روح العصر وتحولاته المتجددة

’’روح العصر‘‘؛ مفهوم "استنبطته الفلسفة الألمانية ــ عُرف بإسم “Zitgeist”ــ بالغ الأهمية يعبر عن كيفية فهم مسيرة التاريخ وسمات مراحله المتعاقبة. ويعين على عقد المقارنات بينها من جهة. ويفتح آفاقا لإدراك المستقبل...
وتعبير "روح العصر"، استخدمه كثير من المفكرين في تناوهم

للتاريخ والحاضر. منهم على سبيل المثال لا الحصر المنظر والمفكر الاقتصادي المصري العالمي الذي رحل عن دنيانا منذ عام "سمير أمين"(1931 ــ 2018، ومسجلة نظرياته في الموسوعة البريطانية). حيث كتب كتابا كاملا بعنوان "روح العصر"، شارحا فيه أهم ما لحق بالعالم اقتصاديا واجتماعيا في مطلع القرن الجديد. ألحقه بكتاب آخر بعنوان "نقد العصر". وكأن لسان حاله أنه لا يكفي أن نرصد روح العصر وإنما يجب أن يكون لدينا حسا نقديا يساعدنا على عدم الاستسلام للعصر أي عصر. خاصة إذا ما سادت فيها التحولات السلبية وكأنها قدر لا فكاك منه. واكتشاف سبل ومسارات جديدة أفضل للإنسان في كل زمان وللمواطن في كل مكان.
إلا أن هناك من الكُتْاَب من بات مصطلح "روح العصر" هو المصطلح الحاكم لكل كتاباتهم. وأقصد بذلك الكاتب والروائي والباحث اللبناني "أمين معلوف"، الذي اُنتخب عضوا في الأكاديمية الفرنسية عام 2011...فمنذ كتابه، ألأشهر، "هويات قاتلة". الذي صدر عام 1999، باللغة العربية عن دار النهار البيروتية ــ أي منذ عشرة أعوام بالتمام والكمال ــ حتى كتابه الأخير " غرق الحضارات" الذي صدر منذ شهر تقريبا عن دار الفارابي(وقد حصلت على جائزة التحكيم الخاصة بالكتاب الجيو ـ سياسي)، سوف نجد كلمة "روح العصر" متناثرة في كتابيه الأول والأخير بشكل يعكس دأب "أمين معلوف" على أن يرصد تفاصيل الزمن الذي نعيش فيه.
وهو الدأب الذي يبدو جليا في أعمال "أمين معلوف"، الذي حصل على جائزة "أمير أستورياس الإسبانية" عن مجملها في 2010. وهي أعمال يمكن تصنيفها في ثلاثة أنواع: النوع الأول: أعمال أدبية تتمثل في أعماله الروائية مثل: بدايات الحائزة على جائزة المتوسط، وسمرقند، والتائهون، وصخرة طانيوس الحاصلة على جائزة "جونكور" 1993،والقرن الأول بعد بياتريس. والمسرحية الغنائية الحب عن بعد. والنوع الثاني: مؤلفات تاريخية مثل: الحروب الصليبية، ومقعد على ضفاف نهر السين. أما الثالث: الدراسات مثل: كتاباه "هويات قاتلة" و"غرق الحضارات" بالإضافة إلى كتاب ثالث هو "اختلال العالم"(صدر في 2009 عن دار الفارابي). حيث يمكن تصنيفهم تحت مسمى: دراسات جيو / سياسية، أو دراسات سوسيو / اجتماعية. أو تأملات / لقطات فكرية ثقافية ألمعية...والنوع الأخير من كتابات "أمين معلوف" ــ أي الدراسات ــ هي التي سنركز عليها لأهميتها وأهمية المنهج الذي يقاربه "أمين معلوف" في تناوله للعصر ومحاولته اكتشاف روحه وتحولاته. فهي مقاربة تثير الكثير من الأفكار والإشكاليات. وفي معرض تفسير فكرة ما أو تفكيك إشكالية يستدعي الكثير مما يحفظه في ذاكرته ومشاهداته وقراءاته. فليس بالضرورة الاتفاق على ما يستخلصه "أمين معلوف" من آراء ولكن بالتأكيد سوف يغريك ثراء النص بالاشتباك معه. وقبل ذلك إعادة النظر في الكثير مما نعتبره غير قابل لإعادة النظر.
الكلمة المفتاحية لمنهجية معلوف" في مقاربته لروح العصر هي قوله الواضح: "إحدى سمات عصرنا لدى مقارنته بما سبقه من عصور. فيما مضى"...أنه كان "يتراءى للبشر أنهم زائلون في عالم لا يتغير"؛..."يعيشون في الأراضي التي عاش فيها أهلهم، يشتغلون مثلما اشتغلوا، يعتنون بأنفسهم مثلما اعتنوا بحالهم، يتعلمون مثلما تعلموا، يُصلُون على المنوال نفسه، ويتنقلون بالوسائل نفسها. لقد ولد أجدادي الأربعة وجميع أسلافهم منذ اثني عشر جيلا في ظل السلالة العثمانية فكيف لا يخالونها خالدة؟"...
هنا مربط الفرس، أو اللقطة التي يركز عليها "أمين معلوف". فسمة عصرنا الراهن هي التغير النوعي المطرد، أو في قول آخر، بحسب ما دائما أردد: ’’إنه زمن تضاعف المعرفة والتجدد التكنولوجي‘‘...فلا خلود لما هو نسبي. خاصة وأن التغير لا يقاس بكميته أو وإنما بنوعيته. لذا يقول "معلوف" أن: "البشرية تتحول أمام أعيننا". والأهم هو أنه "لم يسبق أن كانت مغامرتها واعدة أو محفوفة بالمخاطر بمثل هذا القدر" غير المسبوق على مر العصور. فما كان مستقرا في "الزمانات" لأجيال أصبح عرضة للتحول المتجدد / المتضاعف في الجيل الواحد.
ومنعا للالتباس حول موقفه من العصر وتحولاته يؤكد "أمين معلوف" قلقه ولكنه ــ يستدرك ــ بأنه ليس ناقما على العصر. يعود مصدر قلقه من هؤلاء الذين يخشون التغيير أو يفزعون من وتيرته. ذلك لأن العصر سوف يتجاوزهم وسوف يتجاوز واقعهم الرافض أو المتردد في قبول / الراغب بشروط للتغيير. أما عن موقفه فهو "مفتون" بالعصر. "بما يأتينا به" من طفرات معرفية وعلمية وتقنية. ما يجعل الجيل الحالي يعد محظوظا جدا بالنسبة إلى "الأجيال التي سبقته"...
إلا نه سرعان ما يعلن عن مخاوفه المستقبلية وتداعياتها على الكتلتين البشريتين: الكتلة التي تشعر بامتيازها وتميزها من جانب. والكتلة التي تعيش في منطقتنا، تحديدا، والتي يصفها "أمين معلوف" بأنها: "واقعة في شرنقة مأزقها التاريخي"...وهو ما سنتابعه في مقالنا الأسبوع القادم...من خلال ثلاثية: الصراع والاختلال والغرق...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern