لابد وأن تبدأ من مراجعة الفكر والخطاب الدينيين، حيث أطلق مقولة لها وزنها نصها أن: “العنف يبدأ فكرا“( المصور 1987). وكان هناك شبع إجماع على ضرورة تجديد الخطاب الدينى الذى يؤدى إلى دورات من العنف المتكرر، لكن كان السؤال الذى يطرح نفسه هو كيف يتم ذلك؟
كيف يمكن أن يكون لدينا فكر وخطاب يدعم التقدم والنهوض، وهل هو أمر“قدري/ حصري“، أن يرتبط الخطاب الدينى بالعنف وبالتدمير وبكل ما هو يعوق التقدم، خاصة أن تاريخنا الحديث يشير إلى خطابات محمد عبده وعبد المتعال الصعيدى وشلتوت وحبيب جرجس والأنبا غريغوريوس ومتى المسكين ووليم سليمان قلادة وصليب سوريال وغيرهم ممن ساهموا فى إثراء الفكر الدينى فى مراحل مهمة من تاريخ مصر، من خلال تناولهم لقضايا حقيقية كبرى كانت تحتاج إلى معالجات دينية مبدعة، إلا أن ما ساد لاحقا هو نوع من الفكر الدينى ذات خطاب ضيق ومحدود الأفق ومغلق “امتنع ومنع“ التجديد، والمشكلة أنه ظل سائدا على مدى أكثر من أربعة عقود، وهو ما يجب أن نبحث عن أسبابه، متى ولماذا يكون الفكر الدينى مجددا ومن ثم خطابه والعكس.
فى هذا السياق، ربما يكون من المفيد أن نشير إلى تجربة من قارة أمريكا اللاتينية تعرف “بحركة لاهوت التحرير“؛ وهى من أهم الحركات الدينية التى اسمت بالطابع التقدمي، واسهمت فى تطور الفكر والخطاب الدينيين فى القرن العشرين. وظنى أن تأثيرها لا يقل عن تأثير حركة الإصلاح الدينى التاريخية فى مسيرة البشرية. وقد أسعدنى الحظ أن يقع فى يدى الكتاب الأساس “لاهوت التحرير“ لمؤسسه جوستافو جوتيريز فى عام 1988(ذكرى مرور 15 عاما على صدور الطبعةالأولى)، وقد كانت قراءة الكتاب ملهمة لى ودافعة لدراسة هذه الحركة فى رؤيتها للمواطنين فى علاقتهم بالدولة وبالنظام السياسى والنظام الاقتصادى وبالمؤسسات الدينية وبالواقع وبالجسم الاجتماعى الطبقى وتطلعات“الغلابة“.. إلخ، دون أن يقدموا أنفسهم كبديل سياسى لما هو قائم؛ فقط تمكين الناس أن يدركوا الواقع الأليم الذى يعيشون فيه منذ قرون على أسس علمية (نشرت دراسة شاملة عن هذه الحركة لأول مرة باللغة العربية فى مصر بمجلة القاهرة ـ يناير 1994).
محصلة هذا الجهد تجسد فى “فكر وخطاب“ دينيين متجدد وتقدمي، فكر وخطاب ألهما أهل أمريكا اللاتينية بضرورة التحرك الإيجابى،من أجل بناء قارة عانت من الظلم بفعل الاستعمار الاستيطانىالذى تعرضت له فى القرن الخامس عشر، ثم من ما عرف لاحقا بطبقة “الكريول“ الحاكمة: تحالف السلطة والثروة والدين، فى ظل اقتصاد “شبه إقطاعي“ بشكل عام بالنسبة للقارة اللاتينية، و“شبه عبودي“ (حالة التوظيف المنجمي) أو “عبودي“ فالبرازيل تحديدا، وتشير القراءة التاريخية للقارة اللاتينية كيف تنحاز فى لحظات معينة المؤسسة الدينية ضد مصالح الناس، وهو ما يفتح النقاش الموسع حول: دور الدين فى المجتمع، وموقف الدين من المستضعفين.. إلخ. ( وهو ما أشرنا له فى مقالين مبكرين مطلع 2013 فى نفس هذا المكان إبان حكم الجماعة فى مصر: هل«تتحيز» الحركات الدينية اقتصاديا/اجتماعيا؟ ونعم الحركات الدينية تنحاز طبقيا).
كان جوهر مشروع لاهوت التحرير، «ثقافى روحي» فى المقام الأول، وليس سياسياً، يعتمد أسلوب التكوين والبناء الثقافي–الروحى لكل من الإنسان والجماعة. فمن جانب تؤمن حركة لاهوت التحرير بأن «الثقافة – الوعى» سلاح فاعل من شأنه أن يهيئ التربة الصالحة ويوفر المناخ اللازم لإحداث التغيير المنشود من قبل أصحاب المصلحة الحقيقية المقهورين فى مواجهة «القاهرين»، فيحدث التطور الاجتماعى .
من جانب آخر، تؤمن حركة لاهوت التحرير «بالإنسان» باعتباره صورة الله و»بالمجتمع « الذى يتكون من أناس هم أبناء الله المطلوب أن يلعبوا دوراً فعالاً / واعياً معا، استناداً إلى الفهم والمعرفة بالقوانين الموضوعية للواقع الاجتماعى لتحقيق الحياة الأفضل. كل هذا دون أى تدخل ـ فسرى أو تحديد مسبق لملامح الحياة الأفضل من قبل الحركة. هذا هو جوهر مشروع لاهوت التحرير، فماذا عن الأسس التى انطلقت منها أفكاره، والمفاهيم الأساسية التى تبناها كمداخل أساسية نحو بناء المجتمع الجديد دون إقصاء أو تهميش أو استبعاد لأحد، خاصة المهمشين والمستضعفين والفقراء..إلخ، وكيف نجح فى التواصل مع الناس، وبالتالى ما هى الآليات التى تبناها فى تحليل الواقع، فجاء خطابه رفيع المستوى فشتى مساحات النقاش. نجيب فى مقالنا القادم. ونواصل.