كفى الثورة الآن إيمانها… فمعبدها الآن ميدانها
وقرآنها اليوم إنجيلها… وإنجيلها اليوم قرآنها
(1)
يتصدر هذان البيتان الجزء الأول من ديوان «إنجيل الثورة وقرآنها» المعنون: «آية الميدان» للشاعر الكبير حسن طلب. آية الميدان هى الحالة التحريرية التى عاشها المصريون، وبات لسان حالهم يقول «الثورة إيماننا»، وهو ما تجسد فى كل ممارسة فى الميدان الذى صار قبلتهم. واندمج أبناء مصر على اختلافهم فى موقفهم من تردى الأحوال والتدهور ورأسمالية الأقلية الاحتكارية
وشبكة الامتيازات المغلقة التى عانى منها المصريون دون تمييز. إن الحالة التحريرية حالة تكررت كثيرا فى اللحظات الثورية التى عرفتها مصر. ونذكر فى هذا المقام ثورة 1919 حيث تبنى الثوار مقولة «الوطنية ديننا» (وهو القول الذى بلوره سينوت حنا) فعلاً وقولاً، والتى كانت تعنى وحدة المصريين ضد الاستعمار وتمسكهم بالاستقلال الوطنى، هذه الوحدة هى التى دفعت شاعر الخلافة أحمد شوقى إلى أن ينطق بالأبيات التالية:
ويا وطنى لقيتك بعد يأس…كأنى قد لقيت بك الشبابا
ولو أنى دعيت لكنت دينى…عليه أقابل الحتم المجابا
أدير إليك قبل البيت وجهى…إذا فهت الشهادة والمنايا كذلك أنشد الشيخ محمد عبدالمطلب فى جمع غفير من المسلمين كانوا يحتفلون بعيد رأس السنة القبطية ما يلى: كلانا على دين به هو مؤمن… ولكن خذلان البلاد هو الكفر وهكذا نجد كيف أن الحالة المصرية فى لحظات نهوضها فى حالة جدلية بين الدين والوطن لا نافية.
(2)
وهكذا ينتج – دوماً – عن الحالة التحريرية حالة اندماجية بين أبناء الوطن الواحد مهما اختلفوا فيما يؤمنون. وعندما عرضنا، على مدى حلقات فى الصيف الماضى، ثورات المصريين منذ الفراعنة إلى ما قبل الدولة الحديثة وجدنا هذا الأمر ثابتاً ومستقراً، خاصة مع التعددية الدينية التى عرفتها مصر. ثار المصريون أقباطاً ومسلمين ضد المأمون فيما عرف بثورة البشامرة، وضد المماليك والعثمانيين، ولم يمنح التماثل المذهبى بين الحكام الوافدين ومسلمى مصر أى امتياز من أى نوع لهم.
بل حرص هؤلاء الحكام على أن يسلكوا سلوكاً إثنياً يميزهم عن المصريين. واستمر الحال على هذا المنوال على مدى الدولة الحديثة، كما أسلفنا، إلى أن بلغنا 25 يناير 2011. لكن آية الميدان التى تجسدت فى «الاندماج» الذى شهده التحرير، قد أفسدها التحول عن الحراك الوطنى إلى العراك الطائفى منذ الاستفتاء/ الفتنة الذى شهدناه فى 19 مارس الماضى. عراك أعاد تقسيم الوطن إلى فسطاطين على أساس دينى: مسيحيين ومسلمين من جهة، وعلى أساس سياسى من جهة أخرى: دينيين وليبراليين. وهو ما تجلى فى التعبئة الجماهيرية التى سبقت كلاً من الاستفتاء والانتخابات تالياً. وبالضرورة كان من مستلزمات هذه التعبئة استدعاء خطاب يعيد النظر فى الوضع الفقهى للآخر ويعلى من العصبية الدينية على حساب العصبية الوطنية. وعندئذ تتوارى الدولة كسياق تمارس فيه رابطة المواطنة بين الجميع بغض النظر عن اختلافاتهم وفق مؤسساتها المتنوعة لصالح القبلية التى تعطى نفسها حق الإقصاء للأفراد حسب العرف.
(3)
وأذكر أننا فى أعقاب واحد من أحداث التوتر الدينى كتبنا فى هذا المكان مقالاً بعنوان «النزاع الدينى تهديد للدولة الحديثة»، حيث تتكاثر النزاعات فى المناطق الأكثر فقرا والأقل تنمية، والتى تدار بهياكل وآليات غير حداثية وفق العرف. حيث الرابطة فى هذه المناطق تكون رابطة أحادية بسيطة، فالقبطى ينتمى إلى قبيلة الأقباط والمسلم ينتمى لقبيلة المسلمين، وهو أمر يناقض مفهوم الدولة والوطن حيث الرابطة هى رابطة المواطنة التى تدرك أن الرابطة أعقد كثيرا من اختزالها فى الدين وحده، فهناك روابط: العرق، والطبقة، والانتماء السياسى…إلخ، لذا كانت آية الميدان / الوطن، وأن المواطنة تعنى من ضمن ما تعنى إعمال القانون لا العرف. والنتيجة أن نجد حكم القبيلة يحكم بالإقصاء ليس للفرد المخطئ بل لعموم قبيلته.
وهكذا بدلا من أن ندعم فعل الاندماج الذى شهدناه فى يناير الأول ننحرف إلى حكم الإقصاء الذى نبتعد به عن الخبرة المصرية، خاصة فى لحظاتها الثورية، بأفكار مستلهمة من سياقات جدباء لا تعرف الآخر. ويبقى السؤال: هل يستقيم وجود القبيلة مع وجود الوطن، ولماذا؟ هنا لابد من التطرق لحديث يتعلق بالقوى المجتمعية وللتصنيع، وربما يفسر لنا هذا الحديث بعض الممارسات السياسية الحالية…فإلى المقال المقبل.