالية استخدام العنف،وإذا لم يحدث الانفصال وبقي الوضع على ما هو عليه فان هذا سيدفع نحو تبلور علاقة قائمة على الابتزاز والشك والخوف"[5] . هذا هو الوضع بعد سنوات من إنجاز الدراسة الاستشرافية،بيد أن هناك ما يمكن إضافته على الأسباب التي ذكرت وأدت للمشهد العربي الراهن،يمكن أن نوجزه في عنوان كبير هو مسرح دولي جديد..ولاعبون جدد.

(ب)إشكالية الدولة الوطنية/الداخل "البوليس" (Polis) والإمبراطورية/الخارج "الكوزموس"(Cosmos)[1]

 

       يمكن القول أنه حدث تحول جذري مع مطلع التسعينيات من القرن الماضي، كان له عظيم الأثر في تدويل مسألة الأقليات،بفهم وآليات مختلفة عن التي تم بها التدويل وقت الإمبراطورية العثمانية. وقد ساهم في عملية التدويل الإخفاق الداخلي في التعاطي مع هذه المسألة. هذا التحول الجذري هو في الواقع نتاج لعملية مركبة جدلية الطابع بين الداخل والخارج، من جهة "خارج"، أو منظومة دولية، تتغير جذريا من حيث المفاهيم الحاكمة لتصوراتها وسلوكها وممارساتها ومن ثم الآليات الجديدة التي باتت تستخدمها لتحقيق أهدافها. ومن جهة أخرى "داخل "متعثر في مواجهة العديد من التحديات منها مسألة الأقليات،ومتأخر في إدراك جديد الخارج. فبفعل العولمة،ونتيجة لواقعة 11/9حدث "انقلاب للعالم "ـ بحسب تعبير برتران بادي وماري كلودسموتس ـ [2]،باتت فيه المنظومة الدولية سوقا تدير الشركات فيه كل شيء،وتغيب الشرعية الدولية لصالح القوى الكبرى حيث تنتهك السيادة الوطنية للدول،وتتشكل روابط عابرة للحدود بين الخارج وعناصر من الداخل حيث تتبدل الولاءات من الداخل إلى الخارج.وقبل الدخول في تفاصيل هذه التحولات،ربما يكون من المفيد إلقاء الضوء على مفهوم العولمة وما نتج عنها خاصة فيما يتعلق بجدلية الداخل والخارج. إلى  الشرعية

   

             بداية تعني ظاهرة العولمة بحسب واترز Waters، أنها "العملية الاجتماعية التي تتراجع أمامها عوائق الجغرافيا أو أية ترتيبات سياسية أو اجتماعية وبحيث يدرك معها الناس أنفسهم أنهم يتراجعون أمام هذه العملية، وذلك بفعل ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات والمعاملات المالية التي تديرها الشركات عابرة القوميات والمتعددة الجنسيات والتي باتت أكثر قوة من الدول والمؤسسات السياسية الدولية،وفي ظل ذلك، تطورت ثقافة عولمية يتفاعل معها الناس من كل صوب واتجاه، بغض النظر عن انتماءاتهم القومية، الأمر الذي جعلهم يضعون اختياراتهم الفردية قبل هوياتهم ، ولما لا وقد يصبحون أغنياء في السوق العالمية، حيث ثقافة السوق تشكل منظومة قيمهم، بعيداً عن مهام عضويتهم في الجماعة الوطنية التي ينتمون إليها"[3].

      وعلى الرغم من بعض المظاهر الإيجابية للعولمة من حيث التواصل الكوني بين الشعوب،وتداول جديد التكنولوجيا،بيد أن الأيديولوجية التي تتبناها، بحسب إسماعيل صبري عبد الله،وتقوم ببثها في كل أنحاء المعمورة،هي"أيديولوجيا السوق"،وغلبة النشاط المالي التي زادت من الفجوة بين الأغنياء والفقراء،الأمر الذي ولد أشكال من المناهضة متعددة جمع بينها أن الإطار الجامع لهذه الأشكال هو المجتمع المدني الذي بات عابرا للحدود أو معولم أيضا.[4]

       فمع زيادة تأثيرات العولمة الرأسمالية على العديد من المجموعات والفئات النوعية، تعددت الحركات الاجتماعية في إطار المجتمع المدني للعديد من الدول،وعليه تشكل،بحسب نبيل عبد الفتاح،ما يمكن أن يعرف "بالمجتمع المدني المعولم"[5] من خلال شبكات عابرة للقوميات والدول،تقوم بمناهضة العولمة ذات" الطابع الرأسمالي الوحشي الذي يتسم بالداروينية الاجتماعية"[6]،حيث البقاء يكون فيه للأقوى.قوام هذا المجتمع المدني المعولم "مئات من المنظمات الأهلية والغير حكومية من كافة أنحاء العالم رافضة العولمة من أعلى،والسياسات النيوليبرالية"[7].

 

       لقد باتت الساحة التي تجرى فيها التفاعلات الكوكبية الأساسية متجاوزة الحدود القومية للدول،الأمر الذي أثر على مفهوم السيادة الوطنية وأثار الجدل حول مفاهيم أساسية مثل الوطنية والهوية ورابطة المواطنة،وفتح باب النقاش حول إشكالية الداخل والخارج،خاصة مع التداخل بين إمكانية التواصل بين حركات الاحتجاج في الداخل مع مثيلاتها في الخارج لمواجهة الآثار السلبية للعولمة من قبل المؤسسات المالية الكونية والشركات المتعددة الجنسيات والقوميات من جهة،والاستفادة من موجة الحقوق المدنية لمقاومة استبداد الأنظمة في الداخل من جهة أخرى.وفي نفس الوقت صعود موجة مواجهة ما من شأنه تهديد السيادة الوطنية للدولة القومية بمعناها الكلاسيكي،والتي تجد عليها واجب حماية انجازها التاريخي في تأسيس مؤسسات دستورية وتقاليد سياسية،وتراكم رأسمال وطني،ووحدة الجماعة السياسية..الخ.            وهكذا تتقاطع آثار كل من العولمة والحركات المدنية،وتتدرج النتائج المترتبة عليها على حسب قوة أو هشاشة الدولة الوطنية والتي يمكن قياسها بمدى ما انخرطت في الحداثة وتجاوزتها إلى ما بعدها أو لم تزل تعش ما قبل الحداثة، ومن ثم القدرة على ممارسة السيادة في مواجهة الخارج،وتعبير المواطن عن مواطنته في الداخل.ونتيجة للعلاقة المتشابكة بين الداخل والخارج رصد لنا،أحد الباحثين، ما أسماه جدلية"البوليس (Polis) و "الكوزموس" (Cosmos)، أو ما أطلق عليه جدلية الدولة الوطنية (الداخل) والإمبراطورية فما المقصود بهذه الأطروحة؟

 

يطرح "زولو" (Zolo)[8]، أطروحته حول تأثير العولمة والحركات المدنية العالمية على الدولة الوطنية بما تضم من مواطنين من خلال ما أطلق عليه جدلية إلPolis والـCosmos، أو بلغة أخرى فإنه إذا كانت الدولة الوطنية Polis هي التعبير عن المرحلة القومية، فإن الكون Cosmos بقيمه المعولمة في ظل الإمبراطورية الأمريكية قد صار هو التعبير عن مرحلة ما بعد القومية Post-nationalism. وعلى الرغم من أن جان جاك روسو قد اعتبر"الكوزموبوليتانية" – تاريخيا- أمراً لا محتوى له، حيث أن "الكيان الإنساني يتطور من خلال علاقة حميمة بثقافة ما، وقد تكون هذه العلاقة انتقاداً، بل وتمرداً على هذه الثقافة"[9].ولكن مع العولمة أصبح التمرد على التجانس والوحدة قانوناً من قوانين الطبيعة. بالطبع هناك من يحاول التأليف بين الأمرين الـ Polis و الـCosmos، كذلك هناك من يدعو إلى قبول ما يسمى بالديمقراطية الكوزموبوليتانية وبالتالي تكون المواطن الكوزموبوليتاني Cosmopolitan Citizen،مثل جيدنز في كتابه الطريق الثالث[10] The Third Way،على الرغم من أن جيدنز من أوائل الذين لفتوا الأنظار منذ وقت مبكر لتداعيات الحداثة[11]، لكن يبدو أن الكتابة متى اقتربت من السياسية المباشرة مثل "الطريق الثالث" لا بد وأن تبرر المستجدات والتي في هذه الحالة العولمة وآثارها.

    

       في ضوء ما سبق،يمكن القول أن "انقلاب العالم"،كان له دوره في التأثير على انفجار مسالة الأقليات من جهة،وإعاقة تبلور رابط المواطنية من جهة أخرى،ساهم في ذلك السيادة الوطنية خائرة القوة،وتمثل ذلك من خلال ثلاثة "تجليات " نجملها كما يلي:

   أولا:    من الامتيازات إلى العقود.

   ثانيا:    الإمبراطورية: دول/ أسواق ومواطنون مستهلكون /مقاولون.

   ثالثا:  الدولة المنهارة: روابط عابرة للحدود وتحلل القومي

 

أولا: من الامتيازات إلى العقود :

 

       لتفسير ما نقصده بآلية "العقود" التي يتم استخدامها مع الأقليات النوعية الآن والتي تؤدي إلى التفكيك،سوف ألقي الضوء أولا على آلية الامتيازات*(باعتبارها أول مرحلة من مراحل التجزئة الرأسية –راجع جدول رقم (1)، حيث نعرض مراحل التجزئة الرأسية الست) التي أستخدمت وقت الإمبراطورية العثمانية،لإدراك الفرق.

     عرف العالم الدولة القومية[12] في ضوء ما يمكن تسميته شرعية وستفاليا Westphalia System (1648)،حيث تم إقرار الآتي:

  • مبدأ السيادة، حيث يتم الاعتراف بسلطة الدولة الوحيدة والمطلقة داخل حدودها. فالسيادة الإقليمية أصبحت أساسا للنظام الجديد واعترافا بالشخصية الدولية لعدد كبير من الأمم.وواكب ذلك نشوء مفهوم السيادة الوطنية للدولة واحترام السيادة الوطنية للدول الأخرى داخل النظام الإقليمي.
  • مبدأ المساواة،حيث أكدت المعاهدة على المساواة القانونية بين جميع الدول المستقلة التي تتمتع بالسيادة دون النظر إلى عدد السكان أو مساحة الدولة أو ثرواتها أو تنوعها المذهبي أو الإثني.

 

       وهكذا تجاوزت أوروبا "حالة الطبيعة"،بحسب هوبز،حيث" الإنسان يعيش في حالة أولية سابقة على ظهور المجتمع،وهي حالة من الفطرة من حيث الدوافع والمواقف وردود الفعل ،فالإنسان ذئب لأخيه الإنسان.وعليه فانه لا توجد بالتالي معايير وضوابط،أو بلغة أخرى قوانين،كما لا توجد ملكية بل يكون لكل واحد ما يستطيع أن يأخذ فقط،إلى حالة التوافق حول المصلحة المشتركة حيث أن حماية المصالح الجزئية لا يكون إلا في إطار المصلحة العامة.ورغم أن هذا الاتفاق يبلور شكل من أشكال الاتحاد بين الأفراد/القوى،إلا أن هذا لا يغطي على حرية كل فرد/ قوة، والحصيلة هو تشكل المجتمع السياسي/الجماعة السياسية التي تتكون من سلطة /دولة وأفراد يناضلون من أجل أن يكونوا مواطنين"[13].

       في نفس اللحظة التاريخية التي كانت تتوسع فيها الإمبراطورية العثمانية وأصبح نطاقها الجيو – سياسي ممتدا من "الدانوب حتى الخليج الفارسي ومن أراضي الاستبس في أوكرانيا إلى الشلال في جنوب مصر"[14]،وضمت من ما ضمت قدرا هائلا من التنوع العرقي والمذهبي واللغوي،إلا أن هذا التوسع

لم يواكبه إنجاز داخلي مماثل يكون قادرا على الحفاظ على ما تم انجازه عسكريا وسياسيا واقتصاديا،الأمر الذي خلق أمام الدولة العثمانية ثلاثة تحديات[1] كما يلي:

  • التغلغل الأجنبي.
  • الضغط الاقتصادي والاختراق بالامتيازات.
  • بروز مشكلة الأقليات.

 

       وبسبب عدم الاجتهاد من قبل الدولة العثمانية في دمج الأقليات في المجال السياسي للدولة،خضعت بكل سهولة للحلول الأوروبية لحل مشكلة الأقليات لديها ،تحت ضغط "الاستعباد المالي"[2].وتحت مظلة الامتيازات سمح للأوروبيين منذ القرن السادس عشر أن يحظوا بحصانات وحقوق وإعفاءات مميزة كذلك عدم خضوعهم لقوانين الدولة العثمانية وإنما لقوانين الدول التي ينتمون إليها. ويشار هنا أن الامتيازات لم تعط الأوروبيون حق التجارة فحسب بل أن تحصل على حق ما عرف بالرعاية المذهبية للأقليات الدينية. يضاف إلى ماسبق أنه وبعد أصبح الاستعمار واقعا فعليا في منطقتنا، يشير أستاذنا طارق البشري إلى "أن عمليات الاقتطاع الاستعماري لم تتوخ التكوينات الجامعة التي تقوم بها وحدات سياسية ووحدات انتماء شعبي،ولا كان هدفها أن تصون أمرا من ذلك، إنما كان الاقتطاع يتم حسب القدرة الذاتية للدولة الاستعمارية على اختلاس إقليم ما ،وحسب موازين القوى بين الدول الاستعمارية بعضها وبعض لان الأمر كان أمر اقتسام وتوزيع ... من ذلك يظهر أن التكوينات السياسية التي ظهرت من أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين لم تكن تتطابق مع تكوينات الجماعات السياسية حسب أي من معايير التصنيف ...إنما عكست أكثر ما عكست موازين القوى بين الدول الاستعمارية"[3]. ويؤكد البشري ،إن ظاهرة الاستعمار التي عانت منها بلادنا كانت أعمق أثرا مما يبدو في الكثير من الدراسات التي عالجت أوضاعنا السياسية والاجتماعية ومشاكلنا الحياتية..فعادة ما نعالج هذه الظاهرة في نشأتها وفي مقاومتنا لها كما لو كانت  مسألة خارجية متميزة عن سياق التطور والتغيير الذي يمس كيان الجماعة السياسية، ونظم إداراتها،ومجمل الأفكار التي تسود وتتداول،هذه الظاهرة لم تزل فاعلة وإن بآليات جديدة وفي سياق مختلف وهو ما سنحاول أن نلقي الضوء عليه. 

 

      حدث هذا في إطار شرعية وستفاليا التي حكمت النظام الدولي،واستطاعت الدول الأوروبية توظيف العلاقات الدولية "لشرعنة"المكتسبات المختلفة من امتيازات اقتصادية استعمارية كما هو الحال مع اتفاقية برلين عام 1885،وصولا إلى عصبة الأمم التي جعلت من نظام الانتداب على مستعمرات الدول التي خسرت الحرب العالمية الأولى(ألمانيا وتركيا) رسالة مقدسة في نقل الحضارة إلى شعوب ما زالت غير مؤهلة للاستفادة من حق تقرير المصير.واستمر النظام العالمي على صورته هذه في ظل الحرب العالمية الثانية،والحرب الباردة،حيث بقيت للشرعية الدولية التي تتكون من دول بعض الاعتبار أخذا في الاعتبار موازين القوة الدولية[4].

 

     بيد أنه منذ مطلع التسعينيات،أي بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الإتحاد السوفيتي وبدء رياح العولمة الشرسة،تقهقرت" الاقتصادات القومية حيث تم إضعافها،بفعل التحولات الكبرى في التقسيم الدولي للعمل،الذي تشكل المشروعات العابرة للقوميات Transnational ،أو المتعددة القوميات Multinational،من كل الحجوم،وحداته الأساسية،وما يقابلها من تطور للمراكز والشبكات العالمية للتبادلات الاقتصادية التي تقع خارج سيطرة حكومات الدول"[5].وتم استبدال الاقتصادات القومية للدول العالم ثالثية بروابط أو باتحادات وكيانات دولية أكبر كالسوق الأوروبية والبنك الدولي وباتت هذه الاقتصادات مسيرة جماعيا. وإذا كان من المقبول أن النزعات القومية الانفصالية الأوروبية(مثل الويلزية،والباسكية،والكاتالونية)،تفضل تخطي حكوماتها القومية للاحتكام مباشرة إلى بروكسل "كأقاليم"،فإن هناك من المقومات التاريخية والاقتصادية والموضوعية التي تؤمن عدم وقوع تداعيات مدمرة على الواقع الأوروبي،وضمانة ذلك أنها تسلك كوحدة فرعية من كيان سياسي ـ اقتصادي أكبر (كالجماعة الأوروبية في هذه الحالة) فان هذا يعني أن الهدف هو التعايش وليس الانفصال أو فك الارتباط بما يحيطها.

  

       بينما الحالة في الدول الصغرى غير ذلك حيث غياب المساواة يعني الانفصال ولا شيء غير الانفصال مهما كانت النتائج يدعم ذلك اتصال الشركات ـ أقول الشركات لا الدول ـ الباحثة عن الثروة والاستثمار بالتكتلات النوعية المختلفة،وهنا نشير إلى العقود الجهوية و الأقلوية التي تعقدها الشركات في كل من العراق والسودان،فلم يعد الأمر امتيازات اقتصادية تحصل عليها الدول الكبرى في إطار منظومة دولية، تقوم دولها على قاعدة الدولة / الأمة، على أراضينا مقابل سبغ الرعاية أو الحماية على البعض، وإنما عقود شراكة اقتصادية مع الأقليات المختلفة بعيدا عن الاقتصاد القومي.لقد تم استبدال الاقتصاد القومي بمعناه القديم،الاقتصاد القومي للعراق على سبيل المثال، باقتصادات لقوميات وأقليات من خلال عقود بدائية مع شركات. فالاقتصاد القومي الكلاسيكي الخاضع للمعايير والضوابط الاقتصادية العالمية،حل محله" إقتصادات أقرب لنمط التجارة العالمية في العصور الوسطى،خارج سيطرة الاقتصاد القومي،والاقتصاد المؤسسي الدولي"[6]،وكف ببساطة- هذا الاقتصاد - أن يكون مستقلا من جهة،كما أنه لم تعد لديه القدرة عن منع تدفق المال وتحرير العقود مع الجماعات النوعية التي تعيش على أرضه. وأستبدل العقد الاجتماعي بين أهل المكان الواحد، بالعقد التجاري العابر للحدود بين الشركات والجماعات القومية والدينية. فلقد"قضى تدويل الاقتصاد على الارتباط القائم بين القوة والإقليم في واقع الأمر"[7].

       لذا من الأهمية بمكان مراجعة نص قرار مجلس الشيوخ الذي نعتبره( من واقع خبرتنا في دراسة آلية التشريع للكونجرس من جهة، ودراستنا لمسيرة إصدار القانون الأمريكي للحرية الدينية حول العالم من جهة أخرى) قد قطع نصف الطريق نحو إقراره..ذلك لأنه ربط بين التقسيم الجغرافي والثروة[8]،

 

 إنها النقلة من:

          * " الجيوبوليتيكا"

      التي جرت مع تقسيمات مطلع القرن العشرين حيث،

              "التقسيم التاريخي القسري إلى وحدات سياسية"؛

                                            إلى:

          *"السوسيوإكينوميكا"

          مطلع القرن الواحد والعشرين حيث،

                "تقسيم احتكار ضخ الثروة على أساس تقسيم الدولة

                  القومية".

 

 

المرحلة

 

الإستراتيجية

 

الفترة

الزمنية

 

الامتيازات

الأجنبية

الرعاية المذهبية

بداية من 1579

الإرساليات التبشيرية

الاقتناص

من منتصف القرن الثامن عشر

الاحتلال الأجنبي

حماية الأقليات

القرن التاسع عشر

 

الكيان الصهيوني

الغزو من الداخل

1948

 

العولمة

التدخل تحت مظلة الحقوق

مطلع التسعينيات

 

الإمبراطورية الأمريكية

التوسع على قاعدة السوق

2001

التجزئة الرأسية

(الدينية والقومية)

 

 

ثانيا:الإمبراطورية: دول/ أسواق.. ومواطنون مستهلكون /مقاولون:

 

     التجلي الثاني لانقلاب العالم هو نتاج مباشر للاستراتيجيات التي تتبعها  الولايات المتحدة الأمريكية، فمنذ تأسيسها تتبع أمريكا ما يمكن أن نطلق عليه إستراتيجية "التوسع من الداخل إلى الخارج" [1]،أي أن هذا التوسع بدأ من داخل حدود أمريكا إلى خارجها، واستمر إلى يومنا هذا. وتقوم إستراتيجية التوسع على أربعة محاور،كما يلي:

  • تقوية جماعة ديمقراطيات السوق الرئيسية بوصفها قاعدة التوسع.
  • تشجيع ودعم اقتصاديات السوق.
  • مواجهة عدوان الدول المعادية لنظام السوق.
  • مواصلة سياسة المعونة واستخدام مظلة حقوق الإنسان للتدخل بهدف إقامة أنظمة ديمقراطية "قسراً" تعتمد على اقتصاد السوق.

 

      يلاحظ الربط بين الديمقراطية ونظام السوق، فالديمقراطية التي تسعى أمريكا إلى تحقيقها ليست هدفاً في ذاتها، وإنما هي وسيلة لتوفير المناخ الآمن اللازم للحصول على أكبر فائدة ممكنة من تحقيق نظام السوق، فتصبح مناطق العالم أسواق لمنتجات العالم الغربي والأمريكي تحديداً، فبسبب التقدم التكنولوجي تدور عجلة الإنتاج بشكل مطرد. وهنا يظهر" كبت السوق للسياسة في كون الدولة القومية تفقد باستمرار قدرتها"[2] على أداء أدوارها،ما يعني أن تتأثر شرعيتها بدرجة أو بأخرى،كما تقل قدرتها على التحكم الاقتصادي[3] ،"فتحت الأسواق المعولمة تخسر الحكومات القومية باضطراد"[4] . ولن تؤثر الأسواق على السياسي والاقتصادي فقط، وإنما تمتد بتأثيرها حتما إلى تحطيم منظومة القيم الاجتماعيةDestroy Social Value System[5]. أنها الليبرالية المتجاوزة حدود القوميات والتي تحتاج إلى مرونة ما بعد فوردية تؤدي إلى إعادة هيكلة كاملة في بنية الدولة القومية[6] بما فيها العلاقات الاجتماعية،فالدولة عندما تصبح سوقا يترتب على ذلك ضعف القدرة على الدمج بين الأفراد في إطار حياة قومية واحدة،وزعزعة أي أسس موجودة أو محتملة للتجانس أو للتضامن بين مواطني الدولة الذين يعيشون في إطار واحد.

       رافق ما سبق أن دخلت الولايات المتحدة الأمريكية الساحة الدولية بمنطق مغاير للحالة الأوروبية، حيث سلكت سلوكاً إمبراطورياً، والإمبراطوريات بحسب كيسنجر، لا تهتم بأن تدير شئونها في إطار نظام دولي، فهي تطمح إلى أن تكون هي ذاتها النظام الدولي. والإمبراطوريات ليست في حاجة إلى ميزان للقوى. هكذا مارست الولايات المتحدة الأمريكية دورها في العلاقات الدولية منذ اليوم الذي بدأت فيه توسعها الدولي الذي وصفناه(من قبل) بالتوسع من الداخل إلى الخارج.

  إن السلوك الأمريكي الإمبراطوري كان عودة لما عرفه التاريخ الإنساني عن هيمنة حضارة واحدة مركزية، على الدوام، في مقابل حضارات أخرى،والحضارة المركزية المهيمنة في لحظة تاريخية معينة هي" المكافئ الموضوعي" للنظام العالمي في نفس اللحظة بحسب "والرشتاين". بهذا المعنى تقدم أمريكا نفسها  قوة مطلقة ذات طابع إمبراطوري خارج لعبة التوازن الدولي.

ولإيمانويل والرشتاين مساهمة غاية في الأهمية للتفرقة بين هيمنة قوة ما وحيدة على الاقتصاد العالمي وبين الإمبراطورية حيث يقول:

".. هناك نوعان من النظام العالمي:

 

      الإمبراطورية العالمية حيث توجد وحدة سياسية،

                واقتصاد عالمي بدون وحدة سياسية،

 

  فقبل المرحلة الحديثة كانت الاقتصادات العالمية غير مستقرة، فهي إما كانت تتحول إلى إمبراطوريات أو تضمحل..، ففي أواخر القرن الخامس عشر ظهر إلى الوجود ما يسمى الاقتصاد العالمي الرأسمالي. لم يكن ذلك إمبراطورية، وإن شابهها في الاتساع.. كان نظاماً اجتماعياً لم يعرفه العالم من قبل، وكان يختلف عن كل ما سبق. إنه نظام عالمي لاقتصاد عالمي، فهو يختلف من الإمبراطورية التي تتشكل كوحدة سياسية لتكون وسيلة بدائية للهيمنة الاقتصادية.."[7].

الحالة الأوروبية إذن كانت نظاماً اجتماعياً ذا طابع رأسمالي لم يتحول إلى إمبراطورية، أما الحالة الأمريكية، فقد أدركت معنى أن تسلك السلوك الإمبراطوري، بغرض وحدة سياسية كونية تتيح الهيمنة الاقتصادية في ضوء قيمها الحاكمة لهذه الوحدة وباستخدام القوة إن لزم الأمر.

في هذا السياق يعاد النظر في وضعية الآخرين الذين أصبحوا مساحة ممتدة تتحرك فيها الإمبراطورية. والتحرك الإمبراطوري هنا يعني عدم الالتفات إلى الشرعية الدولية من جانب، ولا احترام للسيادة الوطنية للدول من جانب آخر. والأمر يعني بشكل واضح أن هناك تحولاً جذرياً في منظومة العلاقات الدولية التي كانت قائمة على فكرة المجتمع الدولي – حيث أعضاء هذا المجتمع متساوون فيما بينهم – واحترام السيادة الوطنية لكل دولة من هذه الدول.

ولا شك أن المفهوم الإمبراطوري هو مفهوم نقيض لفكرة احترام الحدود والسيادة الوطنية للآخرين، حيث يفترض الامتداد والضم باعتبارهما صفتا التحرك الإمبراطوري. وأن العالم لم يعد يتكون من دول في إطار مجتمع دولي، وإنما الإمبراطورية تعني مساحة جغرافية ممتدة يسكنها "رعايا"، فالإمبراطورية هي الحافظة لقيم السلطوية الأبوية حيث "الرعايا" لا حقوق لهم، ولا يسمح لهم بأي نوع من أنواع المشاركة[8]

 

      لقد طرحت الصيغة الإمبراطورية على الآخرين أنهم "رعايا" حيث دول الآخرين هي منطقة ممتدة للإمبراطورية(سوق)، ومن ثم فإن مواطني الدول – المساحات المنضمة قد أصبحوا رعايا.

       

       إذن ها نحن أمام دول تحولت إلى أسواق حيث تضم رعايا، ولكن أي نوع من الرعايا.تجيب عن هذا السؤال كثير من الأدبيات الأمريكية ولكننا سوف نختار ما جاء في رؤية الحزب الجمهوري أثناء الحملة الانتخابية الأولى للرئيس بوش وعبرت عنه كوندوليزا رايس (وكانت المسئولة عن ملف السياسة الخارجية في هذه الحملة)‘حيث جاء في وثيقة بعنوان"المصلحة القومية الأمريكية" (قمنا بمراجعة كاملة للنص في كتابنا الإمبراطورية الأمريكية: ثلاثية الثروة والدين والقوة، ص ص 85 - 92) والتي باتت أحد محركات السياسة الخارجية الأمريكية الحالية،خاصة فيما يتعلق

ثالثا:الدولة المنهارة.. روابط عابرة للحدود وتحلل قومي:

 

      التجلي الثالث من تجليات "انقلاب العالم"،والتي تؤثر بشكل مباشر على الاندماج من جهة،وعلى الدولة القومية من جهة أخرى،ما يعرف في أدبيات العلوم السياسية، منذ مطلع التسعينيات – عقب اختفاء حائط برلين - "بالدولة المنهارة"[1]، وهو تعبير طبق على كثير من الدول التي مزقتها الحروب الأهلية،والتي شملت العديد من البلدان في قارات إفريقيا وآسيا وأوروبا، من هذه البلدان في منطقتنا سوف نجد تشاد و الصومال والجزائر، – ولاحقا - العراق والسودان،وإلى حد ما لبنان. ويشير برتران بادي إلى أنه بالرغم من التنوع الجغرافي لهذه البلدان،فإننا نجد ذات القاسم المشترك:"الانفجار الداخلي لهياكل السلطة وللشرعية مما يؤدي إلى هدم سيادة الدولة المعنية في الوقت نفسه"[2].       

       بانهيار أو عجز السيادة الوطنية للدولة عن ممارسة مهامها، تعود الدولة إلى حالة الفطرة، وتسود قلاقل تكرس الانفصال أو الانكفاء، ويصيب "العنف العلاقات الاجتماعية العادية"..وتواجه الدولة القائمة"نكوص لا نهاية له يصيب أسس سلطة الدولة بتآكلات متتابعة"[3]. بوصول الدولة إلى هذه الحالة يصبح للجماعة الدولية حق الإعلان عن مدى انهيار هذه الدولة أو تلك –يمكن أخذ الحالة الصومالية نموذجا منذ مطلع التسعينيات-، من حيث توقيت الإعلان عن الوضع في الصومال وآلية التدخل [4].

 

       يمكن اعتبار أن القاعدة التي تم تكريسها منذ ذلك الوقت، هي نقل وظيفة الدولة من الجماعة السياسية الوطنية إلى الجماعة الدولية. لقد منحت - في واقع الأمر – الجماعة الدولية نفسها أن تعلن عن فكرة الدولة المنهارة،وبالتالي تصبح بالتفويض السلطة العليا المؤهلة لتقرير السيادة في الوقت المناسب وبالآلية المناسبة. الإشكالية أن الأمر تطور بعد ذلك،خاصة بعد أن تركت أوروبا أمريكا تتدخل في كوسوفو،وبات هذا التدخل أنموذجا يمكن استعادته في أماكن أخرى.

          في ضوء ما سبق نجد الدولة المنهارة تبحث لدى المؤسسات الاقتصادية و" المنظمات غير الحكومية..عن إنجاز وظائف"[5]،تعينها في تقديم ما كان عليها – الدولة- أن تقدمه من جهة،كذلك تستسلم هذه الدولة - خاصة إذا كانت لديها ثروات طبيعية - للشركات العابرة للقوميات، فتتشكل"التحالفات بين الدول والشركات وفقا لقواعد لم تعد تفرق بين المصالح العامة والخاصة"[6]،لان الدولة في هذه الحالة لا تعد دولة بالمعنى المتعارف عليه. فالحدود القومية – عمليا – تسقط، وتتشكل روابط عابرة للحدود بواسطة التشابك الاقتصادي غير الكفء، والذي قد يكون غير نزيه، إنها الحدود الممتدة وفق مفهوم الإمبراطورية. ومع كثرة هذه النوعية من الدول، نجد المؤسسات الاقتصادية والمنظمات الغير حكومية تتمكن من الحكم بعيدا عن الدولة القومية التي تخسر سيادتها، وتعوضها عن "فقدان القدرة القومية عن التصرف"،[7] في الكثير من المجالات.

   

      على التوازي مع الدولة القومية نجد الذاتيات القومية والدينية التي تنتمي لهذه الدولة، تؤسس لعلاقات وروابط عابرة للحدود..كبديل عن الروابط مع باقي مكونات الجماعة،خاصة وأن" العولمة بما تعنيه من نظام اقتصادي وتدفقات مالية لها قوانينها الخاصة فان هذه الذاتيات والخصوصيات Particular National Content   تجد نفسها في الدولة العالمية Universal State،بحسب نيكلاس لومان [8]،و هو ما يؤثر على درجة الاندماج الاجتماعي و ربما تدفع في اتجاه تشكيل أنظمة اجتماعية مستقلة عن المنظومة الاجتماعية العامة ،وهو ما يمثل تحديا كبيرا للدولة الوطنية، ويعلى من الانتماء الأولي المدعوم من خارج الحدود،ومن ثم يتم دحض العقد الاجتماعي الذي كان يربط بين مكونات الدولة، وإضفاء صفة القداسة على الذاتي ونفي الآخر باسم الدين والمذهب، أو اللغة، أو العرق، وفض أي علاقة برابطة المواطنة.

 

      وهكذا مع انهيار الدولة ولجوئها إلى الخارج من أجل الدعم الذي يجعل من هؤلاء الداعمين يحلون- في واقع الأمر في - محل الدولة،واضطرار الأقليات المتنوعة – بالتالي- إلى أن تستدعي العون هي الأخرى من الخارج،فانه في واقع الحال أن الرابط العابرة للحدود تحل محل رابطة المواطنة في الداخل ما يعني "التشظي"وبدء التحلل القومي.كيف؟

 

      ينتج "التحلل القومي"[9] من جراء أمرين هما:

 

* الفشل الداخلي؛ بسبب عدم اليقين المحيط بمفهوم المواطنة وعدم نجاح الدولة في توفير آليات اندماجية لمكوناتها في إطار الدولة الوطنية.. وفشل التكافلات الأفقية – تكافلات المصالح المادية لمختلف الفئات الاجتماعية  مثل الأحزاب و النقابات و الروابط –على بناء جماعة سياسية قومية، ذات هوية واحدة هي هوية الدولة الوطنية،بغض النظر عن التنوع،.. الأمر الذي يؤذي هذه الدولة فتصبح دولا، و ذلك بالعودة إلى الخصوصيات الصغيرة, و التمرد على جميع أشكال الاندماج الأفقي، حيث يتم تعزيز الهياكل المستندة إلى الشللية وعلاقات الموالاة،وإحلال التكافلات الرأسية محل الوظيفة الاندماجية للدولة."

                       

* الاستعانة بالخارج (إراديا أو قسرا)؛ من خلال الدخول في روابط عابرة للحدود بالنسبة للهويات المتنوعة في إطار الدولة القائمة،والانخراط في شبكات تنتهك الحدود بالنسبة للدولة،الأمر الذي يعوق الانتماء للمواطنة من جهة،ويفتح الدولة على مصراعيها للآتي:

  • الاندماج في جماعات ثقافية عبر قومية .
  • التحالف مع ديانات أو مذاهب.
  • الانتماء إلى شتات تجاري.
  • الارتباط بتدفقات اقتصادية متنوعة.

 

       و عليه يخلص "بادي" إلى أنه:

 

                     *  "يتم إنعاش الهويات/الخصوصيات السابقة للقومية"؛

 

       و نتيجة لما سبق نجد كل خصوصية تعبر عن أحد أشكال التنظيم الأولى تحاول أن تشكل ذاكرة تاريخية خاصة بها و ذلك من خلال التنشئة الخاصة و التدوين الخاص بكل خصوصية والانكفاء على ذاتيتها. و هكذا بدلا من أن تكون هناك هوية واحدة جامعة  تهدف إلى تبلور رؤية مشتركة للعالم و للذات الحضارية نجد رؤى متعددة متجاورة أو متنافسة أو نافية لبعضها البعض بدلا من أن تتفاعل معا في اتجاه النهوض.

 

(ج) فيروس التفكيك

 

       في ضوء التجليات الثلاثة السابقة،يمكن القول أن جسم المنطقة قد تعرض لما أسميه "بفيروس التفكيك" بفعل :

  • العقود التي باتت تسبغ شرعية للجماعات،
  • والدول التي تحولت إلى أسواق، والأفراد الذين لم يتمكنوا أن يكونوا مواطنين، فأصبحوا إما "مقاولون أو مستهلكون" في إطار نظام إمبراطوري،
  • والدول المنهارة المنتهكة سيادتها،من خلال الروابط العابرة للحدود ما أدى للتحلل القومي.

 

      لذا فعلى الرغم من التنديد بمشروع بايدن،فانه لا يمنع أنه قد وجد هوى لدى البعض، وأن هناك اتفاقات حوله،من داخل العراق وخارجه. كذلك السودان الذي يشهد صراعات في الجنوب والشرق والغرب والقبول بوجود قوات متعددة في المناطق المشتعلة. أيضا لبنان تعاني من الشلل على أرض الواقع مكرسا تقسيما أقرب إلى الفعلي، حتى الدول التي لا يوجد لديها تنوع عرقي ومذهبي وقومي نجدها تعاني من انقسام مدمر مثل الذي بين حماس وفتح، أو تفكك ناعم مثل الحادث في مصر. أي أن الفيروس صار يسري في بدن المنطقة، ويبدو أن المخططات التاريخية التي أعلن عنها قد بدأت تأتي ثمارها [1]. بيد أنني لن أتعرض لها، فقد تعرضت لها كثير من الدراسات، وكان لي شرف المشاركة في إلقاء الضوء على بعض هذه المخططات. بيد أن ما يهمني هنا في هذا المقام أن أشير لأحدث هذه المخططات والتي تعكس رؤية واضحة وحاسمة للمنطقة من جهة، كذلك لان ما جاء فيها يجد طريقه بسرعة إلى التنفيذ.من هذه التصورات سوف نعرض لرؤيتين كما يلي:

أولا: رؤية ريتشارد هاس *.

ثانيا: رؤية برنارد لويس ** .

 

 أولا: رؤية ريتشارد هاس [2] :التصور الأمريكي للشرق الأوسط الجديد.

 

      رسم هاس في هذه الدراسة صورة قاتمة للمنطقة من خلال اثني عشرة ملمحا لعل من أبرزها ما يلي:

  • إسرائيل هي الدولة القوية الوحيدة التي تتمتع باقتصاد حداثي يمكنه من المنافسة عالميا..وإنها تمتلك قدرة نووية سيكون لها دور هام.
  • ستستمر "عسكرة المنطقة".
  • تزايد التوتر المذهبي بين السنة والشيعة في المنطقة.
  • ازدياد النفوذ الإيراني في المنطقة.ليس من المحتمل إقرار السلام في المنطقة.
  • ولن يفضل من الوحدة العربية سوى الشعار.
  • استمرار التوتر في المنطقة لعقود عدة قادمة.

      

       ويطرح عددا من الأطروحات منها:

  • ضرورة التدخل غير العسكري.
  • الديمقراطية لا تحمل فائدة كبيرة عند التعامل مع الراديكاليين.
  • تعزيز التحرير الاقتصادي وتطبيق نظام السوق.
  • تأسيس كيان إقليمي للدول المجاورة للعراق(ليس عربيا خالصا حيث يضم تركيا وربما إيران)

 

ثانيا: رؤية برنارد لويس : نهاية الدولة الوطنية (النابوليونية)..

                                              وبداية حقبة الانقسام المذهبي.

 

       عقد معهد السياسة والإستراتيجية الإسرائيلي مؤتمرا حول "الخطر الإسلامي"، في هرتز ليا ،فيما بات يعرف باسم "مؤتمر هرتز ليا" ، الذي يعقد بشكل سنوي. المفارقة أنه لم تكن هناك إشارة له من قريب أو بعيد في إعلامنا العربي، ولم يحظ باهتمام بحثي أو سياسي. ويعد هذا المؤتمر من أخطر المؤتمرات التي تعقد في المنطقة ،وذلك لاعتبارين هما:

    الأول، هو طبيعة الموضوع الذي يتم اختياره وكيفية معالجته بصور وأشكال تأخذ منحى إستراتيجيا وإجرائيا في ضوء المعلومات الغزيرة التي يتم توفيرها والأفكار التي يتم طرحها.

   الثاني، هو نوعية الحاضرين،حيث يشارك فيه رموز عسكرية، استخباراتية،وأكاديمية،واقتصادية،وسياسية،وتكنوقراطية،من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا ،من المتعاطفين مع إسرائيل.

      انعقد مؤتمر هذا العام،بحضور حشد غير مسبوق من المشاركين، بلغ 164 مشاركا من القيادات الإسرائيلية في شتى المجالات مثل:شيمون بيريز ،وأولمرت ،ونتنياهو،ووزراء سابقين وحاليين في الحكومة الإسرائيلية،وقيادات حالية وسابقة للموساد، وقيادات سابقة وحالية في الجيش الإسرائيلي، وقيادات عشرات من منظمات الضغط الإسرائيلية العاملة في أمريكا مثل "AIPAC " وغيرها ،ورموز المحافظين الجدد والجمهوريين مثل ريتشارد بيرل،ونيوت جينجريتش، هذا بالإضافة لممثلي عدد من هيئات التمويل الأوروبية، ورجال الأعمال،ونخبة من الأكاديميين يأتي على رأسهم "برنارد لويس"(91 عاما)،الملقب  "بشيخ المستشرقين المعاصرين"، الذي ألقى كلمته في الجلسة الأولى من اليوم الثاني من أعمال المؤتمر والتي انعقدت تحت عنوان مزدوج:

 

  • "اعرفوا عدوكم "Knowing Thy Enemy ،

في ظلال إيران والحرب ضد حزب الله.

 

       و جاء في كلمته التي يمكن اعتبارها "مفتاحيه" للمؤتمر، ولمستقبل المنطقة، أن ما أسماه "الحقبة النابوليونية" نسبة لقدوم نابليون بونابرت إلى المنطقة – والتي أطلقت "الدولة الوطنية" – قد" انتهت" بنهاية الحرب الباردة حيث القوى الدولية قد فتر اهتمامها بالشرق الأوسط،الأمر الذي يعني العودة إلى طبيعتها الأولى والتي سوف تتسم بأمرين هما:

 

 أولا، الرجوع إلى الهوية الدينية بديلا عن الهوية الوطنية التي سادت مع حركات الاستقلال وتفرغ المنطقة للصراع مع الآخر (الغرب المسيحي) ، حيث العودة للمعركة التاريخية بين الإسلام والمسيحية والتي احتدمت أكثر من مرة قبل قدوم نابليون إلى المنطقة،مرة في القرن السابع الميلادي،ومرة أخري مع الإمبراطورية العثمانية.كانت المرحلة النابوليونية مرحلة ذات طابع وطني استقلالي وحداثي في آن،ولكن بانهيار الإتحاد السوفيتي عادت المواجهة الدينية مرة أخرى،المواجهة التي عرفت دوما بمواجهة المسلمين ضد الآخرين،It is always Muslim Against The Rest

إنها المحاولة الثالثة التاريخية كما تؤكدها كتابات المسلمين أنفسهم.  وقد انطلق فيما قاله بان الهوية الأولية للشرق الأوسط دينية بالأساس وليست قومية أو إثنية.

 

ثانيا، يتم  الصراع مع الآخر(الغرب) في ظل تنافس بين التيار السني الوهابي ويمثله بن لادن، والتيار الشيعي الذي مر بمرحلتين ثوريتين ،الثورة الإيرانية الخومينية الأولى، والثورة الإيرانية الثانية الحالية ،على هذا الصراع.والمحصلة المنطقية لما سبق،في تقديره ،الصراع مع الآخر الغربي،والتنافس على هذا الصراع بين السنة والشيعة، لابد وأن تتم عبر الصراع الداخلي في المنطقة بين المتنافسين أي بين السنة والشيعة، تماما مثل الصراع الكاثوليكي البروتستانتي الأوروبي،ويشير في هذا المقام لصدى الثورة الإيرانية وبريقها لدى أهل المنطقة على اختلاف مذاهبها.

      هذه هي خلاصة الكلمة التي ألقاها برنارد لويس في إسرائيل،والتي تحتاج إلى تعليق،ولكن في ضوء المنهجية التي يكتب بها برنارد لويس – عادة - في إطار الفكر الاستشراقي[3]، وقد قمنا بدراستها عند ترجمتنا لدراسته الغرب والشرق الأوسط والتي نشرت في مجلة فورين أفيرز عام 1997 وتعد هذه الدراسة هي مشروع كتابه الذي نشر لاحقا بعنوان أين الخطأ؟ والآن مازا عن كلمة برنارد لويس.

 

      القارئ لبرنارد لويس،يمكنه أن يلحظ بسهولة ،وبحسب إدوارد سعيد، إن جهده هو "جزء من البيئة السياسية أكثر من البيئة الفكرية الصرفة"[4]. من هذا المنطلق تأتي أهمية كلمة برنارد لويس التي ألقاها في محفل يضع استراتيجيات من أجل المستقبل ،فهو لا يتقدم بأفكار ذات طابع إشكالي فكري وإنما بأفكار تصب في الإطار  "الجيو سياسي" ،فهو لا يتوقف كثيرا عن توضيح ماذا يعني بدقة بالحقبة النابوليونية ؟ وما هي الدوافع التي أدت إلى قدوم الحملة الفرنسية إلى المنطقة ؟

       لاشك أن الحملة الفرنسية كانت – تاريخيا – تعكس لحظة إشكالية مركبة بين المنطقة والغرب، لحظة لقاء/مواجهة- تحديث /استعمار لم تزل تداعياتها فاعلة إلى الآن. ولكن لا يمكن اختزال بناء الدولة الوطنية في منطقتنا انه تأسس بحسب الغرب وحده دون أي عوامل أخرى،وذلك بإسقاط أي جهد وطني ومحلي في التحرر،وعليه إعلان نهاية الحقبة النابوليونية، ومن ثم ضرورة الدخول إلى مرحلة الانقسام المذهبي –وأيضا –بحسب النموذج الغربي.

       أي انه في الحالتين وبالرغم من تناقضهما،فانه لا مفر من سلوك المسار الغربي، وكأن التطور التاريخي هو – محض – ميكانيكي(بحسب أحد الباحثين)،وكأن المراحل التاريخية تبدأ وتنتهي بقرارات إستراتيجية ، حيث لا يؤخذ في الحسبان الجهود الذاتية الوطنية من أجل التقدم مهما كانت ضعيفة أو كثيرة الانتكاسات. إن هذا المنهج يستقيم مع محاولات هندسة المنطقة في صيغ سابقة التجهيز، وهو ما يتبناه لويس في كتاباته منذ وقت مبكر في الترويج للنموذجين التركي والإسرائيلي ،ويتلقفه البعض الآن حول استعارة النموذج التركي والكثير من الاستعارات الأخرى التي تصب في النهاية لصالح المشروعات الشرق الأوسطية بل ويستعيدون مقولات بايندر وناداف صفران و ادوارد واكين[1]..الخ، على حساب التراكم التاريخي.

       يضاف إلى ما سبق، الإيحاء بان كل دول المنطقة ذات تطور واحد، واختزال تنوع المنطقة في الديني فقط ما يعني أن التهديد بالانقسام المذهبي لن يكون قاصرا عل الإسلام فقط بل سيمتد إلى المسيحية الشرقية والتي ظهرت ملامحه جلية مع موجات التبشير غير المسبوقة[2] التي تفد إلى المنطقة تحت مظلة قانون الحرية الدينية[3] الذي صدر عن الكونجرس

الأمريكي والذي درسناه تفصيلا في الكتاب الوحيد حول هذا الموضوع باللغة العربية:الحماية والعقاب..الغرب والمسألة الدينية في الشرق الأوسط،ولطالما حذرنا من تداعياته.

      ربما يكون من المفيد لو أخذنا الحالة المصرية – كمثال – في كيف تعاطي تقارير الحرية الدينية معها، بغض النظر عن التفاصيل، فلا يوجد هنا مجال للحديث عن هذا الأمر، وإنما ما يعنيني هو المفهوم الحاكم الذي يحكم كتابة التقرير. فالتقرير ،بداية يحرص على بدء التعامل مع مصر باعتبارها كيان يضم مجموعات دينية Religious Groups يتم التعامل مع كل مجموعة على" حدة"،بحثا عن حقوقها بمعزل عن الباقين،ما يعني" التفكيك"،بدلا من دعم البحث عن الحقوق للمواطنين المصريين ككل،مع تحفظنا على التدخل الخارجي في هذا المقام،الأمر الذي يعوق الاندماج ويجعل هناك أكثر من مصر.

 

وبعد حاولنا أن نقترب من التجليات التي رافقت التحولات التي شهدها المسرح الدولي،وأثرت على بنى الدول الأدنى في سلم التطور[1]،والتي أدت إلى صدام حاد"بين العولمة في المركز وبين الخصوصيات الثقافية في الأطراف"[2]،صداما حول" المصالح ولا شيء غير المصالح"[3]،مهما تدثر الصدام بأردية دينية أو مذهبية أو قومية،وهو ما يثبته الواقع من تغير مواقف هذه الخصوصيات من الصدام إلى قبول التواصل مع هذا المركز من خلال العقود فتصبح لها شرعية مواجهة الهويات الأخرى التي تعيش على نفس الرقعة الجغرافية(يشار إلى نموذج العراق)، ،وقبول بالانخراط في لعبة السوق الكونية التي تضم شركات محل المجتمع الدولي الذي يضم دولا. حدث ذلك وفق محاولة لتغطية المصالح، تارة بان الصدام هو صدام حضارات /ثقافات/ ديانات[4]،أو أنه صدام أصوليات[5]،أو صدام بين متحضرين وبرابرة[6].  

وهكذا يظل التوتر حاضرا دوما لان العولمة تلعب على التفكيك[7]،كذلك ترويضها من قبل الغرب فلا تعد مقاومة. على الجانب الآخر نجد الخصوصيات التي لم تزل تتمسك بالمقاومة تسلك نفس السلوك الذي تقوم بمقاومته،وتعيد النمط الاقتصادي الذي يتبناه الغرب.. من حيث تبني مشروع رأسمالي تجاري يجعلها في قلب المشروع الذي تعتبره مشروعا نقيضا[8]. وهنا تجدر الإشارة إلى نموذجي حركة لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية في نقدها رفيع المستوى للمشروع النيوليبرالي..كذلك بعض الاتجاهات التقدمية في إيران التي استطاعت أن تدرك حتمية مواجهتها لأيديولوجيا السوق على أساس طرح مشروع قومي إيراني.وفي الحالتين نجد أنفسنا أمام مشروع اجتماعي –ربما يستلهم الدين- ولكنه لا يقع في فخ أن الصدام ديني أو أصولي أو بين متحضرين وبرابرة،لان الصدام في حقيقته صدام مصالح بين العولمة في المركز وبين الخصوصيات الثقافية في الأطراف التي تحتاج إلى التوحد و تطوير مشروع اجتماعي مناهض للعولمة .

       وفي النهاية نوجز رؤيتنا حول التفكيك والآليات التي تؤدي إليه من خلال الشكل التالي.

(ويلاحظ أن هناك أيضا عناصر داخلية تمثل إعاقة لتبلور الدولة وفي القلب منها المواطنة، نشير لها في مرفق خاص في نهاية الورقة).

 

  

(د) المواطنة / المواطنة الثقافية : اندماج وتنوع

 

       تتأسس الدول وتنجح – تاريخيا – في الاستمرار عندما تستطيع أن تحقق" التوازن بين الحاجات والإنتاج وبين الاستهلاك والحماية...وبعد ذلك تأتي مرحلة توسع السوق وزيادة الإنتاج الذي يؤدي إلى تحقيق الفائض.هذا الفائض هو الذي يؤدي إلى استقرار الجماعات البشرية ودمجها داخليا في إطار من التعايش"[1] وفق عقد اجتماعي يسهم الجميع في عقده والدفاع عنه. بيد أنه بسبب عوامل داخلية كثيرة،بالإضافة إلى أن الخارج لم يترك المنطقة تكتسب تطورها بنفسها،مع تضافر العوامل المستجدة التي طرأت مع العولمة في التسعينيات وما بعدها،باتت الثروة المحلية تدار من قبل الخارج وبآليات غاية في التعقيد. فيمكن أن ترى الشرعية الدولية تكسب مشروعية لدولة ذات طبيعة قبلية ،ولهويات ذاتية وخصوصيات ثقافية وجماعات أقلوية ودينية ومذهبية،و لأسر/ لقلة حاكمة لضمان ضخ الأموال والثروة. الأمر الذي يعني التناحر الداخلي عندما تكون الثروة" ريعية"أو الاقتصاد طبيعته "خراجية"[2] الطابع من جهة،وتكون أيضا في يد أفراد أو أقلية حاكمة أو أسرة أو جماعة مذهبية أو قومية. هنا مع الآليات التي شرحناها من قبل يصعب على الدولة التي تقترب من الانهيار، أن تقاوم وأن تقوم بأي جهد في دمج الجماعات وتوحيد المجتمع، فيكون التفكيك هو النتيجة الحتمية.

       تأسيس دولة هو المهمة الأولى التي يجب الاضطلاع بها،فليس غريبا أن يوجه الخارج تركيزه على تفريغ الدولة من مهامها،بحسب ما أسلفنا. والمفارقة أن الغرب بات يؤكد على أهمية الدولة[3] والأدوار التي تؤديها بالرغم من أن وكلاء الغرب لدينا من الليبراليين الجدد يشددون على ضرورة انسحاب الدولة من كل شيء،كما أن الغرب من خلال آلياته المتعددة يتعامل مع كل ما يناقض الدولة القومية بدعمه لكل ما هو جزئي على حساب الكلي الجامع.

       وعليه يبدو لي أن الخلاص يكمن في أن إنقاذ المنطقة من التفكيك يكون ببناء دولة حديثة على قاعدة المواطنة التي لا تميز بين أحد، وإعطاء بعض الاهتمام بالمواطنة الثقافية.

        أولا: ما المواطنة التي نريدها؟

        ثانيا:  المواطنة الثقافية.

 

أولا: ما المواطنة التي نريدها؟ (المواطنة على قاعدة الاندماج).

 

       تبلورت المواطنة تاريخيا من خلال حركة الناس لاكتساب الحقوق ، وبلوغ المساواة بين الجميع من دون تمييز ،وتم هذا التبلور بمنطق المركب الذي تتكون عناصره مع التطور التاريخي ،وكان كل عنصر يعبر عن بعد من أبعاد المواطنة تتم إضافته للمركب بحسب حركة الناس والسياق التاريخي.

ويمكن رصد مراحل تكون أبعاد المواطنة كما يلي:[4]

 

  • في البدء كانت المساواة أمام القانون أي المواطنة المدنية Civic Citizenship.
  • ثم تحقق التمثيل السياسي في المجالس النيابية فعرفت المواطنة في بعدها السياسي Political Citizenship.
  • و مع التطور الاجتماعي والطبقي عرفت المواطنة في بعديها المركب الاجتماعي – الاقتصاديSocio- Economic Citizenship.
  • و مع تنامي صعود الهويات الثقافية:الدينية والعرقية والجنسية ،طرح مفهوم المواطنة الثقافية Cultural Citizenship .

 

       ومع اكتمال المواطنة بأبعادها، بغض النظر عن الدرجة والنوعية التي تتوقف على مدى التطور الذي يختلف من سياق لآخر، تعددت تعريفات المواطنة، والتي يمكن أن نجملها من خلال دراستنا لهذا الموضوع في الآتي:

 

      *   تعبير عن" حركة" الناس اليومية مشاركين و مناضلين من أجل نيل "الحقوق" بأبعادها المدنية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية و الاقتصادية على قاعدة" المساواة" مع الآخرين من دون تمييز لأي سبب, و اندماج المواطنون في      " العملية الإنتاجية" بما يتيح لهم" تقاسم" الموارد العامة و الثروة الوطنية مع الآخرين الذين يعيشون معهم في إطار الوطن الواحد.*

 

 

 و تتجاوز  المواطنة بهذا المعنى الرؤى التي تساويها بالولاء و الانتماء خاصة و أن الأدبيات المعتبرة في هذا المجال و التي جاءت تعبيرا عن خبرة عملية و حياتية تؤكد على أنه لا يستقيم الحديث عن المواطنة من دون السياق الاجتماعي الذي تمارس فيه, و ما يعنيه من ضرورة لفهم المواطنة و علاقاتها بالبناء  الطبقي السائد و الأيديولوجية المهيمنة و هيكل الدولة و طبيعتها و نمط الإنتاج و موازين القوى الاجتماعية

                                                                                                                                                                                                                                                     

       بلغة أخرى فإننا نعتبر المواطنة ، هي حركة الناس ،و الممارسة التي تضمن حضور الجميع بالرغم من التنوع الثقافي و تعدد الخصوصيات إلى معترك واحد من أجل إحداث تغييرات في البني القائمة بمستوياتها المتعددة. فالجهد المشترك هو " المجال الحيوي الجامع"[1] الذي:

        * ينقل الناس من "الخاص الضيق" إلى "العام الرحب"، بغير تناقض بين الخاص و العام من جهة، و بإبراز الأفضل لدى كل طرف والتفاعل الإيجابي بين هذا الأفضل وذاك من اجل التغيير المطلوب.

      المواطنة بهذا المعنى هي الحركة الجمعية للناس في إطار الوطن الواحد نحو التغيير من خلال العمل المشترك من أجل التقدم.  إنها "العملية" Process التي من خلالها يتم تفعيل المركب الحضاري العام بتنوعه . و غياب المواطنة يجعل كل عنصر داخل هذا المركب يرتد إلى دائرة حركته " الخاصة الضيقة ":العزوة والقبيلة و العشيرة و الطائفة، لأن "العام الرحب" أو الوعاء الأوسع:الوطن، فيه ما يعوق ممارسة المواطنة.فالفرد إذا ما ظل يتحرك في إطار أنه لا يوجد آخر و أن دائرة حركته الأولية (الطائفة والعشيرة..) هي العالم، فإنه لن يرى إلا ثقافته فقط ومن ثم" ينفي" كل طرف الآخر أو على أحسن تقدير "يتجاور" كل طرف مع الطرف الآخر بدون أي تفاعل أو فعل مشترك.

 

       فالجهد المشترك بين المواطنين أي ممارسة المواطنة في سياق المجال العام أو ما أسميه" الإطار الجامع"، على اختلافاتهم الثقافية هو الذي يجعل الخصوصيات الثقافية تتفاعل فيما بينها وتجعل من كل طرف يقدم أفضل ما لديه من أجل الصالح العام وليس السجال المدمر. وعليه تصبح" الخصوصية الثقافية " نسقا مفتوحا قابل للتراكم  من خلال الخبرة التاريخية ذلك بالاستجابات المبدعة للتحديات و الأزمات التي تواجه الجماعة الوطنية أثناء حركتها بما تضم من بشر يجتهدون في ممارسة المواطنة.

 

         فلا تعود الخصوصية الثقافية نسقا سكونيا جامدا بل حالة ديناميكية متطورة؛

         وعليه يمكن تجاوز إشكالية "تعطيل" المواطنة إلى "التفعيل".

 

      إن تعطيل المواطنة "المجال الحيوي الجامع" للفعل المشترك, و من ثم تشظي الخصوصية الثقافية يؤدي إلى حالات ثلاث تعوق الاندماج هي:

  • خصوصيات ثقافية في علاقة "تجاور"
  • خصوصيات ثقافية في علاقة "سجال"
  • خصوصيات ثقافية في علاقة "استبعاد/نفي" متبادل.

و هي حالات ثلاث تتراوح بينها دول المنطقة بما تضم من جماعات متنوعة، حيث يختفي الاندماج أو يوجد بدرجة أولية. ويوضح الجدول التالي ماسبق:

 

تجاور

سجال

استبعاد /نفي

 

حالة الخصوصيات الثقافية في المنطقة

 

جدول رقم(3):

 

و لا خلاف على أن تفعيل المواطنة "كمجال حيوي جامع" لحركة الناس بخصوصياتهم الثقافية المتنوعة لهو أمر ضروري فالتقدم مشروط بالاندماج و تبلور خصوصية ثقافية جامعة تصبح فيها الخصوصيات الثقافية المتعددة مصدر ثراء للجماعة ككل،ويوضح الشكل التالي ما سبق.

 

ثانيا:المواطنة الثقافية محاولة لحماية التعددية والتنوع:

 

     يأتي مفهوم "المواطنة الثقافية "[1] Cultural Citizenship, أو المواطنة في بعدها الثقافي و الذي يعد برايان ترنر Brayan S. Turner – أحد أهم الذين ساهموا في أدبيات المواطنة – ليعيننا في فهم مدى حضور الخصوصيات الثقافية المتنوعة فيما أسميناه " المجال الحيوي الفاعل " أو عملية المواطنة في شمولها من عدمه, حيث يعرف المواطنة الثقافية بالآتي:

          " أنها الحق في المشاركة – الثقافية – في المركب الثقافي العام لمجتمع بعينه.. "،

“.. It is the social right to participate in the Complex Culture

 of particular society …”

    أي أنها العملية التي من خلالها يكون للخصوصيات الثقافية حق المشاركة في المركب الثقافي العام لمجتمع من المجتمعات, شريطة أن تكون هذه الخصوصيات في حالة تفاعل بما يفيد تقدم هذا المجتمع[2].في هذا المقام تؤخذ في الاعتبار عدة أمور و ذلك كما يلي:

  • إن المركب الثقافي العام الأحادي البسيط الغير قادر علي استيعاب التنوع الثقافي والتعددية يعكس إن هناك مشكلة ما.
  • أن حضور الخاص في العام لا يعني الإلغاء أو الاستيعاب طالما أن القضايا و الأهداف محل اهتمام هذه الخصوصيات تصب في اتجاه الخير العام.
  • أن يكون المركب الثقافي العام من "البراح" في إتاحة المساحات المطلوبة للخصوصيات الثقافية في أن تعبر عن نفسها.

 

  تعد اسهامة ترنر التي أشرنا إليها هامة للغاية, فهو من جهة يدرك – علميا – أن المواطنة و الصراع من أجلها نشأ في الحالة الأوروبية  مع الثورة الصناعية و أن حركة الناس كانت تتم من أجل المساواة الاجتماعية و العضوية الطبقية, و لكنه من جهة أخرى أدرك أن المواطنة لها أبعاد أخرى مكملة و متممة للاقتصادي و الاجتماعي و السياسي مثل الثقافي, لذا نجده يولي اهتماما كبيرا لهذا الأمر باعتبار المواطنة الثقافية من المجالات التي يجب العناية بها خاصة مع أواخر القرن العشرين  و تنامي صعود الهويات الثقافية و التشظي الثقافي الذي شهده العالم ما بعد الحديث.

          و من ثم يؤكد ترنر على أن تحقق المواطنة الثقافية – بالطبع في إطار المواطنة في صورتها الشاملة – يتجلى في عدة أمور منها:

  • تمثيل الهوية الثقافية الخاصة في المركب الثقافي العام بالتساوي مع الهويات والخصوصيات الأخرى.
  • إدراج التاريخ الثقافي للخصوصيات المتنوعة ضمن التاريخ العام و الذاكرة القومية.
  • حرية التعبير الكاملة للخصوصيات و إبراز المنظومة الرمزية الخاصة بكل خصوصية بصورة يألفها الجميع.

       لن يتأتى ما سبق إلا من خلال إعادة النظر في نظم التنشئة، ومراجعة مناهج التعليم، والمواد الإعلامية...بحيث يراعى دوما التأكيد على حضور الآخر والتعريف بثقافته وتاريخه، ومن ثم يكون مألوفا.. فيتحقق التفاعل من خلال القنوات السياسية فيتحقق الاندماج..وتتجلى التعددية.. بالطبع يترك لكل حالة تحديد النظم واللوائح المناسبة. ويعكس الشكل التالي التكامل بين المواطنة في بعديها السياسي والثقافي بم تضم من عناصر مكونة لها من أجل بلوغ مواطنة على قاعدة الاندماج.

      ويشار إلى الاهتمام العالمي الكبير بقضية الاندماج على المستويين السياسي والعلمي،فالاتحاد الأوروبي مثلا يشير إلى أنه لا يمكن انجاز الاندماج بدون الأخذ في الاعتبار الجانب المجتمعي،أو بلغة أخرى الاندماج لا يتم بمعزل عن السياق المجتمعي وذلك بإتاحة فرص متساوية للجميع وتمكين المهمشين والضعفاء ..فعلاج الفقر والتهميش لا يكون بالنوايا الحسنة،أو الهبات والمعونات،أو بإجراءات إدارية أو بمنح خاصة لكل جماعة بمعزل عن الأخرى أو باللجوء إلى ما هو خارج الحدود،وإنما بفهم الأسباب الهيكلية التي أدت إلى التهميش والاستبعاد الاجتماعي.  يلاحظ أننا نتحدث عن السياق الأوروبي والأوضاع هناك أفضل حالا ولاشك،فماذا عن السياق العالمثالثي..؟

      يجمع كثير من الباحثين أن الاستبعاد الاجتماعي[1]  Social Exclusion ينتج من خلل في المنظومة الاقتصادية/ الاجتماعية. وانه بسبب سياسات السوق حدث خللا مزدوجا في البنية الاجتماعية على المستويين الأفقي والرأسي وذلك كما يلي:

  • أفقيا:هيمنة سلطوية( قد تكون قومية فئوية،سياسية،جيليه،جنسية،إثنية،دينية)
  • رأسيا:هيمنة طبقية.

الأمر الذي ينتج اللامساواة والتهميش والاعتمادية والتواكل والركون إلى الخرافة وإلى أنماط من الممارسات التي تتداخل فيها العادات والمعتقدات السلبية المقاومة لكل تغيير والرافضة لكل تمكين..والمفارقة أن يتولد في المجتمعات المهمشة، نتيجة الخلل الاجتماعي و اللامساواة الأفقية والرأسية، فهما للاندماج يأخذ دلالة قومية أو عقدية لا اجتماعية تعيد إنتاج هذا التهميش بالنسبة للآخرين وعليه تنغلق على نفسها..ففي إطار دفاع المجتمعات المهمشة عن نفسها يصبح الاندماج لديها هو تهميش ونفي من يقوم للآخرين فالظرف لا يسمح بالتشارك مع آخرين..مع بقاء حالهم على ماهو عليه..إنها دائرة خبيثة[2] ولاشك..فما العمل؟

 

      لابد من إعادة النظر في كثير من المفاهيم السائدة التي تتعامل مع الفقراء و المهمشين..فإذا كانت هناك مراجعات مبكرة(منذ السبعينيات) حول نظام السوق في قدرته على تمكين الفقراء، وأكد ذلك مؤخرا ممثل البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في المنطقة في إحدى الندوات، "أن الدراسات أثبتت أن اقتصاديات السوق لم تنصف الفقراء.."وأن "الفقر زاد بسبب سياسات غير ملائمة"، إلى تنفيذ مشروعات نمطية لا تناسب البيئة ويعني الفقر والتهميش مزيد من العزلة وعدم القابلية للاندماج،وذلك لارتداد هؤلاء إلى دوائر الانتماء الأولية التي تحل محل الدولة في مد شبكات أمان اجتماعي لهم.

 

       الاندماج يحتاج إلى مشروع متكامل بين جميع أطراف المجتمع في إطار تحليل موضوعي لكل أنماط اللامساواة الاجتماعية،والخلل الاجتماعي،والأشكال الجديدة من الانقسامات الاجتماعية التي تؤدي إلى الاستبعاد والتهميش الاجتماعي،ووضع سياسات اجتماعية تقوم على وعي الجماعات النوعية و المهمشين بحقوقهم والمشاركة في صياغة واقعهم وربما في صياغة واقع جديد إنتاجي الطابع.

      لقد وجد أن نظام السوق المفتوح قد أدى إلى سطوة الأقلية الثروية – التي تحتمي بأشكال التنظيم الأولي في أغلب الحالات – التي تجعل من  المشاركة السياسية حكرا لمن يملك ولمن ينتمي لأي شكل من هذه الأشكال الأولية للتنظيم و للباحثين عن الخدمات ومن ثم تضعف الديمقراطية،و تتشظى الجماعة السياسية إلى جماعات فرعية تبتعد عن المجال العام الجامع للمواطنين إلى المجالات الخاصة،وتصبح المصلحة الفردية والهويات الفرعية والاقتصاد المفتوح بلا ضوابط أو عناصر مقاومة تعمل على تحقق المواطنة،حيث الغنائم يحصل عليها الفرد في ظل التشظي.وعليه بدأ الحديث عن تطوير النظرية الجمهورية للمواطنة القائمة على الليبرالية الديمقراطية وذلك بالأخذ في الاعتبار تعزيز الالتزام الفاعل والعضوي في النظام السياسي المشترك لكل المواطنين بغض النظر عن أي اختلافات بينهم،فيتحقق المجتمع الديمقراطي بمشاركة الكل فلا تكون الديمقراطية للقلة الثروية.كما وضع المعنيون بهذه القضية معيارا يميز بين الليبرالية الكلاسيكية وبين الجمهورية الجديدة التي تراعي البعد الاجتماعي، هذا المعيار هو" الخير العام"،والذي لا يعني حاصل جمع مصالح الأفراد،وإنما المصلحة العليا للوطن بحيث يحدث التوازن بين الخاص والعام،فلا يجور أحدهما علي الآخر[3]. وهكذا تتجدد الجمهورية التي تقوم على المواطنة أو يمكن القول الدولة القومية[4].ويقلل هذا الطرح من تحول الأفراد إلى زبائن في المجال السياسي،أو أن يكون المجال العام هو ملتقى للخصوصيات المختلفة.وعليه فان فتح المجال أمام الجميع في المشاركة في اقتسام الموارد العامة – شريطة توفر اقتصاد إنتاجي – يضمن بقاء الدولة وعدم تحولها إلى سوق – قدر الإمكان – ومن ثم عدم تحول المواطنين إلى مستهلكين أو مقاولين.

     كما تشير كثير من المراجعات إلي ضرورة الربط بين مبدأ المواطنة الذي تقوم عليه الجمهورية وبين النظام الاقتصادي.ففي المجتمعات التي قطعت شوطا كبيرا في الديمقراطية يحرصون على التأكيد علي ما يعرف" بالمساواة في المواطنة Equality In Citizenship بين المواطنين: من يملك ومن لا يملك،لإحداث التوازن مع اللامساواة الطبقية Inequality In Class "[5]، بلغة أخرى ،إذا كان النظام الاقتصادي يقوم على الاقتصاد الحر فان هناك ضرورة لضمان المساواة الاجتماعية والاقتصادية بين الجميع.فالاستثمار الفردي والملكية الخاصة والخصخصة يجب ألا تكون عوائق في طريق تحقيق التكافؤ بين الجميع وبخاصة في مجالات التعليم والصحة والثقافة، وأن منظومة الحقوق لابد من توفرها للجميع.إن الجمهورية الجديدة القائمة على المواطنة- في المراجعات العلمية المعاصرة- تعنى بالتوازن بين معادلة اليمين –اليسار، وبين التخطيط المركزي وسياسة دعه يعمل، وبين تدخل الدولة وسياسات السوق. العلاقة الجدلية بين  التقدم الاقتصادي الذي يؤدي إلى تأمين المساواة والاندماج وبالتالي تحقق بيئة ملائمة للمواطنة من خلال مواطن فاعل ونشط في شتى دوائر الحركة،وأن التراجع الاقتصادي يعوق المساواة والاندماج ويدفع المواطن إلى الانكفاء. فالدولة لا تتكامل وظائفها ولا تتهيأ للقيام بها على النحو التاريخي المأمول إلا إذا كانت تعكس في تكوينها العضوي ما تبلورت الجماعة السياسية على أساسه.[6]

     إن أحد معايير التقدم هو امتداد المواطنة للجميع بدون تمييز، فلا تكون المواطنة أفقية نخبوية قمية بل تمتد رأسيا في جسم المجتمع حتى تصل إلي قاعدته ويتحقق ما أصفه بالمواطنة القاعديةGrass Root Citizenship . في هذا السياق يهمني التذكير بتعريفنا الذي أقترحناه عاليه حول المواطنة.

 

     إن شعور أحد أطراف عملية الاندماج بأنه وحده يملك الحقيقة المطلقة، و أن باقي الأطراف عليهم التحرك تحت سقف أطروحات بعينها باعتبارها مطلقة وغير قابلة للنقد،وهو ما يعني إضفاء "المقدس" على المجال العام،إنما  يعد أمرا خطيرا لأن المجال العام الذي من المفترض أن تلتقي فيه كل الجماعات ليس مجالا للقاء المقدسات . لذا فالاندماج هو عملية مجتمعية Societalشاملة تحتاج إلى جهد وانفتاح وإعادة القيمة للدولة القومية [7]المؤسسة على المواطنة والاقتصاد الإنتاجي والاستقلال الوطني. البعد الأول هو " المواطنة الأفقية"Horizontal Citizenship:ويقصد بها العلاقة بين المواطن وشريكه المواطن والتي تتحقق من خلال تبني القيم المشتركة والعمل معا في إطار المجتمع المدني وعليه يحدث التكامل بين الجميع بغض النظر عن الاختلاف، البعد الثاني هو " المواطنة الرأسية"Vertical Citizenship والتي تعبر عن العلاقة المؤسسية بين المواطنين والدولة من خلال النظام العام والمؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية وما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات وخدمات وعقوبات وحماية و أمن.

 

ويعد التعليم على المواطنة من خلال مناهج يتم إعدادها بشكل علمي دقيق، من أهم الوسائل لتحقيق الاندماج التام لغير المندمجين من ذوي الدخول الصغيرة و الفئات المهمشة والمهاجرين،استعادة المنكفئين على أنفسهم من خلال حزمة من السياسات الاقتصادية كي ينخرطوا في بنية المجتمع بتعظيم استفادتهم من الخدمات العامة،المساواة في الفرص بين الجميع بالقوانين الملزمة والسياسات الداعمة،الحرص على تحقيق العدل بين كل المواطنين،... تزايد اللامساواة الاجتماعية،تنامي الاستقطاب والانقسام الاجتماعي،التوقعات المتزايدة لتوفير الخدمات الأساسية،الهويات المتناحرة ،عولمة الأسواق،الأداء الاقتصادي،التحول من المسئولية الاجتماعية إلى المسئولية الذاتية، التغير الاجتماعي المطرد،ثقافة الاستهلاك،انخفاض الثقة بالمؤسسات،الحركات الراديكالية السياسية،...الخ.

 

     الخلاصة لا يمكن أن يكون هناك بشر يعملون ويعيشون معا في مجتمع ما من أجل مستقبلهم المشترك من دون أن يكون لهم حضور فاعل ومشاركة حقيقية(أي مواطنة)..إلا ـ كما يقول هابرماس ـ بتمسك جميع المواطنين الصارم بما أسماه:Constitutional Patriotism "الولائية الوطنية الدستورية"[8]،والتوزيع العادل للثروة بين الجميع[9] ،على قاعدة المواطنة الثقافية.

 

مرفق:العناصر الداخلية لإعاقة المواطنة:

 

    * الليبراليون الجدد؛ الذين يؤمنون باقتصاد السوق والتحرر الاقتصادي المنفلت بلا رقيب وانسحاب الدولة من أدوارها الأساسية،أو بأولوية السوق على الوطن.

    *البيروقراطية المتضخمة؛ الهرمية البناء والمركزية التحكم والمحكومة بالتخصص الضيق والرقابة العقابية والضبط والاحتواء والملاحقة وإحكام السيطرة والاحتفاظ بحق المنع والمنح فيما يتعلق بمصالح الأغلبية لكنها على النقيض تماما تيسر مصالح أنصار اقتصاد السوق المنفلت.

    * التكنوقراط القدامى والجدد؛ القدامى الذين خرجوا من عباءة الدولة المركزية في الستينات وقادوا التحديث إلا أنهم عملوا على إعادة الطابع التقليدي وسعوا إلى  بالتضييق على آخرين أ يستفيدوا بما استفادوا منه. وعندما جاءت الحقبة النفطية تحالفوا مع البيروقراطية و قاموا بفك الارتباط بالتصنيع والانخراط في الاقتصاد الريعي داخليا وخارجيا.أما التكنوقراط الجدد فهم الذين عملوا مع الشركات العالمية و القطاع الخاص و هيئات المعونة الدولية وتبنوا سياسات التحرر الاقتصادي ولكنهم انفصلوا عن الواقع الاجتماعي بالرغم من تميز تعليمهم وتمكنهم من إجادة اللغات الأجنبية إلا أنهم لم ينخرطوا في البناء الرأسي للمجتمع فاهتموا بالتحديث الشكلي على حساب التغيير الجذري.

     *  الاقتصاد الريعي؛ حيث تحركت العناصر الثلاثة السابقة على قاعدة اقتصاد ريعي أمسك  الليبراليون الجدد  بمصادره واحتكروا عائده ، وخصصوا بعض الفائض لمن يخدمهم من التكنوقراط والبيروقراطية و توفير الحد الأدنى من الاحتياجات للأغلبية لإبقاء الأمر الواقع على ما هو عليه.

    *العودة إلي أشكال التنظيم الأولية؛ كان من نتاج انسحاب الدولة من مسئولياتها الأساسية أن عاد المواطن إلى دوائر الانتماء الأولية:الدينية والقبلية والعائلية والعشائرية.. بحثا عن الاحتياجات الأساسية المادية والمعنوية من التعليم والعلاج.

 

ويوجز الشكل التالي الفكرة..

 

 

الدولة الحديثة

 

اقتصاد إنتاجي

المواطنة

 

إعمال القانون

دولة الجميع

.        

.         

 

 

     

 

 

 

 

.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern