(1)
دائما هناك أحداث ووقائع تشغلنا عن الكثير مما يستحق بحق الاهتمام والنقاش.. وكثير من القضايا والملفات ذات الشأن فى حياتنا لا يستغرق اهتمامنا بها سوى أيام أو أسابيع سرعان ما ننصرف عنها إلى غيرها أو نُستهلك فى تفاصيل لا تفيد..
وفى غمرة الاهتمام بمباراة مصر والجزائر وتداعياتها، المرفوضة تماما.. أصدر مكتب البنك الدولى عن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا(وتقع مصر والجزائر فى نطاقه) تقريراـ قبل منتصف الشهر الحالى يحذر فيه من الامتيازات التى قد تعطى للبعض فى مجال الاستثمار على حساب الآخر، وتغليب المصالح الضيقة على المصالح العامة.. خاصة أن المنطقة فى حاجة إلى توفير 40 مليون فرصة عمل جديدة فى السنوات العشر القادمة.
ما أهمية هذا التحذير.. وما وجه الغرابة فيه.. وما أهم الأفكار التى تضمنها التقرير بالإضافة إلى ما تقدم.. وما الجديد الذى جاء فيه ويختلف عما يروجه بعض ممن لا يزالون يعتنقون أفكار الليبرالية الجديدة فى بلادنا.. ولأهمية هذا التقرير سوف نعرض ما تضمنه على مدى حلقتين.
(2)
بداية يأتى هذا التحذير من البنك الدولى.. والبنك الدولى، لمن لا يعلم، ومعه صندوق النقد الدولى، يعتبران الأساس المؤسسى للنظام الاقتصادى على المستوى العالمى منذ العام 1945.. وقد تأثر كل منهما بحسب حازم الببلاوى بالانقسام الأيديولوجى بين المعسكرين الغربى والشرقي، وانحازا إلى المبدأ الرأسمالى..
وهذا منطقى خاصة إذا ما علمنا أن البنك الدولى (بعناصره الثلاثة البنك الدولى للإنشاء والتعمير IBRD، ووكالة التنمية الدولية IDA، ومؤسسة التمويل الدولى IFC) هو عبارة عن مجمع دولى لرؤوس الأموال الفائضة بالدول الرأسمالية والتى تبحث من خلال البنك عن فرص للربح المضمون.. وتاريخيا اهتم البنك الدولى فى فترته الأولى بالدول الأوروبية، وانصرف عن الاهتمام بالدول العالمثالثية (مع بعض الاستثناءات)..
وعلى الرغم من المراجعات الفكرية التى حدثت فيه نهاية الستينيات كى يغير من نظرته لكثير من المشكلات مثل الفقر ونهج التنمية الذى يجب أن يتبع.. فإنه بنهاية السبعينيات قد انحاز تماما إلى أفكار الليبرالية الجديدة من خصخصة وتحرير السوق وتخلى الدول عن التدخل فى آليات السوق بما يتضمنه ذلك من إلغاء الدعم وتصفية القطاع العام وإلغاء سياسة الحماية وتشجيع صناعات التصدير بدلا من تشجيع صناعات بدائل الواردات.
لقد كانت لهذه السياسات آثارها السلبية بحسب رمزى زكى من زيادة البطالة وإضعاف قوة الدولة وتدخلها فى إدارة النظام الاقتصادى وابتعادها كلية عن آليات السوق وإجبار دول العالم الثالث على فتح أبواب التجارة الخارجية على مصراعيها لتصبح أسواقا للبلدان الرأسمالية الصناعية مهما كان تأثير ذلك على تدمير الطاقات الإنتاجية المحلية لهذه البلدان وأمور أخرى.. وهى السياسة التى لاقت اعتراضات كثيرة من داخل المنظومة الرأسمالية كذلك من داخل أروقة البنك الدولى مثل اعتراضات ستيجليتز الحاصل على نوبل والذى كان يعمل فى البنك الدولى ومؤلف كتاب العولمة ومساوئها.
(3)
فى هذا السياق تأتى أهمية تقرير البنك الدولى.. فالتقرير الذى يقع فى 278 صفحة من القطع الكبير على الرغم من تأكيده أن القطاع الخاص قاطرة التنمية إلا أنه يحذر من احتكار وهيمنة قلة على الفرص الاستثمارية دون غيرها.. فلقد دق التقرير ناقوس الخطر منبها إلى افتقار بيئة الأعمال إلى غياب الفرص المتكافئة بين قدامى العمل الاستثمارى ودخول جيل جديد وموجة جديدة من المستثمرين للتنافس مع أصحاب الامتيازات الراسخة من القدامى.. وهو ما يعنى ضرورة تغيير بيئة الأعمال لضمان تأمين تكافؤ الفرص من جهة، وتحقيق المساواة الكاملة من خلال قوانين تؤمن ذلك..
وينتقد التقرير وقوع القطاع الخاص تحت هيمنة عناصر معينة من مصلحتها إبقاء الأمر الواقع على ما هو عليه، من حيث احتكار قلة مقادير استثمارات بعينها واستمرار الحفاظ على امتيازاتها وهو ما يطالب التقرير بضرورة تغييره ولذا جاء عنوان التقرير من الامتيازات From Privilege، إلى المنافسة.. وهكذا يحذر البنك الدولى من الامتيازات والأكثر أنه يتحدث عن دور الدولة فى ذلك وهو ما يعد تحولا ناعما عن أفكار الليبرالية الجديدة .. نتكلم عنه تفصيلا فى الأسبوع القادم.