أمن الإنسان في المسيحية - تقرير التنمية الإنسانية

تقرير التنمية الإنسانية في الوطن العربي
أمن الإنسان في الوطن العربي

أمن الإنسان… من وجهة نظر المسيحية الشرقية

سميــر مرقــس – 2007

المحتويات:

(أ) تمهيد نظري.

  • (أ-1) في البدء..”المحبة”.
  • (أ-2) الإنسان في المسيحية.
  • (أ-3) الإنسان “ابن “وليس عبدا.

(ب) الإنسان صورة الله.. و المسئوليات التي تترتب على ذلك.

  • (ب-1) ملامح الصورة الإنسانية.
  • (ب-2) المسئوليات التي على الإنسان.

(ج) أمن الإنسان في المسيحية.

  • (ج-1) مفاهيم أساسية
  • (ج-2) المسيحي مواطن فاعل لتحقيق أمن الإنسان.
  • (ج-3) أمن الإنسان لا يستقيم مع الفقر.

(د) خاتمة.

(أ) تمهيد نظري

من أجل فهم وجهة النظر المسيحية نحو أمن الإنسان،لابد من الاقتراب من معرفة كيف ترى المسيحية الإنسان،أو ماهية الإنسان في المسيحية،من حيث طبيعة العلاقة بين الله والإنسان، وهل الإنسان مجرد مخلوق من قبل الله، أم أن العلاقة بينهما تحمل مكانة خاصة للإنسان ..وأن الإنسان – في الأدبيات اللاهوتية يعد مختلفا من حيث جنسه،أصله،طبيعته،عن المخلوقات الأخرى.وقبل ذلك كله لابد من القول على أن الفعل الحاكم والمحرك لكل ما سبق هو “المحبة”..ومن هنا نبدأ.

(ا-1) في البدء..”المحبة”.

نقطة الانطلاق الأساسية في المسيحية هي ” المحبة ” ، والمحبة التي نقصدها هي محبة “البذل والتضحية” ، المحبة التي” لا تنتظر أي مقابل “، حب فيه ” لا يطلب أحد ماهو لنفسه، بل كل واحد ما هو للآخر “1، ويسمى هذا الحب” أغابي” AGAPE ، تمييزا عن حب” الإيروس” EROS أو حب الذات ، كذلك” حب الفيليا” PHILIA أو” الحب العاطفي” .
الحب في نظر المسيحية لم يعد مجرد هوى عنيف يتخذ من ” الآخر ” واسطة أو مناسبة لزيادة إحساسه بالحياة أو تحقيق أمله في السعادة ، بل أصبح اتجاها غيريا ينحو نحو الآخر ، لكي يعمل على خدمته ، ويسهم في تحقيق سعادته ، ويشترك معه في تثبيت دعائم ملكوت الله على الأرض “،أي أن يعمل على جعل الفردوس،انطلاقا من المحبة، واقعا عمليا للجميع . أن المحبة المسيحية تتجاوز الحب المتمركز حول الذات ” الإيروس ” بحسب الفكر اليوناني ، فهي تلقائية غير مشروطة ، فضلا عن أنها غيرية إيثارية . وفي هذا المقام يوضح زكريا إبراهيم هذا الأمر فيقول :” أن المحبة المسيحية AGAPE ، غير مسببة، أو غيـــــر محددة ببواعث , وكيف إنها إبداعـــية خلاقة ..”2، وينطلق هذا الحب من الحياة الإلهية حيث تستمد قوتها من الله وتهب نفسها للآخرين بغض النظر هل هم أخيار أم أشرار.
وتأتى أهمية المحبة في المسيحية، كونها ركنا جوهريا فيها، بسبب أن ” الله ” ذاته “محبة”،3 أي أن الله في المسيحية هو ” الإله المحب “. ومتى ارتبطت الصفة :” المحبة” بالمطلق – الكامل:”الله ” ، اكتسبت طبيعة اطلاقية . فالمحبة الإلهية هي محبة لا حدود لها ، ولا سقف لها ، أي أنها مطلقة في فعلها وتجلياتها.
لقد تجلى فعل المحبة في خلقه الكون، فالله لم يرد أن يكون وحده لأن هذا لا يتفق مع المحبة الباذلة، ومن ثم قام بتحويل ” الخراب والخواء والفوضى والظلمة في الكون، ليصبح هذا كله امتلاء متناسقا منظما خاضعا للقانون، كذلك جميلاً..ومستعدا لاستقبال الإنسان:صورة الله والابن في آن واحد.. والذي سيكون مسئولا على هذا النسق المرتب الجديد..كيف؟

(أ-2) الإنسان في المسيحية.

يذكر لنا الكتاب المقدس في الإصحاح الأول من سفر التكوين حيث يقول :” في البدء خلق الله السمات والأرض ، وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة ، وروح الله يرف على وجه المياه ، وقال الله ليكن نور – فكان نور ورأى الله النور أنه حسن “4.
إن المحبة الإلهية تتجلى في عملية إبداعية خلقية, فبعد أن كانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة – يأتي النور, ويتم الفصل بين المياه واليابسة، ليبدأ ظهور الحياة على الأرض كي يمكن للأرض أن تنبت عشبا وشجرا5 . ويتم تنظيم الزمان بتقسيم وحداته بواسطة دورات الشمس والقمر والنجوم6 , وتظهر حياة الحيوان في البحر والجو والأرض”7.
وفى كل ما سبق أسكن الله بقدرته الحركة والحياة والوجود لكل ما خلق وصنع من خلال حتمية قانون كل عنصر. ففي حالة النبات خلق ” ذا ثمر يعمل ثمرا كجنة، بذره فيه.. يبزر بزرا كجنة..”8 .و خلق حيوانات البحر ” كأجناسها ” وكل طائر ” كجنسه “9 ، وحيوانات الأرض ” كجنسها.. كأجناسها..”10.
إذن وبحسب وليم سليمان قلادة ” كل نوع من المادة الجامد أو النبات أو الحيوان خلق كجنسه، (سفر التكوين 1 :11, 12، 24 ، 25 ) ، حيث تمضى حياته في خضوع مطلق لقوانين حتمية تسود كل أفراد النوع . وليس من إرادة فردية في إطار النوع تستطيع أن تختار أمرا يخرج عن حتمية هذه القوانين أو أن تتصرف على نحو مغير لها. إن ” طبيعة ” الجنس هنا مطابقة ” للفرد ” كيانا وسلوكا . وما ينجزه كل فرد من كل جنس يستوعب كل ما في “طبيعته ” من إمكانيات. فالسلوك الفردي مطابق للطبيعة والقدرة، وهاتان أيضا مطابقتان للسلوك “11.
مقارنة بما سبق فإننا نجد الإنسان مختلف تماما من حيث ” جنسه، أصله، طبيعته – ليس مستوعبا في كل من أشخاصه، بل أصله خارج عنه؛ ويذكر سفر التكوين ” قال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا.. فخلق الله الإنسان على صورته ،على صورة الله خلقه ..”12 . فماذا ترتب على ذلك..قبل الحديث عن معنى صورة الله والمسئوليات التي سوف تترتب على ذلك، نشير إلى طبيعة العلاقة التي تربط بين الله والإنسان.

(أ-3) الإنسان “ابن “وليس عبدا.

في ضوء ما سبق نجد أن الله يعامل الإنسان باعتباره ابن من ناحية وصورته من ناحية أخرى أي انعكاس له، تماما مثلما ينظر أيا منا في مرآة فأنه يجد صورة مشابهة له تماما بغير زيادة أو نقصان. وقبل أن نوضح الجزء المتعلق بأن الإنسان صورة الله، نلقي الضوء حول العلاقة بين الله والإنسان. في عبارة موجزة يمكن القول أنها تشبه تماما العلاقة بين الأب والابن للدرجة التي يقول فيها النص الكتابي”هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك!13، أي أن الأم بكل ما تحمل من مشاعر الأمومة فأنها قد تنسى وليدها، ولكن الله لا ينسى قط خلقته، ويدعوهم أولاده، والمحبوبين لديه.
إن علاقة الإنسان مع الله فريدة من نوعها.إنها علاقة لا تؤثر على الإنسان فقط،بل على كل ما يحيط به. فالإنسان ملتقى كل ما في الكون14 وهو القادر إذا ما أحسن الأداء وأعمل ما لديه من قدرات وهبه إياه الله-انطلاقا من المحبة الإلهية التي بها خلق والتي عليه أن يمارسها مع كل من حوله – أن يعيد ترتيب كل ما هو مختل.
لم يخلق الإنسان في قلب الخليقة فقط، بل في مركزها، “إنه نقطة لقاء لها، نقطة حوار معها، يقوم بتجديد معناها، و يحمل دورا فريدا، ومهمة متميزة، من أجل الحق والحرية، نحو الحياة والسلام”15. بهذا المعنى تمتلك حركة الإنسان نحو الله تأثيرا كونيا Cosmic Impact، وهذا الانعكاس للسلام بين الله والإنسان نجد تجلياته في الواقع، فالابن الذي كرمه الله بأن يكون أبا له – حيث يتبناه- باعتباره ذروة الخلق،عليه ألا يخذل أباه ومن ثم يتولى العديد من المسئوليات بنفس المنطق الذي تعامل فيه الله مع الخليقة ومع الإنسان نفسه،حيث أقام نسقا مرتبا وجميلا وآمنا،فصار على الإنسان كإبن واجب تجاه ما حوله. ويدرك الله أن هذه المهمة صعبة ولكنه يصر عليها ويوصي الإنسان بها دوما لأنها الطريق لأن يكون ابنا لله، “أبناء لا عبيد”16 ويذكر في إنجيل متى ما يلي:
“أحبوا أعداءكم،وصلوا لأجل الذين يضطهدونكم،لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات..فأنتم إذن، كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل،فإنه يطلع شمسه على الأشرار والصالحين،ويمطر على الأبرار والأثمة.فإنكم أن أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم؟أليس العشارون أنفسهم يفعلون ذلك؟ وإن لم تسلموا إلا على إخوانكم فقط، فأي عمل تصنعون؟أو ليس الوثنيون أنفسهم يفعلون ذلك؟فأنتم إذن كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل.”17

(ب) الإنسان صورة الله.. و المسئوليات التي تترتب على ذلك

يقول القديس إكليمنضس الإسكندري(153- 215 تقريبا،وكان مديرا لمدرسة إسكندرية اللاهوتية) بان “الإنسان له كرامته السامية، غير أن هذه الكرامة لا تبقى قائمة فعلا إلا إذا عاش شبيها بالله‘أعني على صورته ومثاله”18.
في ضوء هذا القول، من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هذه المكانة التي حظي بها الإنسان من قبل الله، مصدرها محبة الله الكلية المطلقة، والتي بسببها خلق الله الإنسان على صورته. إذن الإنسان هو صورة لله، الأمر الذي سيترتب على هذه الخلقة(أي خلقة الإنسان) أن يتحلى بمجموعة من العناصر والملامح،تؤهله أن يتولى العديد من المسئوليات/التكليفات لضمان أمن الإنسان منها:

(ب-1) ملامح الصورة الإنسانية.

حول ما قاله الله في سفر التكوين يضع قداسة البابا شنودة في كتابه الإنسان الروحي عددا من العناصر عن خلقه الإنسان وذلك كما يلي19:

لقد خلق الإنسان على صورة الله في الطهارة والبر ,
كذلك خلق الإنسان على صورة الله في القداسة ,
أيضاً خلق الإنسان على صورة الله في الكمال,
و خلق الإنسان على صورة الله في السلطة ,
كما خلق الإنسان على صورة الله في القوة .

فالإنسان إذن ، بحسب نيافة الأنبا موسى أسقف الشباب في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية هو ” صورة لأصل ، فالإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله ، في الحرية ، والقداسة ، والبر ، والنطق والعقل، والخلود .وهو يستمد كل هذه المقومات من خالقه “20 ، وليس من ذاته. ” فالله خلق الإنسان من فرط حبه خلق أبناء وبنات ليسعدوا معه على الأرض وفى السماء ، بشرط أن يختار الإنسان مصيره بحرية كاملة “، وعليه فان العلاقة بين الله والإنسان أشبه بالعلاقة بين الأب الحنون المحب بالابن المحبوب ، ” فالعلاقة مؤسسة على المحبة وليس على العبودية “، فلقد ” خلقنا الله لنفسه من منطلق العطاء لا الأخذ ، لذا خلق الإنسان بمكانة كبيرة لدى الله ، انطلاقا من خلقه المتميز،و في هذا يقول أثناسيوس الرسولي – أحد أهم الآباء اللاهوتيين في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية القبطية الذي جعل الكنيسة تصفه بالرسول تكريماً لاجتهاداته اللاهوتية التي تعد من ميزات اللاهوت السكندري الذي لم يحظ باهتمام الدارسين المصريين في أقسام الفلسفة مثل لاهوتيي أوروبا في العصر الوسيط،وهو البابا 25 في سلسلة باباوات الكنيسة المصرية / القبطية والمعروفة بكنيسة الإسكندرية لأن مدينة الإسكندرية هي أول مدينة مصرية عرفت المسيحية – حيث قال “‘ إن الطبيعة العاقلة للنفس تختلف عن المخلوقات غير العاقلة، ، فالإنسان هو وحده الذي يفكر فيما هو خارج عن نفسه”21. ويستطرد في هذا المجال القديس مقاريوس الكبير – أحد آباء الكنيسة الأرثوذكسية ( القرن الرابع ) – حيث يفرق بين الإنسان وبقية الكائنات في عظته الخامسة عشرة فيقول :” لأن الإنسان له قيمة عظمى : تأمل ما أعظم السموات والأرض والشمس والقمر – ومع ذلك لم يشأ الله أن يستريح فيهم بل في الإنسان فقط. ولذلك تفوق فصيلة الإنسان على سائر المخلوقات .. ( لأنه قال نصنع الإنسان)على شبهنا ومثالنا، قال ( ذلك ) في حق جوهر الإنسان العقلي. وأما المخلوقات المتطورة فإنها مربوطة بنوع طبيعة ليتغير ولا هي يمكنها التغير عن خلقتها الأصلية ولا لها إرادة لذلك. وأما أنت ( أيها الإنسان ) فإنك خلقت على شبه الله ومثاله فإنه كما أن الله له قوة ( السيادة ) فيفعل ما يشاء ..كذلك فأنت مخير .. فطبيعة المخلوقات التي لا فهم لها محصورة حقا – كما أن طبيعة الحية مرة و مسمة ، فجميع الحيات إذا هي من هذا الجنس . والذئب لا يزال مفترساً من أصله وجميع الذئاب لها هذه الطبيعة عينها، والخروف الذي يفترسه الذئب هو وديع وجميع الخراف هي هكذا طبعا. والحمامة تخلو من الغدر والأذى وكذلك هي طبيعة كافة الحمام، وأما الإنسان فليس هو هكذا فواحد من أفراده ذئب مفترس وآخر يصير فريسته كالخروف22.
ويعكس النص السابق ما يلي :

تميز خلقة الإنسان .
تنوع وتعدد الطبيعة الإنسانية .
حرية الإرادة الإنسانية في التمثل بالله أو الانفصال عنه.

متميز الخلقة متنوع حر الإرادة
الإنسان

(ب-2) المسئوليات التي على الإنسان.

ويلاحظ هنا أن خلقة الله للإنسان في طبيعتها الأولى كانت تحمل أن يكون الإنسان هو صورة الله لذا بعد أن رتب خلقة الكون فال الله ” نعمل الإنسان على صورته .. ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن ( جميل ) جدا..”23. فلقد حظي الإنسان بذروة ما صنع الله، وعليه ترتبت الكثير من المسئوليات على الإنسان تجاه الطبيعة والإنسانية ، هذا إذا ما ظل مرتبطا بالأصل ولم يفعل الشر فيبتعد عن الله بفعل الواقع / السياق الذي يعيش فيه ، ومن ثم يتنازل عن المسئوليات التي وضعها الله على عاتقه كصورة له يعكس المحبة الإلهية على الواقع بكل عناصره ومكوناته . من هذه المسئوليات نذكر :

السيادة على باقي المخلوقات؛

” وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع ما يدب على الأرض.. وباركهم الله وقال لهم أثمروا وإملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طيرا لسماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض “24 ‘ ويذكر سفر التكوين كيف أن الإنسان هو الذي أطلق الأسماء على الكائنات المختلفة .

حماية الأرض وحفظها ؛

“وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعمل أو يحفظها “25.

مواجهة أي إفساد أو شر؛

يمتد الإنسان بما فعله الله معه إلى الآخرين الذين باتوا يشاركونه هذه الحياة بعد أن تأسست الجماعة البشرية وذلك على قاعدة المحبة، وتأسيس مبدأ الالتزام الاجتماعي / المجتمعي.

لقد صار الإنسان مكلفا من الله الخالق المطلق الكامل بحماية وتجميل وفعل كل ما هو مفيد بالنسبة للواقع الذي يعيش فيه وما يضم من آخرين ، باعتبار ذلك إعمال لوصية الله واستكمال ما غرسه في خليقته الكون والبشر ، من إبداع إلهي مطلق ، فيرد بذلك الجميل أو الصنيع الذي عمله الله ، كل ذلك في إطار علاقة محبة جدلية بين ” الخالق والمخلوق ” بين الأب وابنه ” والتي لابد وأن تكون لها تجلياتها في علاقة الإنسان بالآخرين . فواقع الأمر لا يمكن أن يقول أحد ” أنى أحب (أغابي ) الله، – أي الحب الباذل والمضحى – وهو يبغض أخاه فهــــو في هذه الحالة يكون كاذباً ..” لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره، كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره، ولنا هذه الوصية منه أن من يحب الله يحب أخاه أيضاً26 .
صفوة القول لقد خلق الإنسان من قبل الله على أساس المحبة ، ومن على أرضيتها ننطلق في تعاملنا مع الآخرين ، المحبة الباذلة ( أغابي ) هو معيار إلى أي حد ” الذات الإنسانية ” قد قدرت ما فعله الله نحوها ، وفى نفس الوقت تستعيد ( الذات) ذلك في علاقتها مع “الآخر ” . وعليه فان محبة الإنسان إلى أخيه الإنسان تتجاوز المشاعر المؤقتة والمتقلبة إنها راسخة لأن مصدرها الله من جهة كما أن الله نفسه – ولاشك – يحب ” الآخر ” كما يحبني من جهة أخرى. كذلك فان المحبة الباذلة ( أغابي ) تعنى مسئوليتي فى دعم ومساندة ” الآخر ” حيث أن تقدم الذات ورقيها ونضجها يكون من خلال حركتها في مجال حركة الآخر .
إن العلاقة الروحية الوثيقة بين الله والإنسان تتجسد ماديا من خلال حركة الإنسان ونزوعه نحو الآخر من خلال “إطعام الجائع ، إرواء العطشان ، وإيواء الغريب ، وتقديم الكسوة للعريان وتقديم العون للمريض والمحبوس .. “27، ومن يفعل ذلك كأنه يقدم هذه التقدمات لله نفسه ، وهكذا يكون إرضاء الله .

السيادة حماية الأرض وحفظها مواجهة أي إفساد أو شر
مسئوليات الإنسان لإقرار السلام والأمن

لقد كلل الله الخالق الإنسان الابن “بالمجد والكرامة، ودعاه أن يكون حاكم أعمال يديه،وأن يخضع تحت قدميه الخليقة بأسرها “28 ،بحسب ما جاء في سفر المزامير لداود النبي حيث قال:ما الإنسان…؟…كللته بالمجد والكرامة.سلطته على أعمال يديك، وأخضعت كل شيء تحت قدميه…أيها الرب سيدنا ما أعظم اسمك في كل الأرض”.29 إن هذه السلطة التي أعطيت للإنسان لابد وأن تتم كمحصلة للمحبة والمعرفة والعلم،فالله “العلي وهب الناس العلم ليمجدوه في عجائبه”30 . إن الإنسان مدعو إلى استخدام كل طاقاته،التي وضعها الله فيه،بكل الحب،وبالمعرفة،إلى أن يطور الواقع من خلال السيرورة التاريخية.

(ج) أمن الإنسان في المسيحية

(ج-1) مفاهيم أساسية.

ارتبط مفهوم الأمن في المسيحية،بأنه متى توفر يتحقق الازدهار والسلام،والإعمار والبناء والتنمية،ويذكر النص الكتابي ما يلي:

“فيسكنون فيها ولا يكون بعد لعن، فتعمر أورشليم بالأمن”31.

ويعلق عليها الأب تادرس يعقوب ملطي بقوله:”عوض الخراب الذي حل بالنفس بسبب الخطية تمتلئ مجدا وحياة،فتكون عامرة لا بالناس فحسب وإنما بالله نفسه الذي يقدسها فتتسع بحب البشرية كلها،وهكذا تخرج من حالة الخراب الكئيب إلى حالة الملء بنعمة الله وحب القريب والشعور بالسلام الفائق،والأمن.”32

من هذا المنطلق تعمل الكنيسة من أجل أن يكون السلام منهجا حاكما للمسيحيين تلح عليه في قداساتها وصلواتها اليومية. فهناك ما يعرف بالطلبة السلامية الكبرى ويقال فيها:

“بسلام إلى الرب نطلب”،

ولكن ليس هذا كل شيء،فهذه الصلاة يعقبها مباشرة طلبة أخرى تقول:

“من أجل سلام كل العالم”و “من اجل السلام الذي من العلي وخلاص نفوسنا”…

وحول هذه الصلاة المتكررة في كل قداس يؤكد المطران جورج خضر على ضرورة وجود علاقة وثيقة بين الإنسان وربه تمكنه وتدفعه على إشاعة الأمن والهدوء في كل ما حوله”في العلاقات الشخصية،في العائلة وفي المجتمع.السلام الذي لا يتصدع بمصالح الدول والأفراد والخصومات33…”، على أن يكون هذا الأمن والسلام مشروطا بإقامة العدل، وينص على ذلك في الكتاب المقدس وذلك كما يلي:
“والإنسان الذي كان بارا وفعل حقا وعدلا…ولم يظلم إنسانا بل رد للمديون رهنه ولم يغتصب اغتصابا بل بذل خبزة للجوعان وكسا العريان ثوبا(ولم يظلم الفقير والمسكين).ولم يعط بالربا..وكف يده عن الجور وأجرى العدل الحق بين الإنسان والإنسان…حياة يحيا…”34 وإن فعل غير ذلك فانه يستحق الموت.

إذن فإن حرص المسيحية على الأمن والسلام لا يعني أن يكون هذا على حساب العدل،ما يعني أن رسالة المسيح ليست محصورة في أن يهبنا حياة روحية جديدة بل أن يؤثر “في جميع أوجه الوجود الإنساني”35 . انطلاقا من أن الرسالة المسيحية تتحرك في سياق اجتماعي له علاقاته ومصالحه المتشابكة. وفي نفس الوقت نشير إلى أن الدعوة لتحقيق السلام والأمن لا تمنع من أن يناضل المرء من أجل الدفاع عن نفسه إذا ما تطلب الأمر ذلك.فالمسيحية” تستوجب بلا شك إقرار العدالة ورد الحقوق إلى أصحابها والوقوف إلى جانب الطرف المظلوم ومناصرة الضعيف، ولا يمكن للضمير المسيحي أن يسمح بالتخلي عن هذه الفئات”36. وحتى لا يكون

بيد أن أمن الإنسان في المسيحية لا ينطلق من نظرة فردية ونرجسية ضيقة لا تراه ينتهي بمجرد أن يحققه الإنسان لنفسه وكفى كل شيء،بل أن محبة الإنسان ، التي مصدرها محبة الله،والمسئوليات المكلف بها من :سيادة ،وحماية وحفظ للأرض، ومواجهة أي إفساد أو شر، لابد وأن تكون باذلة بغير حدود وتمتد للجميع دون تمييز،ومن ثم يعنى الإنسان بتوفير الأمن للآخرين.
وواقع الحال،أن أمن الإنسان ينطلق من أن الإنسان عليه أن يفعل مع الآخرين والبيئة التي يعيش فيها ما فعله الله به من توفير كل السبل لأن يحيا حياة كريمة،فخلقة الإنسان جاءت بعد أن هيأ الله كل مقومات الحياة الآمنة.

وعليه فأنه وبعد أن تأسست الجماعة البشرية، بات على الإنسان أن يوفر حياة آمنة لمن يشاركونه الحياة بغض النظر عن العرق أو الجنس أو الدين أو الأصل..من واقع مبدأ الالتزام الاجتماعي/المجتمعي. فالأخوة المسيحية “لا تقتصر على العلاقات بين الأشخاص القريبين بعضهم من بعض، بل تعداهم إلى جميع البعيدين عنا والذين لا نعرفهم”.37

في ضوء ما سبق،يمكن القول أن المسيحية في نظرتها لأمن الإنسان،فإنها لا تقف عند الجانب الروحي فقط في الكيان الإنساني،وإنما تمتد إلى الجانب المادي،حيث أن النظرة المسيحية ذات نظرة تكاملية بين العقل والروح،والمادة والروح،والفكر والممارسة. فالمسيحية،كما تنادي بالمحبة وتعتبرها الركيزة الأساسية لها،تؤكد على أن المحبة بغير تجسيد لها على أرض الواقع ليس لها قيمة”فالمحبة ليست بالكلام واللسان بل بالعمل والحق”38.وعليه فكل مسيحي مطالب أن يجعل من المحبة واقع مادي ملموس،مهما كانت الظروف الواقعية تحول دون ذلك، والحديث النظري عن المحبة لايستقيم وهناك من يئن أو يتألم أو يعاني الفقر والظلم والخوف…الخ.

ويؤكد على ما سبق السيد المسيح نفسه بشكل عملي من خلال قصة دالة رواها القديس لوقا في إنجيله 39 حول “المسئولية الاجتماعية”،وذلك كما يلي :

” وإذا ناموسي قام يجربه ( يختبر السيد المسيح ) قائلاً يا معلم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية. فقال له ما هو مكتوب في الناموس . كيف تقرأ . فأجاب السيد المسيح وقال: تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك ومن كل فكرك، وقريبك مثل نفسك… افعل هذا فتحيا..
عاد الفريسي ليسأل المسيح : من هو ” قريبي “
فأجاب المسيح على السؤال بالقصة التالية :

.. إنسان كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا فوقع بين لصوص فعروه وجرحوه ومضوا وتركوه بين حي وميت.
فعرض أن كاهنا نزل في تلك الطريق فرآه وجاز مقابله ،
وكذلك لاوى أيضا إذ صار عند المكان جاء وجاز مقابله ،
ولكن سامريا – مسافرا جاء إليه ولما رآه ” تحنن “،

فتقدم وضمد جراحاته ،
وصب عليها زيتا وخمرا،
وأركبه على دابته وأتى به إلى فندق واعتنى به ،
وفي الغد لما مضى أخرج دينارين وأعطاهما لصاحب الفندق وقال له اعتن به ومهما أنفقت أكثر فعند رجوعي أوفيك، “..

وطرح السيد المسيح السؤال التالي عقب نهاية القصة السابقة كما يلي :
“.. أي هؤلاء الثلاثة ترى صار ” قريبا ” للذي وقع بين اللصوص.. فقيل له الذي صنع الرحمة .. فعاد وعقب السيد المسيح اذهب أنت أيضا و ” اصنع هكذا”.

بُعدان تعكسهما هذه القصة ، الأول الجانب الفكري فيما يتعلق بالمسئولية الاجتماعية ، والثاني الجانب العملي. بالنسبة للأمر الأول نجد السيد المسيح يؤكد على ما يلي :

(1) المحبة هي جوهر الإيمان المسيحي وهى الوصية الأولى والالتزام الأساسي لأي مسيحي ، وعلى قاعدة المحبة تتبلور أفكار المرء وممارساته.

(2) فعل المحبة الذي يمارسه الإنسان ينطلق في اتجاهين في علاقة جدلية، اتجاه نحو الله، واتجاه نحو القريب / الآخر/الشريك. فمن غير المنطقي أن يزعم أحد أنه يحب الله بغير أن يتجسد ذلك عمليا من خلال ممارسات حية ملموسة تجاه الآخرين. كما أن المحبة الموجهة للآخرين إذا كانت بعيدة عن المحبة لله إنما تعنى أنها محبة إنسانية نسبية محدودة ، إنما إذا كانت مصدرها الله فإنها تهب الإنسان قدرات تتجاوز النسبي حيث تمنحه طاقة غير محدودة حتى يستطيع أن يحب ” قريبه مثل نفسه ” .

(3) تدل عبارة محبة القريب كالنفس، إلى أي مدى يضع السيد المسيح معياراً أساسياً تقاس به قدرة المؤمن. فالشخص الذي يصل إلى مستوى أن يحب الآخرين تماماً مثل نفسه فإن ذلك يعنى غاية الإيمان والتدين ، وهو أمر يعنى عمليا أن تتمنى للآخرين ما تتمناه لنفسك وأن تسعى في طلب الحقوق للآخرين كما تسعى لنفسك إنها عملية تصل بالذات إلى أن تتوحد بالآخر . فالذات تتطهر وتترقى بمقدار ما تحب للآخر .

(4) ولأن السيد المسيح يدرك أن الإنسان له حدود مهما عظمت قدراته فإنه طلب أولا أن يستنفذ قدراته الذاتية ولأن هذه الطاقة سوف تستنفذ في محبة الله فإن الله المحبة – المطلقة – سوف يعينه في أن تتجدد قدراته النسبية مرة أخرى ، ومن ثم يمارس المحبة مع الآخرين،وهنا يكمن أساس المسئولية والفاعلية الاجتماعية .

هكذا يضع السيد المسيح الأساس الفكري للعلاقة مع الآخر40 على قاعدة المحبة لله، ثم يبدأ في تحديد من هو الآخر أو من هو ” القريب “و هل له سمات معينة أم لا، و هل يجب أن يكون له انتماء محدد أم لا.. من القصة التي سردها السيد المسيح يمكن استخلاص ما يلي:

(1) نقطة البدء أن هناك عداوة تاريخية بين اليهود وأهل السامرة بالإضافة إلى أن اليهودي بحسب العقيدة لا يمكن أن يصنع خيراً مع أممي / سامري ( لا ينتمي إلى اليهودية ) لأنه غير مقدس . والمفاجأة هنا أن اللذين من المفترض أن يقدموا مساعدة لليهودي : الكاهن واللاوى ، بسبب القرابة العرقية والجنسية والمسئولية الدينية لم يلتفتوا إليه ولم يعروه انتباها ، ومن قدم له المساعدة والعلاج و المأوى والمال هو” الشخص المختلف “.

(2) أن العلاقة مع الآخر يجب أن تحكمها وتحركها المحبة والمسئولية ” من دون البحث عن هوية الآخر أو التوقف عند الفروقات أو الحواجز الإثنية والعرقية والاجتماعية والدينية والطبقية ، وربما تكسر معايير وضعها البشر أو تقاليد موروثة”.
(3) العلاقة بالآخر لا حدود لها .

خلاصة القول لقد وضع السيد المسيح مسئولية على المسيحيين أن يقدموا ذواتهم للآخرين، كما جعل من ” محبة القريب ” بحسب زكريا إبراهيم:
” قاعدة عامة لا يقيدها شرط ولا يحدها حد”.41

وحول هذه القصص يعلق آباء الكنيسة بأقوال شارحة كما يلي :

” قريبي هو إنسان مثلى على صورة الله ، يليق بى أن أحبه كما أحب نفسي .. يلزمني إن اهتم به كما بجسدي ودمى ،وأتعامل معه بالحب واللطف والحنو غافرا له أفكاره كما أغفر لنفسي أفكاري وكما أشتاق إلى العفو من الآخرين عن ضعفاتي “.

” أن عمل الخير يجب أن يكون لكل إنسان فيما تحتاجه الطبيعة الإنسانية “.

“من يتمم كل ما هو مكتوب بخصوص حب الله وحب القريب يستحق أن يتقبل هبات الله العليا “.
” إن القرابة لا تقف عند حدود الدم ولا عند العمل وإنما تقوم على تنفيذ وصية الحب والرحمة “.
” كثيراً ما نظن عن جهل أن الذي يشترك معك في ديانتك أو جنسيتك هو قريبك، ولكن الذي يشترك في نفس الطبيعة البشرية هو قريبك ، وكما رأيت الذي كان يرفع رأسه معتزاً بالملابس الكهنوتية والذي كان يفتخر بتسميته لاويا .. لم يفكر أن ذاك الذي من بني جنسهما وهو عريان وقد تغطى

بجراحات لا شفاء لها وملقى على الأرض، و قد أوشك أن يموت في لحظة، كان إنساناً !! لكنهما احتقراه كحجر أو قطعة من الخشب المرذول. أما السامري فلقد عرف وفهم من هو القريب .. فلا تقصر تعريف القريب عند الخسة اليهودية التي تقف عند مقاييس ضيقة خاصة بالجنس..
إنما كل شخص نبسط عليه روح المحبة هو القريب “.
وفى تفسير بديع للقديس كيرلس الإسكندري ( بابا الإسكندرية في الفترة من 412 إلى 444 م والملقب بعامود الدين ) لقصة السامري الصالح التي وردت في إنجيل لوقا يتطرق إلى ثلاثة أمور كما يلي:

  • أولا: قوة الحياة الإنسانية .
  • ثانيا: جدلية العلاقة بين محبة الله ومحبة القريب.

  • ثالثا: من هو القريب ؟

فيذكر ما نصه 42 :

أولا: بالنسبة لقوة الحياة الإنسانية :

“حقيقة إن قوة الحياة هي أن نحب الله والقريب.. لأنه بمحبة الله من كل القلب والنفس والعقل نتخطى محبة المال ولذة المجد الباطل ونخرج من دائرة الاهتمامات العالمية (الزمنية )، ونتحرر…

ثانيا: بالنسبة لجدلية العلاقة بين محبة الله ومحبة القريب :

“فهي مرتبطة بمحبة الله، عندما لا تمارس فقط بين أبناء الجنس الواحد لكن بين كل الناس… فإن هذه المحبة نحو القريب عندئذ تتبع المحبة نحو الله “، فهي نتاج طبيعي لمحبتنا لله.

ثالثا:بالنسبة لمن هو القريب ؟

“.. إن السيد المسيح في تعريفه لمعنى القريب لا يحصره في جنس معين ولا يربطه بمستوى الفضائل ( أي مهما كان القريب شرير ) ولكنه يطلقه على الطبيعة الإنسانية “.

(ج- 2) المسيحي مواطن فاعل لتحقيق أمن الإنسان.

ولأن المسيحية” ليست مذهبا سياسيا أو اقتصاديا”43،أو لديها رؤية للحكم السياسي فإن الضرورة موضوعة على كل مسيحي أن يكون مواطنا فاعلا في سياق المجتمع الذي يعيش فيه،أخذا في الاعتبار مدى تطوره والتزامه أن يشارك في الدفع بهذا التطور،في ضوء الرؤية اللاهوتية الملزمة بأن يؤدي المسئوليات التي وضعها الله عليه والتي يمكن أن تكون إطارا عاما لحركة المسيحي في السياق الذي يعيش فيه،ويمكن أن تترجم عمليا إلى عدد من المهام منها:
(1) مواجهة الظلم الاجتماعي.
(2) تفعيل العمل الاجتماعي.
(3) العمل على تطور المجتمع بتبني القيم الإيجابية.
(4) ضرورة المشاركة الإيجابية.
(5) تقديم نموذج عملي للمواطنة.

(1) مواجهة الظلم الاجتماعي:

على المسيحي أن يقيم العدل، “ويقف ضد الظلم الاجتماعي أيا كان مصدره”،44 المسيحية تترك لكل بلد أن يشرع لنفسه حسبما تكون ظروفه،وحسبما يناسبه من تشريعات..المسيحية تطرح إطارا قيميا عاما يحرص على العدل والمساواة والنقاوة المنطلقة من المحبة المسئولة،إن جاز التعبير، كي تراعيها الأنظمة القائمة، وعلى المسيحيين مراعاة هذه القيم الكلية أيا كانت توجهاتهم الفكرية والسياسية.
وفي هذا المقام يقدم لنا القديس بولس الرسول نموذجا عمليا لإقامة العدل تجاه العبيد ذلك بممارسة المساواة واقعيا على الرغم من أن النظام القانوني السائد هو نظام عبودي.ويصف هذه القصة ويحللها وليم سليمان قلادة بقوله45 :
“..إن كانت المسيحية لم تأت بنظام قانوني وضعي للمجتمع إلا أنها استطاعت أن تغير في المناخ الفكري القيمي السائد بما يجعل التعديل القانوني حتما يتحقق- في المجتمع ومن خلال القانون نفسه-احترام الإنسان وصيانة كرامته…فعن نظام الرق- لم يشأ الرسل أو الكنيسة أن يحرموا الرق لأن هذا كان يعتبر تدخلا في أمور الدولة. وقد حرصت المسيحية منذ البداية على أن يكون تأثيرها مستندا إلى رضا المنتمي إليها وقبوله الحر لتعاليمها…وحدث أن رجلا من مدينة كولوسي في آسيا الصغرى اسمه فليمون هداه بولس إلى المسيحية.وكان للرجل عبد – هرب بعد أن سرق مالا من سيده وجاء إلى مدينة روما. واتفق أنه صادف فيها بولس الرسول وآمن على يده بالمسيحية. وكانت القوانين الرومانية تعاقب مثل ذلك العبد عقابا شديدا.فكتب بولس الرسول رسالة معروفة (من ضمن نصوص العهد الجديد) باسم الرسالة إلى فليمون،يشفع لعبده(اسمه أنسيموس) قائلا:
آثرت أن أسالك باسم المحبة سؤال بولس الشيخ الكبير،الذي هو الآن مع ذلك سجين يسوع المسيح،أسالك في أمر ابني أنسيموس،الذي ولدته وأنا في القيود..
إن بولس يدعو العبد الآبق – ابنا له.
هذا أولا – ثم إن بولس لا يحرض العبد على شق الطاعة لسيده القانوني. ولكن الرسول يرده إليه في صورة جديدة تماما حيث يقول:
أرده إليك – وإنما أرد قلبي نفسه. وكان بودي أن أحتفظ به لنفسي – فيخدمني بدلا منك في هذه القيود التي أحملها من أجل الإنجيل. غير أني لم أشأ أن أفعل شيئا من دون رضاك…
إن القديس بولس يقرب بين السيد وعبده- فإذا كان هذا عبدا في القانون السائد،فإن السيد أيضا خادم للدين.
وينتقل بولس إلى حديث يلغي تماما علاقة الرق بين العبد وسيده ويجعل مكانها رابطة الأخوة والمحبة…ويشير وليم سليمان قلادة من نص رسالة بولس الرسول إلى فليمون إلى ما يلي:
ولعله ما يبتعد عنك إلا ليعود إليك إلى الأبد – لا ليكون عبدا بعد اليوم، بل أفضل من عبد – أي أخا حبيبا؛ وهو أخ حبيب إلى قلبي، فما أحراك أن تعده كذلك – سواء في صلة بشرية، أو في صلة في الرب.
أكثر من ذلك نرى بولس وقد وضع نفسه في موضع العبد السارق فيقول:
فإن كنت تراني من أصدقائك، فأقبله كما تقبلني. وإن كان قد أساء إليك بشيء، وكان لك عليه دين،فأحسب ذلك علي: فقد كتبت أنا بولس ضامنا بخط يدي:أنا أفي…
بهذا المنهج، ليس أن المسيحية تلغي الرق كنظام قانوني وحسب، ولكنها تنفي تماما من العقل والوجدان إمكانية تصور قيام مثل هذه العلاقة التي تهدر كرامة الإنسان.وتضع مكانها رابطة الأخوة والتسامح والمحبة.”
بهذا المعنى تتم مواجهة وضع اجتماعي غير مقبول بالممارسة العملية انطلاقا من الجميع أبناء لله وسادة في الإيمان، “حيث تحرروا من كل قيد يعوقهم، ومن حقهم أن يحظوا بالمساواة في الواقع. وبهذا” تتهيأ الظروف الفكرية والوجدانية المناسبة ليحدث التطور الاجتماعي الحاسم،ويتم إلغاء الرق كنظام قانوني بعد أن انتفى من العلاقات الإنسانية الواقعية”.46 أعطت المسيحية بهذا النهج روحا ولم تضع تشريعا مدنيا في مواجهة نظام العبودية وإنما “وضعت المسيحية روحا من المحبة ومن المساواة وظلت تعمقها في قلوب الناس حتى ألغي الرق عملا”47عندما أصبح الظرف التاريخي مواتيا. أو بلغة أخرى “لا توجد لدى الكنيسة عقيدة اجتماعية. فلم يأت المسيح ليملي علينا تخطيطا أو تنظيما ..ولكن هذا لا يعني أن نكون غير ملتزمين حيال ..سلسلة العبوديات التي تحتجز الإنسان سجينا أي الظلم والاضطهاد،.. صحيح أن الإنجيل قد خلا من أية وصفة للتدبير السياسي إلا أننا نجد فيه بالمقابل الحث على معارضة كل الأنانيات الفردية والجماعية.”48 لا تسعى المسيحية “لإنشاء دولة وإنما تحرص لتقيم ملكوت الله في الناس حتى يصيروا خليقة جديدة “49 تجدد الواقع الذين يعيشون فيه وتحرره من كل ما يعوق تطوره أو يخل بالعدل فيه،انطلاقا من أن السيد المسيح جاء إلى العالم” ليشهد للحق”50 ،لذلك” لا يصمت حيال الظلم والتسلط “51،من أي نوع كانا. لذا رأيناه يندد بالويل لكل من يستغل الناس ويظلم الأرامل ويهمل العدل والرحمة والأمانة.

(2) تفعيل العمل الاجتماعي:

تحمل لنا أدبيات المسيحية الشرقية تراثا غنيا فيما يتعلق بأهمية تفعيل العمل الاجتماعي،انطلاقا من الاهتمام بالمحتاجين الذي يعد من صميم عمل الكنيسة.فالسيد المسيح كان حريصا، بالإضافة إلى تلبية الاحتياجات الروحية،على التأكيد على ضرورة توفير الاحتياجات المادية والنفسية للإنسان. ففي إنجيل لوقا يقول السيد المسيح:
“روح الرب علي لأنه مسحني لأبشر المساكين،
لأشفي المنكسري القلوب،
لأنادي للمأسورين بالحرية،وللعمي بالبصر،
وأرسل المنسحقين في الحرية”52.
فالخدمة الروحية وحدها غير كافية لمن هم في احتياج للعمل الاجتماعي ويذكر الكتاب المقدس”إن كان أخ وأخت عريانين ومعتازين للقوت اليومي،فقال لهما أحدكما أمضيا بسلام،واستدفئا واشبعا.ولكن لم تعطوهما حاجات الجسد فما المنفعة”53 .
على هذا النهج سار آباء الكنيسة بعد ذلك،لذا نجد الكثير من الكتابات لهم، منذ القرن الأول الميلادي وإلى يومنا هذا، تحض على ضرورة تفعيل العمل الاجتماعي مؤسسين رسالة اجتماعية تمثل إطارا فكريا عاما للعمل الاجتماعي على مستوى الممارسة يمكن رصد أهم عناصره 54 كما يلي:
خضوع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية لمعايير العدالة والسلام.
أولوية المصلحة العامة على المصلحة الفردية.
تساوي جميع البشر مهما كانت ظروفهم الاجتماعية.
تنوع الظروف الاجتماعية وتعددها يؤدي إلى عدم تساوي البشر.
إرادة الله هي في إزالة عدم المساواة التي تنتج حتميا بسبب الاختلافات الطبيعية، وذلك عن طريق تطور ونمو الحياة الاجتماعية.
الالتزام بالمشاركة في خدمة الآخرين ووضع كل التميز الفردي وكل المواهب الشخصية من أجل هذه الخدمة.
في ضوء ما سبق، تعددت مجالات العمل الاجتماعي ويمكن رصد أهمها 55 كما يلي:
ـ خدمة الفقراء.
ـ خدمة الأرامل.
ـ خدمة اليتامى.
ـ خدمة الغرباء.
ـ خدمة الغرباء.
ـ خدمة المعاقين.

من أهم الأمور التي تؤكد عليها الأدبيات المسيحية الخاصة بالعمل الاجتماعي المقدم للفئات النوعية المتنوعة،هو أن تقدم الخدمة بروح تواضع أو ما يعرف “بمنهج غسل الأرجل”56،وهي الممارسة التي قدمها السيد المسيح مع تلاميذه عمليا. فالسيد هو خادم للجميع، والذي يقدم خدمة لمحتاج عليه ألا يمارسها بتعالي أو كأنه يمنح عطية لمن هو أدنى. فغسل الأرجل يعود النفس على الخدمة الباذلة بغض النظر عن أن من يتم غسل رجليه ينتمي لمكانة اجتماعية أدنى،أو مهمش بسبب الفقر أو يشعر بحاجة أو متألم أو منسحق .
مع التطور، لم تعد الخدمة تقف عند حد تقديم المعونات والإحسانات وإنما تم الاستفادة من التطور الذي حدث في مجال التنمية وإنه من الضروري إقامة المحتاجين من عثراتهم وتمكينهم وأنجزت اجتهادات عديدة معاصرة حول التنمية في ضوء الكتاب المقدس وكتابات الآباء.57
خلاصة القول هناك وصية واضحة ومباشرة لكل مسيحي أن يعمل على: “…إطعام الجائع،وإرواء العطشان،وإيواء الغريب،وتقديم الكسوة للعريان،والعلاج للمريض،…”،.
وأن يكون عمل الخير لكل إنسان وأي إنسان بما يضمن توفر كل عناصر منظومة الحاجات الإنسانية من أمن وتقدير وحياة كريمة عادلة لكل من:
المأسورين،
المهمشين،
الضعفاء،
صغار النفوس،
الأرامل،
اليتامى،
الأجراء” المبخوس” حقهم.
أو ما أصطلح على تسميتهم ” بالذين ليس لهم من يذكرهم”أي” المنسيون”.

وتجدر الإشارة إلى أن الفقر والفقراء يحتلون أهمية كبيرة في الكتاب المقدس وأدبيات الآباء وسوف نتعرض لها في حينها.

(3) العمل على تطور المجتمع بتبني القيم الإيجابية الداعمة لهذا التطور.

الشخص البشري هو، من طبيعته، كائن اجتماعي، وفي هذا المقام تقول تعليم الكنيسة الكاثوليكية الشرقية58(وفق أدبيات الفاتيكان)”أي أنه يحتاج إلى الآخرين ويميل إلى الاتصال بهم. فالإنسان لا يمكنه الاكتفاء بذاته لبلوغ كماله،بل هو بحاجة إلى الآخرين وإلى المجتمع،فمن ميزة الإنسان الاجتماعية يظهر أن هنالك ترابطا بين نمو الشخص وتطور المجتمع نفسه. ومن الصعب الاستجابة إلى كل نواحي هذا الترابط، بسبب التغييرات العميقة التي تحدث اليوم في مختلف ميادين الحياة الاجتماعية. فالإنسان يكتشف شيئا فشيئا، وبمزيد من الوضوح، نواميس الحياة الاجتماعية. ولكنه يتردد في أمر المنحى الذي يجب أن ينحوه في توجيهها”. وعليه نجد في الأدبيات المسيحية أمرين يتم طرحهما حول العلاقة مع المجتمع والتي على كل مسيحي، من خلال تفاعله مع الشأن العام، أن يأخذ بهما:

الأول: مبدأ “الخير العام”؛

من أهم المبادئ التي يجب أن تنظم الحياة الاجتماعية ضرورة النظر أولا إلى ما يقود إلى “الخير العام”. وهو مجموع الأوضاع الاجتماعية التي تفسح المجال وتعزز في البشر النمو الكامل للشخص و توفر له الأمن والسلام ليس فقط له ولكن لكل من يعيش معهم من أجل ازدهار المجتمع الذي يضم الجميع. ومن ثم على كل شخص أن يتحقق من أن الخير العام يتحقق في المجال العام من قبل الجهات المعنية، وأن يكون هو أحد العناصر الفاعلة في تحقيق هذا الخير العام التي من شأنها تطور المجتمعات.

الثاني: القيم الحاكمة لتنظيم المجتمع

حفظ لنا التراث المسيحي الشرقي، نموذجا لجوهر القيم و للمنهجية التي يجب الأخذ بها لإعداد المجتمع لتقبل التنظيم المرجو للعلاقات فيه. ذاك ما نجده في كتاب”تعاليم الرسل”أو “الدسقولية”،حيث نجد في هذا الكتاب اهتماما جديا بالحياة في المجتمع، فعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن تناول الآتي:
قيمة العمل وأن يكون للإنسان مهنة:
تقول الدسقولية”فإن كان واحد لا يعمل فلا يأكل”59،تبرز الدسقولية أهمية المهنة ـ عمل اليد ـ للإنسان.فالمساعدة الحقيقية لأي إنسان تكون بتعليم”صناعة”حينئذ يمكنه أن يشتري لنفسه تلك الآلات لكي يعمل بما يعوله بل ويتصدق مما يكسبه بعرقه.
كما تشجب الدسقولية المهنة غير الشريفة. ولا يقتصر الأمر على التعليم الخلقي،بل تتدخل بإجراءات فعالة قي هذا المجال. وتطلب بعدم قبول عطاء من الذين لا تخلص أموالهم من “الخطايا”مثل:
* الذين يغشون السلع التي ينتجونها أو يبيعونها،
* الذين يشتهون كل ماهو غريب ،
* الزناة.
* من يمارس الاستغلال والقهر.
* من يستقوى على الضعفاء المهمشين.
فكل هؤلاء عطاياهم مرزولة أمام الله،أي غير مقبولة‘بحسب نص الدسقولية”وأبعد أيها الأسقف  من الذين يضيقون على الأرامل،والذين يتغلبون على اليتيم،والذين يملأون السجون من الرجال الذين بغير علة،والذين يعملون الشر لعبيدهم بالمجاعة والشتم والعبودية الشريرة…وأرفض الأشرار والولاة الذين يجاهدون بالظلم وصانعي الأوثان،والعشارين والغاصبين والسراق والمضلين بالميزان والذين يكيلون بالغش… ومن يأخذ الربا…”.

قيم الإنفاق والاستهلاك وكيفية توزيع الثروة في المجتمع:
أول كل شيء تنهى عن البذخ والإسراف والطمع. ويقول وليم سليمان قلادة أن ثمة نص عام جاءت به الدسقولية في هذا المقام،بصياغة محكمة:
“صادق أخاك في كل شيء، ولا تقل إن مالي هو ذاتي لي- فلقد أعد كل شيء من جهة الله، ليكون الناس كلهم بصداقة”.

(4) ضرورة المشاركة الايجابية:

المشاركة ضرورة مسيحية، بمعنى أن يكون للإنسان دور في كل مجالات حركته:الخاصة والعامة والسياسية، بداية من “التفكير ومرورا بالتعبير والتقرير وحتى التنفيذ”.60 في هذا السياق يدين الكتاب المقدس وبحسم “كل من يعرف أن يعمل حسنا ولا يعمل فذلك خطية له”.61 إن الإنشغال بالشأن العام من الأمور التي يجب أن يلتزم بها المسيحي بما أعطي من مواهب وقدرات وخبرات. وينهى الكتاب المقدس عن المشاركة في كل ما من شأنه إفساد الإنسان أو يخل بسلامه وأمنه.بيد أن هذا النهي لا يمنع الإنسان ، بل يتحتم عليه، أن يواجه الفساد أو الخلل أو الشر أينما وكيفما كان فلا يتستر عليه أو يتواطأ بالصمت عنه ،وينص في هذا المقام على ما يلي:
“لا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة،بل بالحري وبخوها”62 ؛
ذلك لان هذه الأعمال عقيمة من الحياة و تسبب الموت، و لا تستقيم مع أبناء الله الذين يحملون سماته والمنوط بهم بناء واقع آمن مزدهر بسلوك طاهر نقي. فالمسيحي عليه أن يشارك بايجابية في خلق مجتمع تسوده “المحبة والعدالة والحرية والكرامة والاحترام..،مجتمع متضامن و متكافئ الفرص وحر…”63 .المشاركة إنارة للواقع في مواجهة الظلام الذي يتخفى فيه المفسدون،ومتى شارك الإنسان بإيجابية في سياق الواقع الذي يعيش فيه يكون مثل من يضيء شمعة فينير هذا الواقع ومن ثم لا يقدر الأشرار أن يختفوا،”حيث يصير الكل في نور،فلا يقدر اللصوص بالبقاء طويلا إذ يشرق نور المشاركة الإيجابية فينفضح الأشرار ويمسكون”.64

(5) تقديم نموذج عملي للمواطنة.

تحض المسيحية على المواطنة الصالحة انطلاقا من القاعدة التي أرساها الكتاب المقدس على لسام السيد المسيح بأن المسيحي عليه أن يعطي “ما لله لله، وما لقيصر لقيصر”.65 حيث لا يوجد تناقض بأن يوفي الإنسان كل ما عليه من التزامات تجاه الله من جهة، وتجاه الوطن والدولة التي يعيش فيها من جهة أخرى. وقد أجمع الأباء الأوائل على هذا المبدأ،كما أجمعت أدبيات المذاهب المختلفة على ضرورة تفعيله. فكليهما- إعطاء قيصر حقوقه والله حقوقه – ينبعان عن قلب واحد يؤمن بالشهادة لله من خلال الأمانة في التزامه نحو الآخرين والعالم ونحو الله.66 وحول التطبيق العملي لهذا المبدأ الذي أسسه السيد المسيح، فيمكن أن نجده في موقفين تعرض لهما لقديس بولس الرسول ونعرض لهما كما يلي:

الموقف الأول:67

عندما ألقي القبض على بولس الرسول،واتهما بأنهما يهوديان..وتعرضا للضرب والتقييد..وعندما أراد الحكام إخراجهما بغير محاكمة… رفض بولس الرسول الخروج متمسكا بحقوقه كمواطن روماني غير متهاون فيما أجري ضده..ممارسا عمليا حق المواطنة.”68

الموقف الثاني:69

عندما تعرض للجلد..تمسك بولس بحقوقه كمواطن،وقال لقائد العسكر:أيجوز لكم أن تجلدوا إنسانا رومانيا لم يصد عليه حكم قضائي؟
كان بولس بسلوكه هذا يطبق – دونما أي إحساس بالتناقض- المبدأ الذي وضعه السيد المسيح في ضرورة أن يكون مواطنا ومسيحيا في آن واحد. ولعل هذا ما يعبر عنه بلغة العلوم السياسية المعاصرة التفاعل مع المجالين الخاص حيث المعتقدات والانتماءات الأولية، والعام حيث كيانات المجتمع المدني والسياسي،وأهمية التحرك بينهما بانسجام بغير خصومة حيث أن الاكتفاء بأحد المجالين يعني خللا في طبيعة حركة المواطن في الدولة الحديثة من جانب كذلك إخلال بالمبدأ المسيحي من جانب آخر.70
يعكس ما سبق رؤية للمواطنة تؤكد على أهمية التفاعل مع الوطن الذي يعيش فيه المسيحي،ولأن المواطنة لا تتوقف فقط عند المشاركة والالتزام بالوطن والميثاق الرابط بين ما يضم من مواطنين،وإنما تستكمل بمفهوم المساواة،فنجد بولس الرسول يؤكد على المساواة الكاملة بين المواطنين،بغض النظر عن أي فروقات،فيقول بحسم:”ليس يهودي ولا يوناني ليس عبد ولا حر ليس ذكر وأنثى لأنكم جميعا واحدا في المسيح يسوع”71 . ويقول أيضا “لأنه لا فرق بين اليهودي واليوناني لأن ربا واحدا للجميع غنيا لجميع الذين يدعون به”72. ويعلق القس مكرم نجيب على ما سبق بقوله:”أن المساواة هي أساس المواطنة كما أوضح بولس الرسول،ولذلك ينادي بالمواطن الصالح وبالسلطات العادلة التي تعمل لصالح المواطنين،كما يحدد طبيعة العلاقات المحددة بين مواطني المجتمع الواحد،والحقوق والواجبات التي تحكم الجميع”73

بإلاضافة إلى المشاركة والتمسك بالحقوق والمساواة كتجليات للمواطنة هناك عنصر آخر يلح علي الآباء في كتاباتهم هو الاندماج في المجتمع الذين يعيشون فيه. في هذا المقام تجدر الإشارة إلى نص تراثي كلاسيكي يستلهمه كثير من الكتاب المعاصرين، وهو المعروف باسم:
” الرسالة إلى ديوجينيتوس”The Epistle To Diognetus؛
يميل المؤرخون إلى أن إكليمنضس الإسكندري أو أحد تلاميذه ( تعود إلى القرن الثاني الميلادي)، قد قام بكتابة الرسالة. ولعل أهم ما تضمنته الرسالة ويتسق مع ما نطرحه ما يلي:

“المسيحيون ليس لهم ملابس تميزهم عن سائر الناس،
فهم لا يسكنون مدنا مقصورة عليهم…
ولا يتكلمون لغة مخالفة لغيرهم،
ولا يتبعون أسلوبا حياة غير مألوف…
يعيشون وسط جميع الشعوب.
وبينما هم يمارسون العادات المحلية في ملابسهم وطعامهم وطريقة معيشتهم،
يظهرون الطابع المميز لحياتهم،
ويؤدون واجبهم كمواطنين..يطيعون القوانين الوضعية…”74

لا يحتاج النص إلى تعليق حيث يؤكد على اندماج المسيحيين في المجتمع،وأنهم لا يعيشون في ع
زلة،ويسلكون كمواطنين وليس كطائفة دينية. في هذا السياق أكد كثير من الآباء على أهمية الخدمة العسكرية، خاصة وأن هناك جدل ثار مبكرا يقول بوجود تناقض بين المحبة والسلام في المسيحية وبين الانخراط في الحروب. بيد أن هذا الجدل تم حسمه بأن المسيحي الحق عليه الدفاع عن الحق، ورد الحقوق إلى أصحابها، والوقوف إلى جانب الطرف المظلوم ومناصرة الضعيف،بهذا المعنى طرح مفهوم الحرب العادلة في مواجهة الظلم والنزعات العنصرية والاستعلائية،ففي هذه الحالة تكون من أجل الصالح العام وحماية للأنفس وللأرض من الخراب الذي يمكن أن ينتج من مغامرات طامحة ورغبات جنونية.75

(ج-3) أمن الإنسان لا يستقيم مع الفقر.

تعد قضية الفقر، من أهم القضايا التي توليها المسيحية الاهتمام، كما “تمثل خدمة الفقراء ركنا أساسيا من خدمة الكنيسة”.76 وتذكر كلمة فقير في الأدبيات المسيحية(الكتابية نسبة للكتاب المقدس و الآبائية) للدلالة على العوز المادي. كما تولي النصوص أهمية قصوى إلى ضرورة تلبية احتياجات هؤلاء المعوزين،فيقول العهد القديم”ويل للذين يقضون(يحكموا ويشرعوا) البطل وللكتبة الذين يسجلون جورا ليصدوا الضعفاء عن الحكم ويسلبوا حق بائسي شعبي لتكون الأرامل غنيمتهم وينهبوا الأيتام”77 كما أن السيد المسيح كان دائم التوحد بالفقراء فيما يقول”الحق أقول لكم ما أنتم فعلتموه بأحد هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم”78، ويسلك حيث كان يعيش حياة الفقراء،ويحذر من الترف المفسد،ومن التعرض الجارح لهم،وأهمية العطاء بسخاء لكل الفقراء. إن أي فقير يعاني من العوز والحاجة لابد وأن يشعر الباقون بمعاناته ويتوحدون به، “إن كان عضو يتألم فجميع الأعضاء تتألم معه”79 ،فمع هذا الألم لا يمكن أن يتحقق الأمن. وعليه لابد للفقير أن يحظى بالعناية والرعاية، ومن معه عليه أن يسند من ليس معه، “فالله مزج الجسد(الذي يضم أعضاء كثيرة) معطيا الناقص كرامة أفضل”80 ،بمعنى أن الأقل يحتاج إلى كرامة أعظم وبذلك تتساوى جميع الأعضاء في الاهتمام الطبيعي بعضها ببعض.
مع التطور التاريخي، احتلت قضية الفقر والفقراء الاهتمام أكثر فأكثر، فبدأ الحديث عن العلاقة بين رؤية المسيحية للمال81، وعن علاقة الأغنياء بالفقراء،وضرورة تحرير الإنسان من وطأة الحاجة،ومواجهة الاحتكار،والاستغلال المؤدي إلى زيادة الفقراء فقرا، والتفاوت الحاد في توزيع الموارد،…وعليه بدأت تستجيب المسيحية من خلال الكنائس إلى الاجتهاد فكريا وعمليا لتحرير الفقراء من عبودية الفقر.

(د) خاتمة

قد يبدو أمن الإنسان أمرا صعبا،ولكن تؤمن المسيحية أن السلام والأمن قادمان لا ريب في ذلك،شريطة الإيمان بذلك من جهة،والعمل الدءوب من قبل البشر على جعل ذلك حقيقة،وبالأخير :
“يقضي بالعدل للمساكين،
ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض .”82
إنه زمن السلام والأمن والازدهار حيث يجعل: “البشر سيوفهم آلات زراعة ، ورماحهم مناجل .”83 وذلك بما يلي:
” فعل الخير،
طلب الحق،
إنصاف المظلوم،
القضاء لليتيم،
حماية الأرملة”84 و
“إطعام الجائع،
إرواء العطشان،
إيواء الغريب،
تقديم الكسوة للعريان،
العلاج للمريض…”85.
فعمل الخير يجب أن يكون لكل إنسان وأي إنسان بما يضمن توفر كل عناصر منظومة الحاجات الإنسانية من أمن وتقدير وحياة كريمة عادلة، “فيسكن كل منا آمنا”86 .

وعليه يصبح أمن الإنسان واجب على كل مسيحي أن يقوم به ويؤمنه من خلال مجموعة من المهام المتقاطعة والمتداخلة:
1. تقديم نموذج مغاير.
2. الدفاع عن الحق في الأمن.
3. التحرك مع آخرين في محاولة تغيير البيئة غير الآمنة.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern