فى محاولة لتفسير حركات اليسار واليمين الجديدة فى أوروبا البازغة مطلع هذا العقد، أصدرت مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية دراسة بعنوان: يسار، يمين وما وراءهما... كان من أهم ما رصدته الدراسة هو أن الأحزاب القديمة التى حملت لواء اليمين واليسار منذ الحرب العالمية الثانية لم تستطع أن تُفعل ما تحمله من شعارات على أرض الواقع من جهة. كما لم تنجح فى أن تلبى تطلعات الجماهير التى تنتمى إليها، ما دفع إلى إعادة النظر فى جدوى ما يطرحه كل تيار على المواطنين من قيم وأفكار وتصورات وسياسات. وتمت مقاربة مدى إشكالية الجدوى بأبعادها من زاويتين كما يلي:
الأولي: من منظور الفلسفة السياسية؛ حيث ترصد الدراسة توافق كثير من الباحثين على أنه لا خلاف، من حيث المبدأ، على أن التقليدين الفكريين: اليمين واليسار لا يمكن الاستغناء عنهما. وأنهما يستمدان حضورهما فى عقل المواطنين من التناقضات الموجودة فى المجتمع وتنوع الرؤى والتحيزات. وهو ما يتجلى فيما يطرحه كل توجه من قيم مثل: التقدم فى مواجهة الاستقرار، والمساواة فى مواجهة الحرية.
أما زاوية الرؤية الثانية فكانت من: المنظور الاجتماعى العلمي, حيث ظهرت الحاجة الماسة العملية والميدانية إلى ضرورة الارتباط المباشر مع المواطنين من خلال اتباع قدر من المرونة فى الممارسة السياسية المنحازة لتطلعات المواطنين بوضوح. بلغة أخرى يجب ان تكون الفكرة والمؤسسة فى خدمة المواطن. وهنا يضمن التيار الاستمرارية والفاعلية فى الحياة السياسية على قاعدة الحضور المواطنى للتعبير عن أحلامهم وآلامهم. أخذا فى الاعتبار القبول بالتنوع. فليست هناك طبعة واحدة لليسار, كما لا توجد نسخة معتمدة لليمين, لا من حيث الأفكار او الشكل التنظيمى.
وهكذا، يجمع اليسار واليمين بين الحضور المواطنى العريض ــ لا النخبوى الضيق والمغلق ــ وبين الأفكار الجوهرية اليمينية واليسارية، شريطة المرونة والعملية بالاستجابة المباشرة لاحتياجات المواطنين وترجمتها إلى سياسات...وهنا يستهدف كل من اليسار واليمين الجديدان الأغلبية من المواطنين غير ممثلين فى الأحزاب التاريخية التقليدية والتى صارت أقرب إلى المنتديات ذات العضوية المغلقة. لذا لا تهتم الأحزاب والحركات الجديدة البازغة بفكرة العضوية الحزبية أو الحركية وإنما بحشد وتعبئة المناصرين للقضايا التى تكون محل اهتمام التيار الرئيسى من المواطنين وتضامنهم تجاه الخصوم التى تعادى الأغلبية وليس فئة أو شريحة بعينها. ومن ثم تعمل على تأمين دعمهم بغض النظر عن درجة يمينية أو يسارية هؤلاء المناصرين، أو ما يعرف بالمواطنين المناصرين أو المحاذين أو الداعمين أو المحازبين.
وتتفق كثير من الدراسات على أن الحركات والأحزاب الجديدة قد نجحت فى التموضع السياسى فى الجسم الديمقراطى بأحزابه القديمة. ولابأس من أن تلتقى الاتجاهات المختلفة الفرعية المتناقضة حول مشكلة تواجه القاعدة العريضة من المواطنين والتوافق على حلها فى الحد الأدنى. وهكذا تتحرك التيارات المتناقضة فى لحظة من اللحظات ليس كيسار ويمين وإنما كحركة تعبر عن عموم المواطنين على اختلافهم. أى كحركة مواطنية. ولعل الموقف من المهاجرين غير الشرعيين يعكس كيف توافق اليسار واليمين الجديدين فى بعض الدول, ضد الأحزاب الحاكمة المصنفة يمينا ويسارا, على رفض قبولهم ذلك لأن هؤلاء الوافدين سوف يمثلون تهديدا للمواطنين. وقد رصدنا فى أكثر من مقال سابق الصعود اللافت لليمين واليسار الجديدين فى صورتهما الحركية أو الحزبية فى كل دول أوروبا تقريبا. وهو موضوع سوف نعمل على تفصيله لاحقا خاصة مع صدور عدد غير قليل من الإصدارات أخيرا تتضمن بثا شاملا وكاملا وتصنيفيا وتفصيليا للأحزاب والحركات اليمينية واليسارية الجديدة التى تفكر وتعمل وتتحرك بالمواطنين ولصالحهم كتجسيد عملى للمواطنية الجديدة، واستطاعت بالفعل فى الأعوام السبعة الأخيرة أن تخلخل الحياة السياسية التقليدية المستقرة منذ عقود فى أوروبا وتنجح فى التشكل والتصاعد والتنافس بداية بحركة بوديموس الإسبانية ونهاية بما جرى فى فنلندا والسويد أخيرا من صعود أحزاب يمينية ويسارية جديدة تنافس مثيلاتها من أحزاب قديمة بل يفوز بعضها (مرورا بإيطاليا، وفرنسا، والنمسا، واليونان، وألمانيا، والمجر،...، إلخ)... ويهمنى فى هذا المقام تأكيد أمرين هما: الأول: تأكيد أن هناك صعودا لليمين ولليسار الجديدين على السواء خاصة أن الكتابات العربية تركز على صعود اليمين وهو أمر غير صحيح. الثاني: توصيف الكتابات العربية للحراكات القاعدية الأوروبية باعتبارها شعبوية وقومية بالمطلق وهو أمر غير صحيح أيضا...
إن جديد الحركية المجتمعية الأوروبية (الأحزاب والحركات) هو تعبير مستجد عن حالة مجتمعية جديدة تشهدها أوروبا تزاحم القديم من الأحزاب والحركات. ونظرا لأن المجتمعات الأوروبية تملك من التقاليد والضوابط التى تحول دون إحداث تغيير يقلب الواقع رأسا على عقب، فان ما يحدث بحسب ما جاء فى إحدى الدراسات هو نوع من الجدل بين العمل فى ظل الشرعية القائمة وبناء أخرى جديدة من خلال الممارسة. أو جدل الاستمرارية والانقطاع...ما يعنى أن الأمر يتجاوز اليمين واليسار فى الحقيقة إلى تجديد الحياة السياسية برمتها: الأفكار، والمؤسسات، والسياسات، لمصلحة المواطنين.