دراسة في التطور التاريخي للمساواة من منظور المواطنة...1

“مساواة” أو “لا مساواة”؟. هذا هو السؤال المحوري الذي شغل الفكر الإنساني منذ أقدم العصور.المساواة القادرة علي تحقيق العدالة بين البشر،قدر الإمكان.لقد كانت حركة الإنسان عبر التاريخ موجهة أساسا لسد الفجوة بين التفاوتات المختلفة بين البشر ومحاولة بلوغ المساواة بين البشر بشتي الطرق. لذا يمكن أن نلخص المسيرة الإنسانية: فكرا وممارسة بأنها كانت تعبر عما يمكن أن نطلق عليه “جدل المساواة والتفاوت”.

وعليه ليس غريبا أن يتجدد الحديث عن “المساواة” عقب كل أزمة كونية تمس العدل بين البشر.وأن يحتل موضوع المساواة اهتماما وعناية كبيرة عقب الأزمة الاقتصادية الكونية الأخيرة.ويعاد طرحه من جديد باعتباره ضرورة حتمية لمستقبل الجنس البشري.
وعلي مدي الأسابيع القادمة سوف نقترب من قضية المساواة من منظور المواطنة من خلال عرض الكثير من الأفكار التي جاءت في العديد من المساهمات الفكرية المعتبرة خاصة الصادرة حديثا.حيث نتناول الموضوعات التالية:
– المساواة تاريخيا من حيث جذورها التاريخية والإطار العام لمناقشتها،
– ظهور مبدأ الحق في المساواة،
– تتبع التطور الاقتصادي والاجتماعي لجدل المساواة ـ التفاوت علي أرض الواقع،
– المواطنة والدعوة للمساواة للجميع،
– الليبرالية الجديدة وصناعة التفاوت،
– الجدل الحالي حول المساواة وتكافؤ الفرص،
(ا) الجذور الفكرية للمساواة والإطار العام لمناقشتها
احتلت قضية العدالة اهتماما كبيرا في الفكر الإنساني منذ فجر التاريخ،فلقد طرح أفلاطون ـ أي في القرن الرابع قبل الميلاد ـ في كتابه الجمهورية سؤالا أوليا،ربما يكون صالحا للطرح حتي يومنا هذا،ألا وهو “هل من الممكن ممارسة الدولة المتحكمة لسيطرتها بدون العدالة،أم أنها مضطرة إلي توخي العدالة؟”.

وإجابة عن هذا السؤال اعتبر أفلاطون العدالة هي الحكمة، وعليه “فإن هذه السيطرة لا تمارس إلا بالعدالة”.وانطلاقا من هذه القاعدة انتقل أفلاطون من خلال محاوراته إلي الحديث عن الدولة التي منوط بها أن تحقق هذه العدالة،فالفرد مهما اتصف بالعدل فإنها تظل فضيلة شخصية يمكن أن يحقق بها بعض الأمور علي المستوي الفردي إلا أنه سيعجز حتما أن يقوم بذلك لباقي أفراد المجتمع.وهنا تأتي أهمية الدولة من أنها “تنشأ عن عجز الفرد عن الاكتفاء بذاته”من جهة، كذلك تنامي الاحتياجات لدي باقي أفراد المجتمع من جهة أخري.
في ضوء ما سبق يعدد أفلاطون الاحتياجات التي علي الدولة أن توفرها لمواطنيها، فيذكر”المأكل باعتباره أول الاحتياجات، لأنه شرط الحياة والوجود.وثاني هذه الاحتياجات المسكن، وثالثها الملبس وما شابهه.”.ويتجه الحديث منطقيا إلي الحديث عن تنظيم المجتمع من خلال سياسات تتوافق مع أهدافه، وعلي قاعدة عمل إنتاجي يضمن للجميع أن يكونوا في “رغد من العيش”.ويدرك أفلاطون أن الدولة ليست هدفا بعينه وإنما طبيعة الدولة نفسها هي التي يجب أن تكون معُرفة ومحددة.

هذا هو الإطار العام للنظرية السياسية لأفلاطون والتي تمثل قاعدة نظرية وعملية لتناولنا لقضية العدالة أو المساواة بين البشر ودور الدولة بمكوناتها في ضمان تحقيقها.وهو وإن كان يتناول هذا الأمر تارة من خلال أفكار نظرية عقلية مجردة وتارة من خلال أفكار عملية من خلال خبرة زمانه،إلا أنه في الحالتين قد استطاع أن يرسم لنا ضوابط لمناقشة قضية العدالة – المساواة بقيت صالحة إلي يومنا هذا،بغض النظر عن أي نقد يمكن أن يوجه للتفاصيل التي أتت في سياق كتابه،والتي منها علي سبيل المثال أنه ينطلق من نظرة للعدالة محافظة تدعو لاستقرار الأوضاع وتجميدها.بيد أنه في كل الأحوال يحسب له ما يلي:
– أنه وضع أسسا حكمت أي مناقشة لاحقة ـ بدرجة أو أخري ـ حول قضية العدالة – المساواة أخذا في الاعتبار التطورات التي استجدت علي العلوم السياسية والاجتماعية بحكم التطور الاجتماعي والاقتصادي الذي لحق بالمجتمعات الإنسانية علي مدي التاريخ.
– وأن أي مناقشة لقضية العدالة – المساواة لا تستقيم بغير الحديث عن:
1) طبيعة الدولة،
2) البناء الاجتماعي القائم،
3) السياسات المتبعة في شتي المجالات،
4) نمط الانتاج والعمالة،
وأخذ هذا النهج يتطور بتطور المجتمع،واتبعه كل المفكرين والسياسيين والممارسين للعمل الاجتماعي والتنموي لاحقا،وأولهم أرسطو الذي تقدم بأفكار أفلاطون خطوة للأمام عندما تحدث في كتابه “الأخلاق” عن كل من “العدل العام” و”العدل الخاص”.وحول العدل الخاص نجده يشير إلي ما أطلق عليه:
ــ العدل التوزيعي،
ــ والعدل التعويضي العلاجي،

وفي هذا السياق،نجده يربط بين العدالة والمساواة، ولعل هذه الفكرة تعد من أهم إسهاماته،حيث فسر العدل التوزيعي بأنه كل ما يتعلق”بتوزيع الطيبات من الثروة والأوضاع الأدبية وسائر المزايا التي تقبل التقسيم بين أفراد المجتمع”،وفق قواعد تفضيلية معينة.أما عن العدل التعويضي فقد ربطه ـ أرسطو ـ بالمعاملات المدنية الطابع.الخلاصة أن رؤية أرسطو تقول إن العدل في النهاية ما هو إلا نوع بعينه من التوازن الاجتماعي بين أفراد المجتمع،ومن ثم يمكن إطلاق صفة العادل علي كل مجتمع يتحقق فيه هذا النوع من التوازن المطلوب كما يمكن إطلاقها علي أي إجراء (سياسة) من شأنه أن يفضي إلي مثل هذا التوازن.
ومع مرور الزمن بات المجتمع ينتقل من مرحلة تاريخية إلي أخري،ودوما كان يتسم هذا الانتقال بحدوث تغيرات بنيوية في البني الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية،وكان تواكب ذلك أفكار حول العدالة – المساواة،ومحاولات نضالية تجعل من الأفكار موضع التطبيق، وهو ما يمثل اختلافا جوهريا عن مرحلة التفلسف الأولي التي كانت في اليونان القديمة.

(ب) التطور الاجتماعي ومبدأ الحق في المساواة
أطلقت مجتمعات العصور الوسطي تبلور وحدات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية أكثر تعقيدا من المجتمعات القديمة،وذلك من رحم النظام الإقطاعي.اتسمت هذه الوحدات بأنها كانت شبه مستقلة غلب علي نشاطها الاقتصادي الإنتاج الزراعي بقصد الاستهلاك الذاتي داخل الإقطاعية، حيث كان السيد الإقطاعي هو المالك الحقيقي لجميع الأراضي الزراعية،وإن كان يقسمها إلي قسمين، قسم يحتفظ به لنفسه ويلتزم الفلاحون بزراعته له بدون أجر والقسم الثاني كان يوزعه عليهم ليقوموا بزراعته ثم يقتطعون جزءا من المحصول لاستهلاكهم الذاتي هم وأفراد عائلاتهم في حين يلتزمون بأن يسلموا إليه باقي المحصول.وفي نفس الوقت كانوا يلتزمون ببعض الالتزامات الأخري كالعمل في قصر السيد وتأدية بعض المهام الخدمية.وفي المقابل كان يمنحهم الحماية.

لإيجاز يمكن القول ان فكرة العدالة – المساواة لم تنل الاهتمام الكافي خلال هذه الفترة، فلقد كان الاهتمام الأكبر يصب لصالح قضية التوفيق بين السلطتين السياسية والدينية.ولم تنل مشكلة العدل التوزيعي أي اهتمام، أو بعبارة أخري ما الذي ينبغي أن يكون عليه التوزيع العادل والمتساوي بين الأفراد – المواطنين للدخول والثروات وسائر المزايا والأعباء الاجتماعية.

ولعل حرب الثلاثين سنة في أوروبا، والتي انتهت بمعاهدة وستفاليا 1648،قد استطاعت أن تنقل أوروبا من إقطاعيات متنافسة إلي دول ذات سيادة،محققة المساواة فيما بينها والتي كانت المدخل إلي المساواة بين البشر في كل دولة علي حدة بيد أن هذه المساواة الداخلية بين أفراد كل دولة علي حدة لم تتحقق تلقائيا وإنما بجهد وحركة الناس النضالية لتحقيق المساواة في الداخل.

يقول هارولد لاسكي (1893ـ 1952)،في كتابه:”نشأة التحررية الأوروبية”،ما يلي: “. في المدة ما بين حركة الإصلاح والثورة الفرنسية،وضعت طبقة اجتماعية جديدة أسس حقها في نصيبها الكامل في إدارة الدولة:وقد هدمت ـ في ارتقائها للقوة ـ الحواجز التي كانت تجعل الامتياز مترتبا علي المركز الاجتماعي في كل مجالات الحياة. “.
هكذا تولدت علاقات اجتماعية جديدة من ظروف مادية جديدة، وأعتبرت الليبرالية التاريخية انتصارا باهرا ـ بحسب رمزي زكي ـ علي “النظام الإقطاعي وما يمثله من:
ـ استبداد،
ـ وعبودية وظلم،
ـ وقهر حرية الفرد وحقوقه،
وقد أدت هذه الانتصارات إلي:
إدراك أن للفرد العديد من الحقوق، لعل من أولها حقه في المساواة، خاصة في ظل النظام الرأسمالي والملكية الخاصة،وخاصة أنه نظر إلي ذلك باعتباره ـ بحسب جون لوك ـ حقا طبيعيا.

(ج) التطور الاجتماعي وجدل المساواة – التفاوت
ولأن المجتمع لم يعد هو المجتمع البسيط الإقطاعي، وإنما بات المجتمع أكثر تركيبا عقب الثورة الصناعية وحدوث نقلات علمية وتكنولوجية مذهلة،فلقد ثارت قضايا معقدة حول:
*الأجر والربح، والعدالة الاجتماعية، وأنظمة الضمان الاجتماعي.
خاصة مع الوضوح التام لظاهرة التفاوت الاجتماعي أو اللامساواة،والذي اعتبره جان جاك روسو شكلا من أشكال العنف والإكراه مهما تذرع بالقوانين والسنن.
وهنا لابد من الإشارة إلي أن مفهوم المساواة، في معناه الحديث، يدين بالكثير إلي عصر الأنوار من جهة،وإلي روسو من جهة أخري.فهو يحمل المجتمع مسئولية وجود اللامساواة،فلا يوجد تفوق طبيعي للبعض علي الآخرين وينبغي علي الدولة بمؤسساتها أن تعتبر جميع الأفراد سواسية منذ ولادتهم وعليها أن توفر وتضمن، عبر القانون، المساواة في الحق.
– الحلقة الثانية: المواطنة والدعوة إلي المساواة بين الجميع.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern