رفعت الجماهير فى 25 يناير الأول (2011) شعاراً شاملاً نصه: «كرامة إنسانية/عيش.. حرية سياسية/عدالة اجتماعية». ويمثل هذا الشعار فى حقيقة الأمر رؤية وطنية عابرة للأجيال والطبقات والانتماءات الدينية والاختلافات الثقافية توافقت فيما بينها على ضرورة الانقطاع عما سبق من جهة وضرورة الانطلاق إلى المستقبل انطلاقا من هذا الشعار من جهة أخرى. بلغة أخرى عكس الشعار حلماً لجموع المواطنين عن الدولة وطبيعتها وأسسها التى يجب أن تكون فى كلمات «مرورية» (Pass Words) أطلقتها الطليعة الرقمية الشبابية وتلقفتها شرائح اجتماعية عدة. هذه الكلمات المرورية كان من المفترض أن تترجمها القوى السياسية والتيارات الفكرية إلى مشروع متكامل للتغيير يمثل انقطاعا عما سبق لا تواصلا مع ما قبل، تعبر فيه عن مجمل هذا الشعار.. لكن يناير التالى جاء ووجدنا أنفسنا وقد تفكك الشعار/الحلم الثورى.. كيف ولماذا؟
1- بدلا من أن ننطلق من الشعار المركب الشامل كقاعدة انطلاق حول أى مصر نريد، عملنا – بإدراك أو بغير إدراك، بتواطؤ أو بغفلة – على «ترحيل» المهمة الكبرى والجليلة فى إطلاق الحوار الوطنى الجدى حول مصر الجديدة. لقد حمل شعار الثورة مقاربة مكثفة لجوهر الحياة التى يجب أن تعاش: «الكرامة الإنسانية»، ولنمط الحياة وتأمينها بالأساسيات المعيشية: «العيش»، ولطبيعة الدولة والنموذج التنموى المطلوب ومقوماته التى تضمن المساواة والعدالة التوزيعية والمشاركة العادلة الواعية للجميع، والتضامن بين المواطنين القائم على التمكين والتقدم والرفاهية لا الوصاية أو الخيرية: «الحرية السياسية» و«العدالة الاجتماعية». واستغرق الجميع أولاً فى نقاشات حدية وجدالات سطحية وسجالات جزئية فرّغت عملية التحول من مهمتها المركبة ومن العناصر المكونة للشعار التى تمثل مشروعا متكاملا متعدد الأبعاد. واختزلت المشروع الكبير بموضوعاته المتشابكة فى الجانب الإجرائى لعملية التحول.
2- النتيجة كانت اختزال عملية التحول فى إنجاز تشكيل هياكل العملية السياسية بحجة لها وجاهتها من أن هذه الهياكل هى التى ستقوم بعملية التغيير، وأن الواقع لا يسمح بحدوث فراغ مؤسسى. هذا الاختزال كان يعنى أخذ أحد جوانب الشعار والعمل على تحقيقه بمعزل عن باقى أبعاده، وبخاصة البعدان الاجتماعى والاقتصادى. لذا ليس من المستغرب أن نجد أنه خلال مسيرة التحول السياسى من أجل تشكيل البنى السياسية المختلفة كيف أن المسألة الاجتماعية / الاقتصادية قد باتت تطل برأسها بحدة فى خلفية المشهد المجتمعى دون أن يقابل ذلك أى جهد فى التعاطى مع هذه المسألة.
ويبدو لى أن الاختزال الذى تم للتنافس السياسى ما بعد الثورى بين التيارين: الدينى والليبرالى قد جعل الصراع وكأنه صراع ثقافى بين أبناء الوطن الواحد، ما منع من طرح المسألة الاجتماعية/الاقتصادية فى سياقها المعرفى والمجتمعى. فلم نسمع قط عن أى برامج ذات طابع اجتماعى / اقتصادى للأحزاب والقوى المتنافسة. وظهر فى بعض التصريحات كيف أن حل المسألة الاجتماعية/الاقتصادية يكون بمزيد من الأعمال ذات الطابع الخيرى، أو أن التكافل سيكون بمزيد من العطايا التى فى الأغلب سيمنحها كل اتجاه لرعاياه، وعليه يصبح الحزب – عملياً – تعبيراً للانتماء الأولى.
3- إن المسألة الاجتماعية/الاقتصادية فى حاجة إلى تعاط من نوع آخر. فالعمل الميدانى فى توفير احتياجات المواطنين مطلوب، لكن المطلوب أيضاً هو مواجهة الشبكات الاحتكارية السلعية وأنماط الاستثمار التى تشكلت فى العقود الأخيرة، ووضع رؤى لسياسات اجتماعية تعظّم من فرص الحياة لكل المواطنين وعدم حدوث أى تفاوتات عند التطبيق.
ويتطلب هذا الأمر رسم خرائط اجتماعية وتحديد طبيعة ما جرى من تحولات حضرية وأثر العشوائيات على التكوين المادى والثقافى المصرى. كما يتطلب الأمر فى لحظات التحول البحث عما آلت إليه كل من المسألتين الزراعية والعمالية وما هو مستقبلهما وكيفية بناء مستقبل للتقنيات الحديثة فى مصر. وإلى أى مدى يمكن أن تكون التركيبة الاجتماعية الحالية للنخبة السياسية قادرة على التعبير عن هذه المتطلبات.. وهو سؤال حيوى يحتاج إلى إجابة سوف نجتهد لتقديمها فى المقال المقبل.