خطاب دينى هدفه «التحرر الشامل للإنسان»

نجحت حركة لاهوت التحرير، فى أن تقدم نموذجا لما ينبغى أن تكون عليه الحركة الدينية المجتمعية. يمكن تلخيص هذا النجاح فى ثلاثة عناصر أساسية:

الأول: لم تقحم الدين فى اللعبة السياسية، ولم تدخل فى أى تنافس مع القوى السياسية من أجل الفوز بالسلطة أو بمقعد فى البرلمان. بل كان هم الحركة، وهذا هو العنصر الثاني: أن تدفع بالمقهورين، وهم غالبية سكان القارة اللاتينية، أن يتحرروا من واقع القهر، من خلال تمكينهم من أن يعبروا عن أنفسهم وعن إمكاناتهم«بتغيير أنفسهم ومن ثم واقعهم» كل واحد بحسب توجهه السياسي. جرى هذا، وهنا نأتى للعنصر الثالث: وفق رؤية »تحررية شاملة للإنسان« فى القارة اللاتينية….تحرر: ممن؟، ولماذا، وكيف؟

انطلق الخطاب الدينى للاهوت التحرير من نقد رفيع المستوى للواقع الاقتصادي/ الاجتماعى للقارة اللاتينية. فى محاولة لجعل اللاهوت فاعلا فى حياة الناس. ينتقدون به الهياكل الاجتماعية والسياسية القائمة وخاصة التى تتعامل مع الفقراء بشكل قمعى واستغلالي. لذا بدأ »جوتييريز« مؤسس حركة لاهوت التحرير، بمقاربة نقدية لمفهوم التنمية الذى مورس فى القارة اللاتينية عقب الحرب العالمية الثانية. حيث أخذ فى نص تأسيسى نشر فى 1969 وقمنا بترجمته فى ما يقرب من 100 صفحة ـيستعرض تطور استخدام هذا المفهوم فى الأدبيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ويقوم بنقد مفهوم التنمية الذى يقصر التنمية على النمو الاقتصادى فقط دون سواه ويؤكد أن التنمية عملية اجتماعية شاملة.

وهنا ينتقد جوتييريز التطبيقات العملية فى المجتمعات الفقيرة التى تقف عند حد التحديث الشكلى والإصلاح الاقتصادى المالى ولاتواجه الأسباب الجذرية للمشكلات التى تعوق إحداث التغير الاجتماعى الحقيقي. ويستفيد جوتييريز فى هذا الصدد بأفكار مدرسة التبعية ويقول إن الخلاص الحقيقى للإنسان والمجتمع يبدأ بالتحرر. عند هذه النقطة، تأتى المساهمة الأهم للاهوت التحرير. حيث يتمحور فكر وخطاب لاهوت التحرير حول «التحرر الشامل للإنسان»، والتحرر الشامل يشمل ثلاثة أبعاد متداخلة ومتفاعلة معا بحسب وضعية كل إنسان فى الجسم الاجتماعي، وذلك كما يلي:

أولا: التحرر من الشر والخطيئة، بداية، يجب على الإنسان أن يتخلص من كل ما يؤذى نفسه ويؤذى الآخرين. خاصة أن الوضع المجتمعى العام بات وضعا مشوها بسبب الشر الذى أستبيح فى تشويه المستضعفين والأرض التى تضمهم. ومن هنا كان وصف وضع بلدان أمريكا اللاتينية بأنه » وضع خطيئة ». فلقد شوهت »صورة الله أى الإنسان »(أو بلغتنا صورة خليفة الله)، وأصابها الامتهان والاضطهاد والاستغلال والتبعية والبؤس والعنف.

ثانيا: التحرر السياسي؛ انطلاقا من ضرورة وعى ما سماه جوتييريز الوضع الخصامي« فى بلدان أمريكا اللاتينية. ويقصد بـ »الوضع الخصامي«: وضع التناقض بين الشعوب/الطبقات المقهورة/الغلابة وبين الأنظمة الحاكمة والطبقات المسيطرة فى بلدان أمريكا اللاتينية .

ثالثا: التحرر التاريخي؛لأن حركة الإنسان الرئيسية إنما تكون فى التاريخ، وعليه فإنه يجب أن يتحرر من كل ما يعوق حركته تاريخيا، وتمكينه من أن يلحق بالتقدم وبالعصر.

وتمثل المستويات الثلاثة السابقة للتحرر، مكونات العملية التحررية التى تحقق الخلاص الحقيقى للإنسان والمجتمع ليس باعتبارها مراحل متوازية أو متزامنة أو متعاقبة ولكن باعتبارها عملية مركبة تحقق التحرر الشامل فى النهاية…

فى ضوء ما سبق، أنتجت تفسيرات دينية حول الفقر، والعدالة، والسلام، والحرية، والديمقراطية، والتنمية، والمواطنة، والعنف، والمساواة، والمشاركة السياسية.. إلخ. وعلى مدى أربعة عقود أصبح هناك تراث معتبر من النصوص حول القضايا الكبرى التى تهم الإنسان فى حياته اليومية، تتجلى فيها قدرته على التعاطى مع النصوص الدينية بصورة مبدعة غير حَرفية (من حَرف) أو نمطية أو جزئية. ومن يجعل الخطاب الدينى فى الواقع خطابا تقدميا دافعا الناس إلى الإبداع بفعل التحرر الشامل ومن دون توجيه سياسى محدد. لم يكن الأمر سهلا لأن التيارات المحافظة كانت تريد أن تبقى الأمر على ما هو عليه. لكن مرت الأيام وانتصر التاريخ لخطاب التحرر. كثيرون من ينخرطون فى العملية السياسية فى بلدان القارة اللاتينية ممن استفادوا بشكل أو آخر من حركة لاهوت التحرير وانخرطوا لاحقا فى الكيانات السياسية والمدنية المتنوعة، كما جاءت قيادات كنسية فى النهاية تعبر عنها.. ونتابع.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern