(1)
تحدثنا فى مقالنا السابق عن طبيعة العملية الانتخابية فى الانتخابات السابقة منذ التسعينيات وإلى انتخابات 2010 وانتخابات ما بعد 25 يناير. حيث اتسمت الانتخابات السابقة بأنها تدار فى ظل حزب السلطة التى يديرها بضوابط تخصه وفى ظل بيروقراطية أمنية وإدارية موجهة. عملية كان طرفاها الأكبران أقليتين: «ثروية» و«دينية» فى ظل مشاركة سياسية لا تزيد على 20% فى أحسن الأحوال. أما فى انتخابات 2011 فلقد اختفى حزب السلطة وترك الملعب مكشوفا ومفتوحا والذى يعد من أهم إنجازات 25 يناير.
(2)
فى هذا السياق سارعت القوتان الدينية والثروية – اللاعبان الرئيسيان التقليديان فى العملية الانتخابية منذ عقود – إلى تأسيس أذرع سياسية لهما. بالإضافة إلى الأحزاب القديمة التى التحقت بهذه التكوينات بدرجة أو أخرى، والأحزاب الجديدة مثل الوسط والعدل وحركة الثورة مستمرة التى حاولت أن تمارس السياسة بعيداً عن الثنائية التقليدية: الثروية والدينية. وكانت العملية الانتخابية ناجحة من حيث اختفاء البيروقراطية الأمنية والإدارية وحزب السلطة، كذلك المشاركة السياسية غير المسبوقة فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر والتى قاربت الـ60%. ولقلة الخبرة السياسية وجدنا الأذرع السياسية للتكوينات الثروية تقوم بتسيير العملية عن طريق «الدليفرى» وتحديد «المنيو» السياسى الذى يجب أن يتبع وبخاصة للشرائح العليا والوسطى، التى لم تمارس السياسة من قبل. وقامت الأذرع السياسية للتكوينات الدينية بتسيير نقل جماعى لأتباعها وبخاصة فى المناطق الأكثر فقرا والأقل تنمية التى تعمل فيها مشكورة منذ أمد. ولكن هذا لم يمنع من أن القليل من السياسة قد وجدناه يمارس، ويؤكد أن هناك جيلا وشرائح اجتماعية متجاوزة العملية الانتخابية النمطية التى تقترب من العمل المحلى الخدمى إلى السياسة بمعناها الدقيق.
(3)
والنتيجة أن الناخب النمطى الذى وصفته مرة الباحثة المعتبرة الصديقة التونسية، المصرية الهوى، سارة بن نفيس «بالزبون» فى دراستها المعنونة «الانتخابات والزبائنية السياسية فى مصر: تجديد الوسطاء وعودة الناخب» لانتخابات 2000. وقد خلصت هذه الدراسة إلى: كيف أن العملية التصويتية ترتبط بشخص المرشح وليس ببرنامجه الانتخابى الحزبى بالأساس. وهى العلاقة التى عرفت مبكرا فى فرنسا (1871 ــ 1940)، والتى صنفتها العلوم السياسية الكلاسيكية بأنها علاقة بين النائب «المعلم» والناخب «الزبون». فالنائب فى هذه الحالة يقدم سلعاً مادية وخدمات مباشرة أو ما يعرف أيضا فى الأدبيات السياسية «بسياسة ملء البطون»، وهو أمر لا يدخل فى دور ومهمة المجلس التشريعى بالمطلق. ولكن هل مازالت هذه الظاهرة قائمة وهل طرأ جديد على ناخب 2011؟
(4)
أنتجت العملية الانتخابية فى سياقها الجديد ثلاثة أنواع من الناخبين بالإضافة إلى «الناخب الزبون». فلقد أصبح لدينا فى تقديرى ــ بسبب الأذرع السياسية للتكوينات الدينية والثروية ــ نوعان من الناخبين. النوع الأول هو «الناخب المُجاهد» الذى يدفعه للانتخاب الدافع الدينى العقدى لنصرة ما يؤمن به. حيث يتحول الأمر من حصول على «أغلبية»، ربما تتغير لاحقا إلى أقلية – وهو أمر فى السياسة لا يمس الدين فى جوهره- إلى غلبة لابد أن تسود وتستمر.
أما النوع الثالث من الناخبين هو «الناخب المُساهم» وهو ناخب التحق بدعم الأذرع السياسية للتكوينات الثروية التى أسست أحزابا. وهو مساهم بمعنى أنه يدعم هذه الأذرع دون أن تكون له عضوية حزبية أو دور حزبى فى أى من التشكيلات الحزبية، وهو أمر أقرب للمساهمين فى الشركات الاقتصادية حيث دورهم ينحصر فى الحصول على الأرباح إذا ما توفرت دون أى أدنى مسؤولية قانونية أو أدبية. بالطبع يمكن القول أن هذا فى ذاته يعد إيجابياً بسبب الحالة الوطنية العامة التى وفرتها 25 يناير.
25 يناير التى أتاحت انطلاق الناخب المُسيس، الذى هو نتاج النضال القاعدى أو ما أسميه «شرعية الميدان»، الذى ساهم فى بلورة «شرعية البرلمان» (فى ظل شرعية العنفوان/ القوة) على أسس سياسية حقيقية ومواطنة أصيلة تتجاوز ما أطلقنا عليه «المواطنة الكاذبة «False Citizenship»، وهو تعبير نستخدمه كى نقول إنه ليس كل حراك فى المجال العام يعنى حراكاً سياسياً أو مدنياً حقيقياً، والمعيار لدينا للمواطنة الحقيقية هو تحول الناخبين على اختلاف دوافعهم إلى أن يكونوا مُسيسين يعرفون حقوقهم وواجباتهم ومنحازين وفق انحيازات طبقية وسياسية.