«المهمة التاريخية – التى يجب أن نقوم بها – هى استعادة (الأغلبية المنصرفة) حتى تستقيم مسيرة الحياة السياسية المصرية»
(1)
هذه الكلمات وردت فى دراسة لنا عن الانتخابات التشريعية التى جرت فى سنة 2005، تعليقاً على ما جرى فيها، فلقد لاحظنا آنذاك – وتحديداً فى القسم الثانى من الدراسة – الذى كان عنوانه: «الديمقراطية الخطرة: أقلية ثروية وتيار دينى، وسلطة، وأغلبية منصرفة»، أن السلطة تدير عملية سياسية تقوم على ديمقراطية القلة، من حيث الكم والكيف، فمهما كثر عدد المرشحين فلقد كانوا فى الأغلب ينتمون إلى الأقلية الثروية ينافسها تيار الإسلام السياسى، الذى لم يكن يحظى بالشرعية القانونية، فكان يتحالف مع أحزاب شرعية فى مرحلة من المراحل (الوفد فى 1984 والعمل فى انتخابات 1987 و1990)، ثم بات يخوض الانتخابات بشكل مباشر دون حاجة إلى تحالفات واضحة منذ انتخابات 1995. ومنذ انتخابات 1995 مروراً بانتخابات 2000 وحتى انتخابات 2005 التى شهدت حضوراً إخوانياً مكثفاً فى البرلمان بلغ 88 نائباً كانت الانتخابات تجرى بين الأقلية الثروية والتيار الدينى وكتلة تصويتية لا تزيد على 25% فى أحسن الأحوال وتقل فى المدن إلى 10%. لذا كان العنوان المذكور فى دراستنا، والذى أشرنا فيه إلى ضرورة استعادة الأغلبية المنصرفة، لأن العملية الديمقراطية فى هذه الحالة تكون ديمقراطية خطرة.
(2)
وتكمن خطورة هذه الديمقراطية فى أن لغتى «المال والدين» هما أساس التواصل مع الكتلة التصويتية المحدودة فى ظل غياب الأغلبية. ويدير هذه العملية حزب السلطة بمهارة شديدة بقبضة بيروقراطية: أمنية وإدارية تعرف كيف تتحكم فى النتائج حسب اللازم بما لا يخل بمصالح الأقلية الثروية أو شبكة الامتيازات المغلقة، مع ترك براح محسوب للباقين وتحديداً التيار الدينى. وجاءت انتخابات 2010 لتعبر عن اختلال حاد فى الصيغة القسرية، التى دأبت السلطة وحزبها على فرضها، اختلال مس جوهر الفكرة الجمهورية، التى لابد أن تعنى بالتوازن بين الفقراء والأغنياء وبين مكونات الدولة من جهة وألا تناقض جوهرها بالترويج للتوريث. ومن ثم كان لابد من التأكيد على فكرة الجمهورية المعتدلة بحسب المفهوم السياسى القديم. ويمكن القول إن 25 يناير «كموجة أولى للحراك الشبابى الشعبى الثورى» – كما أشرنا مبكراً فى منتصف فبراير الماضى – قد انطلقت لتعيد التوازن المفقود لعقود إلى الحياة السياسية من خلال الناس/المواطنين، وتحقيق المهمة التاريخية التى تحدثنا عنها.
(3)
عودة الناس/المواطنين إلى الحياة السياسية والمدنية هى أهم إنجازات 25 يناير أو الموجة الأولى من الحراك. وعودة المواطنين إلى المعادلة السياسية هى المقابل الموضوعى لأن يكون فى تاريخ الشعوب حاكم سابق. إنها شرعية جديدة ولدت فى «الميدان»، لم تكتمل ملامحها بعد، لأن موجات الحراك لم تكتمل بعد. نعم، تكشفت ـ بعض الشىء ـ طبيعة شبكة الامتيازات المغلقة وأطرافها التى أخلت بالكثير. ولأسباب كثيرة وُوجهت الشرعية الجديدة الآخذة فى التبلور بضرورة الانتقال إلى شرعية البرلمان، وعلى الرغم من أن هناك أسباباً لها وجاهة تفرض ذلك – نسبياً – منها الانهيار الشامل، الذى اكتشفنا أنه طال مصر ومرافقها وقطاعاتها منذ أكثر من 10 سنوات، فإن ذلك – ربما – جاء على هوى الأطراف التى كانت فاعلة فى الصيغة القديمة. فى هذا السياق جاءت الانتخابات التشريعية.
(4)
لاشك أنه من الإيجابيات التى يجب رصدها فى هذه الانتخابات زيادة الكتلة التصويتية إلى الضعف، كذلك التصويت المدينى بشكل غير مسبوق، كذلك غياب حزب السلطة بذراعيه الأمنية والإدارية عن إدارة العملية الانتخابية، وهو ما يمكن أن نرجعه إلى إنجازات 25 يناير وننسبه إلى شرعية الميدان. بيد أن الملاحظة التى لا يمكن التغافل عنها هى أن الفاعلية الحقيقية – مهما اتخذت من أسماء – كانت – مرة أخرى – بين المال والدين، لكن هذه المرة من خلال أحزاب شرعية مثلت «أذرعاً سياسية» لكيانات دينية ومالية، وهنا مكمن اختيارنا عنوان المقال «الديمقراطية القلقة».
قد ينظر لذلك على أنه خطوة للأمام، خاصة مع غيبة حزب السلطة، الذى كان يدير المسألة بضوابط تخصه وحده. لكن أيضاً يمكن أن ينظر لهذا الأمر بقلق، خاصة مع ما رافق العملية التنافسية من تجريح وسجال، ما يعنى زيادة المسافة بين «شرعية الميدان وشرعية البرلمان».
ونواصل رصدنا للمشهد الانتخابى.