ذكرني صديقي بمقولة كنت دائما أرددها, هي أن هوية مصر لابد وأن نقترب منها من منظور حضاري. ولا ينبغي أن تخضع للرؤية الدينية المحضة أو تتلقفها المصالح السياسية. قلت لم أزل متمسكا بهذه المقولة ـ وقد ذكرت صديقي بدوري.
هذا ما حاولنا أن نوضحه في مقالنا المعنون مصر المركب الحضاري الذي نشر في الأهرام( مايو الماضي) مؤكدا عدم ارتياحي إلي ما تضمنه دستور2012( الذي أطلقت عليه دستور منتصف الليل) في هذا المقام. ومرة أخري, أجدد حديثي حول هوية مصر, في ضوء ما يرشح عن لجنة الخمسين من جهة والحوارات المنطلقة من هنا وهناك حول هذا الموضوع من جهة أخري, حيث يتراوح الحديث عنها بين التديين و التسييس, ولكن قبل الخوض في هذا الأمر, أظن أنه من المفيد التذكير ببعض الركائز التي تقوم عليها الهوية المصرية من خلال السياق التاريخي الحضاري المصري. من هذه المرتكزات ما يلي:
أولا: أن هوية مصر هي نتاج حركة حضارية دءوب من قبل المصريين عبر العصور. لذا يعتبرها محمد شفيق غربال حصيلة تفاعل بين الاستمرارية والتغيير. فمصر مر عليها أشكال وألوان من الثقافات والأديان والأجناس من المنتمين للحضارات المختلفة. بعضها استقر بها, وبعضها الآخر عبر أرضها..الخ. وكانت مصر في كل الأحوال تستوعب وتهضم وتتمثل وتعيد الانتاج سواء علي المستوي المادي أو المعنوي: فنون, وعمارة, وفقه, ولاهوت, وأدب شعبي..الخ.
ثانيا: أصبحت الهوية المصرية هي حاصل ضرب مختلف الحضارات و الثقافات و الأديان,لا حاصل جمع, وهناك فرق بين الاثنين. وعليه انفتحت مصر علي كل ما هو جديد تأخذ ما يفيدها وتلفظ ما يضر نواتها الصلبة الثقافية الأولي. هكذا تعامل المصريون مع المسيحية الوافدة وبات هناك مسيحية مصرية نفخر بها ـ مركز لها اجتهادها اللاهوتي وتراثها الثقافي. كما تعاطي المصريون مع الإسلام القادم وأصبح هناك اسلام الخبرة المصرية الذي يجعل الإمام الشافعي يغير الكثير من فقهه بعد أن التقي بالليث بن سعد. ويجعل مصر تقبل حكم الفاطميين(من عام969 إلي1171 م) وتأخذ الكثير من العادات والسلوكيات الحياتية دون التفريط في مذهبها الرئيس. وأثناء ذلك نجد تواصلا حضاريا مستمرا في الكثير من المجالات من وقت الفراعنة.. الخ. ولعل البارون امبان مؤسس حي مصر الجديدة كان واعيا بما نقول فصمم الحي الجديد وفق طرز ثلاثة: الفرعونية, والإسلامية والحديثة, في انسجام عبقري.
ثالثا: في ضوء ما سبق, تكونت الشخصية الحضارية المصرية من حصيلة كل ما مر بها واختبرته علي أرض الواقع. وإذا ما راجعنا تاريخنا الحقيقي الشعبي القاعدي لا تاريخ الحكام الرسمي فسوف نصل إلي حقيقة يبلورها أحمد رشدي صالح في مرجعه العمدة الأدب الشعبي كما يلي: قد يحلو للبعض أن يقولوا إن رجل الشارع المصري عبارة عن طبقات من مدنيات تتركب بعضها فوق بعض, فهو مصري في ظاهره, فإذا رفعت تلك الطبقة ألفيته قبطيا أو إفريقيا. هذا الرأي مؤداه أنه يستطيع الرجوع أو الانتكاس إلي حيث كان المصري عربيا أو قبطيا أو فرعونيا. إن الشخصية المصرية شأنها شأن أي شخصية قومية أخري قد أصبحت اليوم مزيجا مركبا تركيبا جدليا وتاريخيا, لا تستطيع قوة أن تسحق عناصر منها أو تسلخ بعضها. لذا ننحاز إلي أن مصر مركب حضاري متعدد العناصر وأن مصر لا تعد مصر إلا بتعدديتها…بغض النظر عن الوزن النسبي لهذه العناصر.
رابعا: لقد كان هم كل الحكام الوافدين الأول( المماليك من1250 إلي1517 والعثمانيين من1517 إلي محمد علي الذي وضع مسافة مع الباب العالي رغم التبعية القانونية) هو التمتع بثروات مصر علي حساب أهلها, لذا أذاقوا المصريين الأمرين ولم يكن التماثل المذهبي لكثير من المصريين وهؤلاء الحكام ميزة لهم.ولأن هؤلاء الحكام قد سلكوا سلوك الإثنية الحاكمة المغلقة لمنع أهل البلاد من المشاركة في الحكم. وعليه تضامن المصريون معا علي اختلافهم في مواجهة هؤلاء الحكام, وهو ما تمثل في ثورات متتابعة( رصدناها في دراسة عن ثورات المصريين قبل الدولة الحديثة) كان ذروتها هو تأسيس الدولة الحديثة. ومع محمد علي سار المصريون معا يناضلون من أجل المواطنة بتأكيد الشراكة في الحكم عندما بدأوا في مراجعة إسماعيل, ثم وضع دستور للبلاد, والنضال من الاستقلال الوطني وبناء الوطن المستقل لاحقا…
الخلاصة, وبعد هذه المسيرة التاريخية النضالية الممتدة هل يستقيم أن يستأثر مكون بتحديد الهوية؟ وأن تكون دينية محضة؟ وأن يتم إخضاعها للتسييس؟ وما تداعيات ذلك.. ونواصل.