إنّ أىّ لاهوت يدَّعى الاستناد إلى الكتاب المقدس أو العقيدة أو التاريخ ليبرّر الاحتلال إنما هو بعيد عن تعليم الكنيسة…».
(1)
بهذه العبارة، نتابع قراءتنا لوثيقة «وقفة حق»، الوثيقة التى أطلقتها مجموعة من القيادات الفلسطينية المسيحية (الدينية والمدنية)، حيث تواجه الوثيقة بحسم الاتجاهات التى انتشرت فى الغرب والتى تفسر الآيات التوراتية لتبرير الحقوق الإسرائيلية السياسية..
وتقول الوثيقة بوضوح: إنّنا نرى بعض اللاهوتيّين فى الغرب يحاولون أن يُضفُوا على الظلم الذى لحق بنا شرعيّة لاهوتيّة وكتابيّة. فأصبحت المواعد(الوعود)، بحسب تفسيراتهم، تهديدًا لكياننا، و«البشرى السارّة» فى الإنجيل نفسه أصبحت لنا «نذيرَ موت». إنّنا ندعو هؤلاء اللاهوتيّين إلى تعميق الفكر فى كلمة الله وإلى تصويب تفسيراتهم حتى يروا فى كلمة الله مصدر حياة لكلّ الشعوب.
(2)
وتشير الوثيقة فى هذا السياق إلى خطورة هذه التفسيرات وما يترتب عليها من ظلم على أرض الواقع.. فحاشا لله أن تتسبب الكلمات الإلهية فى أن يقع الظلم بأحد فيحرمه من أرضه أو يعرضه للأسر والتهديد والذل والمهانة واليأس فى تحقيق العدل.. وتقول الوثيقة فى هذا المقام»: إنَّ صلتنا بهذه الأرض حقّ طبيعىّ، وليست قضيّة أيديولوجيّة ولا مسألة نظريّة لاهوتيّة فقط. هى قضية حياة أو موت. قد يكون هناك من لا يتّفق معنا بل يناصبنا العداء فقط لأنّنا نقول إنَّنا نريد أن نعيش أحرارًا فى أرضنا. لأنّنا فلسطينيّون نعانى من الاحتلال لأرضنا، ولأنّنا مسيحيّون نعانى من التفسيرات المغلوطة لبعض اللاّهوتيّين. وأمام هذه الحال، تقوم مهمّتنا بأن نُبقِىَ كلمة الله لا مصدر موت بل مصدر حياة، وبأن نُبقيَ «البشرى السارّة» على ما هى، «بشرى سارّة» لنا ولكلّ الناس. وأمام من يهدّد كياننا، كفلسطينيّين مسيحيّين ومسلمين، بالكتاب المقدس، إننا نجدّد إيماننا بالله، لأنّنا نعلم أنّ كلمة الله لا يمكن أن تكون سبب دمار لنا.
(3)
وعليه تعلن الوثيقة بصراحة وبصرامة فى آن.. «إنّ استخدام الكتاب المقدّس، لتبرير أو تأييد خيارات ومواقف سياسية فيها ظلم يفرضه إنسان على إنسان أو شعب على شعب آخر، يحوّل الدين إلى أيديولوجيّة بشريّة ويجرّد كلمة الله من قداستها وشموليّتها وحقيقتها».. وهو ما يؤدى بحسب الوثيقة إلى العنف والحرب المقدّسة باسم الله، ويُخضِع الله سبحانه لمصالح بشرية آنِيّة، ويشوّه صورته فى الإنسان الواقع فى الوقت نفسه تحت ظلم سياسىّ وظلم لاهوتىّ.
(4)
لقد بلورت الوثيقة مجددا الموقف التاريخى الثابت لمسيحيى المنطقة الرافض لتوظيف الكتاب المقدس لتبرير الظلم والاحتلال.. من خلال دحض الأسس الثلاثة التى تقوم عليها الاتجاهات التفسيرية اللاهوتية الداعمة لإسرائيل ألا وهى: «أن هناك وعدا إلهيا معطى لليهود»، و«الاصطفاء الإلهى لليهود دون غيرهم»، «وتأسيس المملكة أو الدولة».. وسارت على نفس الدرب الذى سار فيه التراث المسيحى اللاهوتى فى منطقتنا فى دحض هذه الدعاوى.. فعلى صعيد مصر لابد أن نذكر الكتابات المبكرة من شخصيات دينية ومدنية التى أسست لمواجهة التفسيرات التوراتية السياسية التوظيف، بداية من البابا شنودة الثالث (1966)، ومراد كامل(1967)، ووليم سليمان قلادة(1968)، والأنبا غريغوريوس (1971)، ميشيل فرح(1974)، القس مكرم نجيب(1997).. سمير مرقس (2003).
أما على الصعيد العربى فنذكر الأب حنا قربان (1969)، والأب يواكيم مبارك (1970)، وكوستى بندلى (1985)… إلخ.
(5)
إن الوثيقة هى حلقة من حلقات نضال مسيحيى المنطقة مع مسلميهاـ فى الدفاع عن الحق الفلسطينى.. وهنا نذكر أعمال الندوة العالمية من أجل فلسطين والتى عقدت فى بيروت فى مايو من العام 1970.. والتى قامت بدراسات تفصيلية من شتى الجوانب وكان الندوة «.. ثمرة طيبة للتعاون بين الدراسة العلمية الموضوعية للتاريخ وللوضع الراهن للقضية وبين التعمق اللاهوتى..».. وكانت انطلاقة مهمة فى ذلك الوقت لتجسيد موقف مسيحى عربى موحد من القضية الفلسطينية ورفض «.. استغلال نصوص الكتاب المقدس لأغراض التسلط السياسى.. والذى يؤدى واقعيا إلى إضفاء الشرعية بواسطة الكتاب المقدس على أنواع الظلم الفادح الواقع على الشعب الفلسطينى».
إن هذا الموقف الجماعى سار على نهجه مجلس كنائس الشرق الأوسط وقد كانت له أسبقية فى إعداد دراسات مبكرة تكشف الصهيونية المسيحية(ما هى الصهيونية المسيحية الأصولية؟ والمهمة التى تواجهنا: الفكر الدينى اليهودى المعاصر ومتطلبات التضامن).. كذلك مطبوعات الفريق العربى للحوار الإسلامى المسيحى (الصهيونيون المسيحيون والمسيحية المتصهينة)..
(6)
تحية واجبة لمطلقى وثيقة «وقفة حق»، التى تصدر فى وقت حرج من تاريخ الصراع فى المنطقة.. لأنها سعت إلى تجديد الأمل والرجاء فى النفوس.. والتأكيد على «.. صمود الأجيال واستمرار الذاكرة التى لا تنسى النكبة ومعانيها.. ، إيمانا «.. بعدالة قضيّتها.. » وهو ما سوف يعمل أصحاب الوثيقة على أن يصل إلى كل مكان فى العالم.