إدارة التعددية الدينية

تمهيد

يٌعد التنوع أحد أهم ملامح القوي الناعمة التي يمتلكها المجتمع المصري منذ آلاف السنين، حيث لم تؤد خبرة التعايش بين المصريين المختلفين في المعتقد الديني إلي مشكلات كبري تظل عالقة بالذهنية الجمعية المتوارثة للشعب المصري، وإن لم يمنع ذلك من وجود خلافات تظهر ثم تخبو. وقد كان للتوترات الدينية، التي تكاثرت في العقود الأربعة الأخيرة أثرها في تهديد وحدة النسيج الاجتماعي المصري، وسمحت بظهور خطابات انقسامية، وتحركات طائفية، وحالات من المواجهة المباشرة علي الصعيد الاجتماعي بين مسلمين ومسيحيين علي خلفية سوء إدارة التنوع الديني.


إنطلاقا مما سبق، فإن هذه الدراسة لا تعني فقط- مثل غيرها- برصد التوتر الديني، المظاهر، الأسباب، التداعيات، فضلا عن أنها لا تعيد انتاج حديث بات مكررا في المشهد المصري وهو التركيز علي وجود مشكلات أو هموم للمواطنين المسيحيين، البعض يهون من شأنها، والبعض الآخر يضخم منها، لكنها في نهاية المطاف تظل موجودة، تتراكم علي بعضها بعضا، وسط شعور من غالبية المسيحيين أنها لا تحل، بل تتفاقم.
هذه الدراسة- تنطلق من منحي مختلف- وهو النظر إلي مشكلات إدارة التنوع الديني مباشرة في سياق السياسات العامة Public Policies، من خلال اقتفاء سيرة المشكلات، والعوامل المختلفة التي أسهمت في تفاقمها، الحلول التي أتبعت في فترات سابقة للتعامل معها، بيان أوجه الفعالية والقصور فيها، وأخيرا طرح حلول ذات طبيعية برنامجية وإجرائية للتعامل مع المشكلات القائمة في ضوء المستجدات التي طرأت علي الملف الديني، ومواقف الأطراف المتباينة علي الساحة السياسية.
يٌعد ذلك مساحة مختلفة للتعامل مع الشأن الديني في المجتمع المصري، يخرجه من الأحاديث العاطفية حول الوحدة الوطنية، ووحدة النسيج المصري، وينقله إلي خارج مساحة إجترار الهموم وسط مشاعر استقطابية بالتأكيد عليها من جانب البعض ونفيها من جانب البعض الآخر، ويدشن لمنهجية جديدة للتعامل مع هذا الملف ليس بوصفه علاقات بين مسلمين ومسيحيين فقط، ولكن- وهذا هو الأهم- باعتباره مجالا مهما للسياسات العامة التي تحقق الإدارة الرشيدة للتعددية والتنوع الديني.
تأتي أهمية مناقشة إدارة التنوع الديني نظرا لأنه من القضايا الأساسية التي تمثل محورا لتعميق التجربة الديمقراطية، في حالة الإدارة الرشيدة للملف، أو سببا للتوتر، وتقويض التجربة الديمقراطية إذا لم نلتمس الإدارة الرشيدة في معالجته. ولا مفر من طرح هذه القضية علي هذا النحو، ولاسيما أن مصر تمر بمرحلة جديدة منذ ثورة 25 يناير 2011، أدت إلي إسقاط نظام الرئيس مبارك (1981-2011) الذي أرتبط عهده بالعديد من التوترات الدينية الجسيمة، وفتحت المجال أمام مختلف القوي والتيارات كي تتخلص من أرث الماضي، وتعيد بناء مجتمع جديد ينطوي علي علاقات أكثر انفتاحا وأقل توجسا، تقوم علي المساواة والعدالة بين المسلمين والمسيحيين. ويٌعد الحصول علي “الاستقلال الثاني” في الثورة الديمقراطية مدخلا جديدا لإعادة اندماج المسيحيين في التيار الرئيسي للمجتمع المصري المطالب بالحرية، والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. في السابق واجه المسلمون والمسيحيون الاستعمار الأجنبي، وحصلوا علي الاستقلال الأول، وبعد عدة عقود عادوا إلي صفوف المواجهة معا، وحصلوا علي الاستقلال الثاني من الاستبداد الداخلي.

هناك اتجاهان أساسيان

1- الاتجاه الأول، هو اتجاه ثورة 25 يناير الذي تبلور في ميدان التحرير في قلب القاهرة، من خلال مشاركة المسلمين والمسيحيين معا.
ثقافة “ميدان التحرير” تعني الكثير بالنسبة للعلاقات الإسلامية المسيحية:
كسر حاجز اللقاء، والالتقاء حول أجندة سياسية تتعلق بتغيير المجتمع، تتجاوز الذهنية الطائفية.
خبرة التعايش الميداني علي مدار أيام من حيث اكتشاف الآخر علي حقيقته دون افتعال أو تزييف أو الوقوع في أسر الصور النمطية الخاطئة.
التضامن والتعاضد في محنة المواجهة مع عنف يرعاه بقايا نظام سابق، ومشاعر الخوف من المجهول القادم، والرجاء الذي يتلكأ في البزوغ.
وبينما كان المعتصمون في ميدان التحرير يدافعون عن الثورة، كانت “اللجان الشعبية” من المواطنين يدافعون عن مقدرات المجتمع، الأرواح والممتلكات. لم يٌمس مواطن مسيحي، أو كنيسة، أو منشأة دينية. باختصار هو “ميلاد جديد” لرأس مال اجتماعي “عابر” يجمع بين المصريين المختلفين في النوع والدين والفكر والموقع الاجتماعي، لقاء ممتد علي أساس من الثقة، والتضامن، والاحترام المتبادل. ثقافة “ميدان التحرير” لم تعرف الاستقطاب، ولم تسمح به، وأستمدت روحها وزخمها من التوافق بين المختلفين، وكانت، ولا تزال من الممكن أن تلد نظاما جديدا يستوعب الكل، ولا يستبعد أحدا.
ثقافة “ميدان التحرير” تعني أن المسلمين والمسيحيين العرب بإمكانهم أن يعيدوا بناء نظام سياسي يحقق العدالة والمساواة، بعيدا عن أرث الطائفية والشك المتبادل والتمييز في إطار هوية اجتماعية جديدة.
وقد عبرت “وثيقة الأزهر” التي صدرت في 19 يونيو 2011 عن هذه الخبرة في بعض نصوصها، ففي الوقت الذي طالبت فيه بالدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التي تستلهم المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية في التشريع، نصت علي أحتكام غير المسلمين لشرائعهم الدينية في الأحوال الشخصية. وأكدت علي “الحرص التام علي صيانة كرامة الأمة المصرية والحفاظ علي عزتها الوطنية، وتأكيد الحماية التامة والاحترام الكامل لدور العبادة لأتباع الديانات السماوية الثلاث، وضمان الممارسة الحرة لجميع الشعائر الدينية دون أية معوقات، واحترام جميع مظاهر العبادة بمختلف أشكالها….”

2- الاتجاه الثاني، هو اتجاه ما قبل ثورة 25 يناير، يعيش علي الاستقطاب، والتمييز، وتعطيل التوافق، وزرع مشاعر الارتياب بين المختلفين في النوع أو الدين أو المعتقد السياسي أو الفكري. باختصار هو يعمق من رأس المال الاجتماعي “الجامع”، الذي يعزز التضامن حول الصيغ التقليدية في العلاقات الاجتماعية، ويطورها إلي مواجهة مع الآخر المختلف.
وقد ترتب علي هذا الاتجاه تداعيات كثيرة سلبية، أهمهما:
الاستقطاب الإسلامي العلماني، وهو ليس جديدا نعرفه في مساجلات ممتدة، واتهامات متواصلة بين هذا الطرف أو ذاك. انتعش هذا الاستقطاب مع سقوط النظام، وتحول من استقطاب فكري إلي استقطاب سياسي في الشارع علي هوية المجتمع. المسيحيون في قلب هذا الاستقطاب، فمن ناحية تنادي القوي العلمانية بدولة تقوم علي المواطنة الكاملة دون أن يكون الدين سببا للتمييز بين المواطنين، ومن ناحية أخري تطالب غالبية القوى الإسلامية بدولة حديثة تستند إلي حكم القانون والمؤسسات، ولكن علي نحو يجعل الدين حاضرا في بنيتها السياسية والقانونية والاجتماعية. إذا كان هذا هو الحادث في مصر حاليا، ويشعر المسيحيون بأنهم بين هذا الطرف وذاك. الأفضل أن يظل المسيحيون جماعة متنوعة، وليست مع هذا الفصيل أو ذاك، يتحركون في المجال العام طبقا لقناعاتهم السياسية وليس بوحي من توجساتهم الدينية2.
عودة التوترات الدينية، سواء في شكل تحرشات طائفية، أو مواجهات تدمر فيها كنائس مثلما حدث في قرية “صول” ثم حرق كنيسة بمنطقة “إمبابة”، ثم نقل كنيسة ثالثة بمحافظة إلمنيا، والتحرش ببناء أخري في محافظة أسوان. وفي بعض من هذه الأحداث حدثت مواجهات بين مسلمين ومسيحيين، تحطمت فيها الممتلكات، وزداد الشعور بالخوف، واليأس، وعاد انتاج الاتهامات المتبادلة. ولعل أخطرها ما يعرف بحادث ماسبيرو الذي سقط فيه قتلي وجرحي، وترك تداعيات نفسية حرجة بالنسبة لعموم الأقباط.
تصاعد أصوات كانت خافتة في السابق، تطرح رؤي دينية شديدة التقوقع، تسلب الفقه المصري الرحب خصوصيته وتفرده، وتطرح أفكار تعمق مشاعر الارتياب، والخوف، وتولد ردة فعل عكسية غاضبة في وقت يعيد المجتمع فيه بناء ذاته. تستخدم هذه الأصوات لغة التكفير، واعتبار المسيحيين “جماعة دينية”، وليسوا مواطنين متنوعين، وبالتالي انتظام المجتمع علي أسس دينية تعطي السيادة لأغلبية دينية علي أقلية دينية، وهو ما يمثل خروجا علي العقد الوطني المصري بين المسلمين والمسيحيين، الذي تجسد عبر التاريخ، وأعاد المجتمع إكتشافه في خبرة الثورة المصرية.
استمرار ذهنية إدارة الملف الديني كما كانت في النظام السابق من حيث تنحية القانون، والركون إلي الحلول العرفية، وعدم التعامل بشفافية مع التوترات الدينية، والاكتفاء بالحديث المبهم حول القلة أو الشرذمة التي تفتعل الفتنة، أو فلول النظام السابق، أو الأيادي الخارجية، وتمثل جميعها “إحالة” للمجهول، دون تحديد واضح للأطراف الضالعة في الإساءة إلي العلاقات الإسلامية المسيحية، علي نحو يجعل المجتمع يتبصر الأمر.
ورغم هذه المظاهر السلبية في التعامل مع الشأن الديني، فإن الأمر لا يخلو من ايجابيات يتعين التوقف أمامها:
القضايا المتعلقة بالمواطنة، والعلاقات الإسلامية المسيحية أصبحت تداول علي نطاق واسع، وبمساحة أكثر من الصراحة.
تحول العلاقات الإسلامية المسيحية ربما للمرة الأولي منذ أكثر من ثلاثين سنة إلي شأن سياسي، تنظر في أمره مؤسسات سياسية، بعد أن ظل لسنوات طويلة رهن للحل الأمني.
تشكل منتديات ولجان كثيرة، من “بيت العائلة” التي يرعاها الأزهر الشريف، إلي لجنة “العدالة الوطنية” بمجلس الوزراء، وخلافه، كل ذلك يجعل هناك نقاط كثيرة للالتقاء علي مستويات مختلفة للنقاش حول مشكلات حقيقية، بعد أن ظلت لسنوات مجرد مظاهر احتفالية. ولكن يقتضي الأمر تفعيل هذه الهياكل حتي لا تتحول بمرور الوقت إلي مؤسسات “ديكورية” لا فاعلية لها.
الرغبة في التعامل مع المشكلات القبطية، وبخاصة المتفاقمة منها مثل بناء وترميم الكنائس.
ترمي هذه الورقة إلي النظر إلي المشكلات القبطية من منظور السياسات العامة، من خلال استعراض جوهر المشكلة، البدائل المتداولة، الحلول الحالية، وطرح رؤي مستقبلية وذلك من خلال:
القسم الأول: استعراض تاريخي موجز للمشكلات القبطية، بما يعني تتبعها، وتراكمها، والأخفاق في مواجهتها.
القسم الثاني: النظر في سوء إدارة التعددية الدينية في الثلاثة عقود الأخيرة.
القسم الثالث: طرح عدد من الحلول البرنامجية والإجرائية للتعامل مع بعض المشكلات القبطية الملحة، أنطلاقا من خلفية مرجعية تستند إلي حقوق الإنسان، والخبرة الدستورية المصرية، والحقوق والحريات الأساسية المكفولة للمواطنين.
القسم الرابع: الحديث المفصل عن مقترح برنامجي للتعامل مع القضية الأبرز في الملف الديني في مصر وهي “التوترات الدينية”

القسم الأول

إطلالة علي المشكلات القبطية

تردد صدي المشكلات التي يعاني منها المواطنون المصريون الأقباط خلال القرن العشرين، وتفاقمت في السنوات الأخيرة منه، وأستمرت في العقد الأول من مفتتح القرن الحادي والعشرين. أختلفت طبيعتها من مرحلة لأخرى، كما تباينت درجة حدتها حسب طبيعة النظام السياسي السائد.
هذه المشكلات ليست جميعها قانونية-سياسية مثل بناء وترميم الكنائس، أو التمثيل السياسي للأقباط في المجالس التشريعية والنقابية المنتخبة، أو التعيين في المناصب العليا في جهاز الدولة، لكنها في جانب منها ذات طبيعة ثقافية مجتمعية، تتمثل في انتاج نصوص طائفية تعمق الفرز والتمييز في المجتمع علي أساس ديني، وتحول دون التلاقي الطبيعي بين المواطنين المصريين مسلمين ومسيحيين، وتخلق حالة من العزلة بالنسبة للأقباط، هذا إلي جانب شيوع أنماط من الصور الذهنية المتبادلة علي الجانبين تحمل في ذاتها آثار انخفاض مستويات التلاقي بين المسلمين والمسيحيين، وتغلغل الخطابات الدينية المتشددة، وتصاعد الشعور بالاحتقان لدي الأقباط وقطاع من المسلمين علي حد سواء.
يُشار دائما في المراجع التاريخية إلي عهد محمد علي باشا الحكم (1805-1848) بأنه بداية تأسيس الدولة المصرية الحديثة، والتي تبلورت طيلة القرن التاسع عشر، وأمتدت في ثنايا القرن العشرين. شارك الأقباط، أسوة بغيرهم من المصريين في مشروع الدولة الحديثة، وجني ثمار المشاركة فيه، بصدور قرار في عهد الوالي سعيد باشا (1854-1863) بإسقاط الجزية عنهم، وإدخالهم الجيش المصري عام 1855م. وفي أول تجربة سياسية انتخابية في التاريخ الحديث، وهي مجلس شوري النواب عام 1866م، دخل الأقباط عضوية المجلس بالانتخاب أسوة بالمسلمين3، وذلك في عهد الخديوي إسماعيل (1863-1879)
في أعقاب الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882م، يشير عدد من المؤرخين إلي أن المشكلات الطائفية بدأت في الظهور، ليس بسبب موالاة الأقباط للإحتلال، أو دعم الإحتلال لهم، ولكن بسبب سياسة التفرقة المنهجية التي أتبعها الأستعمار التي أشعرت المسلمين بأنهم الأغلبية العددية، ولهم الحق في الوظائف الرئيسية في جهاز الدولة، وفي الوقت نفسه إشعار الأقباط بأن المسلمين هم سبب إقصائهم. في هذا الخصوص يشير المستشار طارق البشري إلي سياسة الاحتلال: “تمثلت هذه السياسة في أن تعمل السلطة البريطانية- من خلال الحكومات المصرية التابعة لها- علي أن تستبعد الكثير من القبط من وظائفهم بالتدريج، وأن تثير في العناصر الحاكمة من اتباعها المسلمين معايير العدالة الانجليزية التي أشار إليها كرومر( المعتمد البريطاني) والاحساس بالفوارق الدينية، وحق الأغلبية في المناصب الرئيسية، مع تقدير أن هذه السياسة ستلتصق تلقائيا بالحكومة المحلية المسلمة، وبهذا يتخلص الإنجليز من العنصر القبطي جزاء لما لم يبدوه من صداقة لهم..”4
أنتجت السياسة البريطانية مفعولها. بعد مرور خمسة عشرة عاما علي الاحتلال البريطاني لمصر تزايدت الشكوى من التفرقة في صفوف الأقباط، وقدم وفد قبطي في أوائل عام 1897م شكوي إلي رئيس الوزراء مصطفي باشا فهمي، واللورد كرومر المعتمد البريطاني بخصوص “تعمد الاحتلال الأغضاء عنهم بل وتمييز أخوانهم المسلمين عليهم”، وأنحصرت المطالب القبطية في طلب المساواة في الوظائف الإدارية، وفي عطلة جلسات المحاكم يوم الأحد، والتمثيل السياسي في المجالس القائمة وقتئذ، فضلا عن تعليم الدين المسيحي للطلاب الأقباط في المدارس الأميرية5.
لم تٌحل الهموم القبطية، وشكل العقد الأول من القرن العشرين مجالا للاحتقان الطائفي، وقدم بعض الأقباط بيانا نشر في جريدة “مصر” في شهري يناير وفبراير عام 1911م، جدد الحديث عن المشكلات القبطية، وأكد من جديد علي المساواة في الوظائف، وتمثيل الأقلية في الهيئات النيابية، والتعليم الديني للأقباط في المدارس، وايجاد محاكم أحوال شخصية للمسيحيين6.
إزاء تصاعد خطاب التمييز ضد الأقباط، عٌقد المؤتمر القبطي يوم الأثنين 6 مارس 1911م، وهو أول مؤتمر ينعقد لمناقشة المشكلات القبطية، وتمخضت النقاشات التي دارت فيه عن طلب المساواة في الوظائف، ولكن من خلال التأكيد علي مبدأ الكفاءة، واحترام حق الموظفين والطلاب الأقباط في الحصول علي عطلة أسبوعية يوم الأحد، وتمثيل جميع المصريين في المجالس النيابية دون تفرقة، وجعل الخزينة العامة مصدرا للأنفاق علي جميع المرافق المصرية دون تمييز. وقد ساد المؤتمر روح وطنية عامة، لم تدع إلي التفرقة بين مسيحي ومسلم، بل إلي الاندماج، والتوظيف حسب الكفاءة، والتعليم المشترك، وأهمية التمثيل النيابي دون اعتماد مبدأ تمثيل الأقلية7.
في غضون أسابيع قليلة عٌقد مؤتمر إسلامي للرد علي المؤتمر القبطي، والذي أكد علي أهمية الكفاءة في تولي الوظائف العامة، وحق الأقباط في الذهاب إلي أعمالهم يوم الأحد عقب أداء الصلاة، وأهمية انتخاب المرشح الكفء بصرف النظر عن هويته الدينية، وأهمية التمثيل العادل في البرلمان، وأكد المؤتمر علي أن “المسلم والقبطي كلاهما ابن الأمة المصرية، وكلاهما له الحق الكامل في خدمتها، والاعتزاز بتلك الخدمة”، وذكر بأن تهاون الأغلبية في حقوق الأقلية هو من “أكبر العوامل علي العبث بالتضامن الذي هو أساس الوجود القومي”8.
أدي قيام ثورة 1919م، بما شهدته من مشاركة قبطية، وتلاحم مصري إسلامي مسيحي في وجه الإحتلال البريطاني، الذي كان قد خرج سليما دون إدانة في المؤتمرين القبطي والإسلامي، إلى بعث روح وطنية جديدة، تعززت بصدور دستور 1923م، الذي أكد علي المساواة بين كل المصريين، بصرف النظر عن الاختلاف في المعتقد الديني، وأقر حرية أداء الشعائر الدينية، وإن إشار إلي أن الإسلام دين الدولة، وهو أمر لم يكن محل اعتراض من الأٌقباط الذين شاركوا في لجنة وضع الدستور.
شهدت فترات كثيرة أثناء ما يعرف بالعهد الليبرالي (1923-1952م) عددا من التوترات والمشكلات الدينية، بعكس ما هو شائع في العديد من الأدبيات التي تنظر بكثير من الأعجاب إلي هذه الفترة من التاريخ الحديث بأنها “فترة سعيدة” للأقباط أو للعلاقات الإسلامية المسيحية. إذ لم تدم الحالة الوطنية التي أعقبت ثورة 1919م طويلا، وعادت المشكلات القبطية إلي الظهور مرة أخرى بصور مختلفة. ويمثل عقد الثلاثينيات من القرن العشرين بعثا جديدا لهذه المشكلات، خاصة بعد خروج حزب الوفد من السلطة، الذي أحتضن تطلعات الشعب المصري المشروعة في الحرية والاستقلال والمساواة، وحدوث ما يشبه الانقلاب علي الشرعية الدستورية. من هذه المشكلات صدور قرار من وزير العدل عام 1931م، بأن تكون الشهادة الطبية المقبولة في القضايا الشرعية من طبيب مسلم فقط، والتراجع عن قرار تدريس الدين المسيحي في المدارس الذي صدر عام 1907م، إصدار شروط عشرة تحكم بناء وترميم الكنائس، وهي شروط مقيدة في مجملها، ترهن ممارسة الأقباط لشعائرهم الدينية بموافقة السكان المحليين المسلمين.، وهي الشروط التي لا تزال معمول بها إلي الآن، فيما يطلق عليه شروط “العزبي باشا” التي صدرت عام 1934م.
هناك عدد من الأدبيات التي صدرت تؤرخ أو تسجل مذكرات كتب عن هذه الفترة تشير إلي المناخ الطائفي الذي لم يغب عنها، وأرتبط ذلك في أحيان كثيرة بنشاط جماعة الأخوان المسلمين التي نشأت عام 1928م، وسعت إلي إحلال الرابطة الدينية محل الرابطة الوطنية.
فقد أشار الدكتور رشدي سعيد، وهو جيولوجي مصري معروف وأحد السياسيين الذين كان لهم دور في الستينيات والسبعينيات، في مذكراته إلي أن نشاط الإخوان المسلمين في الجامعة قبل ثورة 1952م، ترتب عليه حالة من التفرقة بين المسيحيين والمسلمين، وإشاعة مناخ من التعصب9.
وأشار طيبب قبطي هو زغيب ميخائيل في كتاب، قدم له المفكر سلامة موسي، إلي الأحداث الطائفية في العهد الليبرالي بالتركيز علي أوجه التمييز الذي عاني منها الأقباط في البث الإذاعي، والبعثات الخارجية، وكذلك استهداف الكنائس مثلما وجه الاتهام إلي الإخوان المسلمين بحرق كنيسة في الزقازيق في إبريل عام 1947م، وهو ما نفاه الأخوان المسلمون10.
في أعقاب قيام ثورة 1952م، خفت حدة المشكلات القبطية، نظرا لأنحسار التيار الإسلامي، ورحيل الإستعمار البريطاني الذي كان يلعب علي وتر الطائفية. وبرغم أن هناك بعض المصادر القبطية التي تنظر سلبيا إلي الدور الذي لعبته الثورة، وما تلاها من سياسات اشتراكية تبناها النظام الناصري في تقويض دعائم الرأسمالية القبطية، وتجفيف منابع مشاركة الأقباط سياسيا بعد حل الأحزاب السياسية، إلا أن هناك وجهة نظر أخري تري أن السياسات الاجتماعية الناصرية اسمهت في تبلور الطبقة الوسطي التي أستفاد منها المسلمون والأقباط علي حد سواء، فضلا عن أن الشعب المصري، مسلميه وأقباطه تأثروا بالتحولات السياسية والاقتصادية التي حدثت في المجتمع. وبصفة عامة يمكن القول بأن العهد الناصري (1954-1970م) شهد خفوتا في تأثير بعض المشكلات القبطية مثل بناء وترميم الكنائس، وغيرها، إلا أنه في الوقت نفسه شهد تصاعدا لمشكلة أخري، ظلت تنتج تأثيراتها لعقود بعد ذلك هي التمثيل السياسي في البرلمان. فقد ترتب علي حل الأحزاب السياسية، ثم الركون إلي صيغة التنظيم السياسي الواحد باختلاف مسمياته تراجع مستوي تمثيل الأقباط في البرلمان. ولجأ النظام الناصري في البداية إلي أغلاق دوائر انتخابية علي الأقباط عام 1957، ثم ما لبث أن استعاض عن ذلك بتعيين عدد من الأقباط بدلا من الإصرار علي انتخابهم بدءا من دستور 1964، وهو ما أضعف من تواجدهم في المجتمع، وشكل صعوبات لإنتخابهم لاحقا، وصار المعينون أقرب إلي الحكم في تصوراتهم منها إلي مشكلات الأقباط. في هذا الصدد يري ميلاد حنا “أن رئيس الجمهورية اكتفي بتعيين عشرة أعضاء في مجلس الشعب (أو الأمة) في كل المجالس النيابية التي تلت ذلك لتمثيل أقليات رؤى من الضرورة تواجدها في المجلس بشكل رمزي وهي الأقباط واليسار والمرأة، وجري العرف أن يكون غالبية المعينين من الأقباط”11. هذه السياسة ظلت مستمرة في كل من نظامي السادات ومبارك، وأصبح انتخاب قبطي في الانتخابات البرلمانية مسألة بالغة الصعوبة.
وهكذا لم يستطع نظام يوليو الاستمرار فيما أسسته ثورة 1919 بالنسبة للاندماج الوطني بين المسلمين والأقباط. وليس صدفة أن تأميم العمل السياسي امتد إلى كل شيء؛ فالمجلس الملي تم تجميده في مطلع الستينيات، وتم وضع لائحة لانتخابات البطريرك، ألغي معها الانتخاب الحر المباشر لصالح ما يعرف بالقرعة الهيكلية. وفي محاولة لخلق شخصيات مدنية قبطية من طراز (مكرم عبيد وويصا واصف) تم الاستعانة بالتكنوقراط الأقباط من جهة وبالأنتلجنسيا “النخبة المثقفة” القبطية من أبناء الطبقة الصاعدة، بعضهم من اليسار وبعضهم من أبناء حركة مدارس الأحد؛ بمعنى أن النظام السياسى قد استعان بكل من التكنوقراط الأقباط وبالأنتلجنسيا القبطية ليكونا بمثابة جناحين يتعامل معهما مع الشأن القبطي12. وذلك كما حدث مع العمال عندما تم اختزالهم في الاتحاد العام لعمال مصر مثلا، أي نفس المنهج الذي يقوم على تقسيم المجتمع إلى فئات نوعية واختزالها في وسطاء قد يكونون أفرادًا أو مؤسسات.
حملت حقبة السبعينيات واقعا مختلفا للعلاقات الإسلامية المسيحية، فقد أطلت التوترات الدينية برأسها، وأضيف مصطلح “الفتنة الطائفية” إلي القاموس السياسي والإعلامي. بدأت أحداث التوتر الديني بحادث أخميم عام 1970م13، ثم حرق كنيسة بمنطقة الخانكة عام 1972م، تلاها صدور تقرير عن بعثة تقصي الحقائق التي شكلها مجلس الشعب، بناء علي طلب الرئيس أنور السادات، وجاء التقرير موضوعيا، كاشفا عن عمق المشكلات المتجذرة في النسيج الاجتماعي المتعلقة ببناء وترميم الكنائس، التنشئة الاجتماعية، الخطابات الدينية، الخ.
جاء عودة التيارات الإسلامية إلي الساحة السياسية، وما أرتبط بذلك من تقديم خطابات فقهية مغايرة لما تعارف عليه المصريون في شأن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين إلي تعقيد المناخ العام. ومن أبرز ما يشار إليه خلال هذه الفترة هو عقد المؤتمرين القبطي والإسلامي مرة أخري، ليس تحت مظلة مدنية مثلما حدث عام 1911م، ولكن تحت رعاية المؤسستين الإسلامية والمسيحية. فقد ترتب علي تقدم الأزهر بمشروع قانون لإعدام المرتد، وإقامة الحدود إلي مجلس الشعب لإقراره حدوث حالة من الرفض والاحتقان من جانب الأقباط، حيث شعر المسيحيون بأنهم مستهدفون من هذه التوجهات الجديدة. وعلي إثر ذلك عقدت الكنيسة القبطية مؤتمرا بالإسكندرية في 17 يناير 1977م، تمخض عنه بيان يحمل عددا من المطالب الأساسية أبرزها: ضمان حرية العقيدة، إلغاء الشروط العشرة المفروضة علي بناء الكنائس، عدم قبول تطبيق الشريعة الإسلامية علي المسيحيين، تحقيق تكافؤ الفرص في الوظائف العامة، وضمان تمثيل نيابي حقيقي للمسيحيين في الهيئات النيابية، وحرية نشر المؤلفات المسيحية ووضع حد للكتب التي تتعرض للدين المسيحي وعقائده، وتضمين مناهج الدراسات بالجامعات والمدارس ما يتعلق بالحقبة القبطية في التاريخ المصري، وأخيرا حماية الأسرة المسيحية14.
وقد عقد الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، شيخ الأزهر مؤتمرا إسلاميا في يوليو 1977م للرد علي المؤتمر المسيحي، أكد فيه علي ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية، وأنه من غير المقبول التريث في قضية تطبيق الشريعة مراعاة لمشاعر المصريين الأقباط15.
وقبل أن تنتهي حقبة السبعينيات بكل ما تحمله من مناخ طائفي بعث مريت بطرس غالي، بمذكرة مهمة للمسئولين عام 1979م، بهدف المصارحة بالهموم القبطية، بدلا من “الثنائية المحيرة تلك التي تنادي من جهة بالشكوى والأفصاح بقصد الإصلاح، وتنادى من جهة أخرى بالسكوت والكتمان بقصد المحافظة علي سمعة البلاد في الخارج أو بقصد عدم الإثارة في الداخل، فكثيرا ما تنتهي إلي كتم القضايا الدقيقة والسكوت علي المسائل الحساسة، بدل أن تصارح بها الرأي العام لكي يتبين الحق من الباطل، والخير من الشر”. وأفاض ميريت غالي في مذكرته المهمة في الحديث عن المطالب القبطية المعروفة: مشكلة الأحوال الشخصية، بناء وترميم الكنائس، التضييق علي ممارسة المسيحيين الشعائر الدينية، الكتابات، والمخاطبات الرسمية التي تطعن في صميم العقيدة المسيحية، وغياب الحقبة القبطية من مناهج التعليم، والمظالم التي يعاني منها الأقباط في شغل الوظائف الإدارية والتمثيل السياسي في الهيئات النيابية المنتخبة16.
ويلاحظ أن حقبة السبعينيات شهدت الحديث عن الوضع الفقهي للأقباط، ومن ثم برز مفهوم “أهل الذمة”، وتوافق ذلك مع إعلان رئيس الدولة أنه رئيس مسلم لدولة إسلامية، وهو ما يثير السؤال ضمنًا: وماذا عن غير المسلمين؟ ولما ترتب على ذلك مما أسميته منذ وقت مبكر “تديين الحياة السياسية””؛ أي التحرك في اتجاه السياسية على أساس ديني، أو بلغة أقرب: تيار إسلامي وتيار غير إسلامي، وهكذا. وفي هذا المقام اعتمد النظام على الكيان الديني ليكون معبرا عن الأقباط بدلا من الانتليجنسيا والتكنوقراط الأقباط.
وقد دعم ذلك انسحاب الدولة من كثير من الواجبات التي من المفروض أن تقوم بها مثل: التوظيف والعلاج، حيث وجد الفرد أنه لا مناص من العودة إلى المسجد أو الكنيسة بحثًا عن العلاج أو الدرس الرخيص، وهكذا وهنت الرابطة التي تربط بين الفرد/ المواطن والجماعة الوطنية لصالح الانتماءات الفرعية. إنها عودة إلى “دولة ما قبل المواطنة” 17.
وفي كتاب صدر عام 1998م، أجريت حوارات مع عدد من أفراد النخبة المصرية، من مختلف المشارب الفكرية والسياسية: يسار، ليبراليين، إسلاميين، حول ما إذا كان الأقباط يعانون من مشكلات بسبب انتمائهم الديني، وقد أجمع المثقفون علي أن الأقباط يعانون من مشكلات خاصة بسبب انتمائهم لمعتقد ديني يختلف عن معتقد الغالبية العددية، وإن إختلفوا حول تحديد حجم هذه المشكلات، وطرق حلها، ما بين اتجاهات سعت للتهوين من الهموم القبطية، وأخرى حاولت التهويل منها. وما بين التهوين والتهويل، ظلت هناك مساحة مهمة لا يمكن تجاوزها هي الاعتراف بالمشكلات نفسها. أبرز المشكلات التي ذكرت هي الصعوبات التي تجابه بناء وترميم الكنائس، تولي الأقباط وظائف قيادية أو عليا في الجهاز الإداري للدولة، فضلا عن ضعف التمثيل السياسي في المجالس النيابية18.
وقد أستند عهد الرئيس السابق حسني مبارك (1981-2011) في تعامله مع الأقباط علي التعامل معهم بوصفهم كتلة واحدة، أختزلت في المؤسسة الكنسية، وأصبح رأس هذه المؤسسة، البابا شنودة هو الممثل للأٌقباط فعليا. وأعتمد مبارك علي سياسة التوازن في التعامل علي مستوي الشأن الديني، ما بين المسلمين والأقباط، وفي الواقع أن المسلمين في نظره كان التيار الإسلامي، فتحول الأقباط إلي الطرف الآخر في مواجهة التيار الإسلامي في ظل سيادة النظرة الأمنية في التعامل مع كلاهما. أدي ذلك إلي مزيد من الاحتقان، وحمل رسائل متناقضة علي الجانبين، ما بين أقباط يرون أنهم يتعرضون إلي تمييز وتعصب، وإسلاميين ينظرون إلي الأقباط بأنهم “أقلية مدللة”، و”دولة داخل الدولة”، الخ. أدي تصاعد الاحتقان إلي حدوث الكثير من التوترات الدينية التي أخذت شكل الاشتباكات بين المواطنين حول بناء وترميم كنائس، أو خلافات اجتماعية واقتصادية، وتعددت بؤر الاحتقان، وتمددت في مناطق عرفت في تاريخها مستويات مرتفعة من التعايش الإسلامي المسيحي.
وعندما تداعي نظام مبارك كانت المشكلات القبطية في أوجها. مشكلات تتعلق ببناء وترميم الكنائس، حجب الوظائف العليا في مؤسسات الدولة عن الأقباط، ضعف الحضور البرلماني للأقباط، تفشي السجال الديني والطعن في العقيدة المسيحية. لم يسهم نظام مبارك- بأدائه البيروقراطي الرتيب، ونظرته الأمنية الضيقة- في حل المشكلات القبطية، بل علي العكس تنامت وتكاثرت وحملت أبعادا جديدة في عهده الذي أمتد لنحو ثلاثة عقود.
وعلي سبيل التصنيف يمكن القول بأن هناك نوعين من المشكلات القبطية19.

* 1 – هموم مؤسسية: نقصد بها الهموم التي تخص الكنيسة والدولة، وتتضمن الأوقاف وبناء وترميم الكنائس.

* 2 – هموم حياتية: نقصد بها تلك الهموم التي يتعرض لها الأقباط في حياتهم اليومية بصفتهم الدينية مثل: عدم تكافؤ الفرص، والتشكيك في العقيدة الدينية، والتراجع عن المواطنة، وتداعيات ذلك على الاندماج الوطني.

بالطبع فاقم من هذه “الهموم” التعامل البيروقراطي مع الشأن القبطي، وهو تعامل غير مبدع ويكرس ما هو قائم؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر إشكالية بناء الكنائس مطروحة منذ حادثة الخانكة 1971 وطرحت حولها حلول كثيرة، وكتبت الكثير من الكتابات (راجع تقرير العطيفي 1972، وتقرير مريت غالي 1979، وكتابات وليم سليمان قلادة، وميلاد حنا،وأبو سيف يوسف، ونبيل عبد الفتاح، وسمير مرقس، وسامح فوزي وآخرون حول هذا الموضوع)، ولكن إلى يومنا هذا لم تزل مشكلة قائمة وهما جاثما.
كذلك فاقم الإحساس بالأزمة هجمات الجماعات الإسلامية المسلحة التي استهدفت الأقباط بشكل مباشر، وعدم قدرة الكيانات السياسية القائمة من أحزاب ونقابات من ابتكار وسائل تفتح آفاقًا لاستعادة الأقباط كمواطنين في مسيرة المواطنة المصرية.
يضاف إلى ما سبق وبالعودة مثلا إلى المحاضر الأمنية للأحداث الدينية يذكر دومًا “الطائفة الأرثوذكسية”، في إشارة -ربما تكون غير مقصودة- إلى نظر البيروقراطية المصرية إلى الشأن القبطي، بالرغم من أنه من مراجعة تاريخ الأقباط في الفترة العثمانية تبين أن مصر لم تعرف نظام الملل بالمطلق كما هو الحال في مناطق الشام (راجع “الأقباط في العصر العثماني” في القسم الثالث من كتاب “الحماية والعقاب: الغرب والمسألة الدينية في الشرق الأوسط”)
حكمت المشهد السابق رؤية دينية من بعض تيارات الإسلام السياسي غاب عن ذاكرتها مسيرة الحركة الوطنية المصرية والتي بذلت جهداً نحو الاندماج، حيث كانت لها رؤى مغايرة لهذا الحركة. بالرغم من ذلك كان هناك تيارات أخرى استطاعت أن تقدم اجتهادات فقهية معتبرة ومتقدمة وتفصيلية فيما يتعلق بالأقباط والشأن القبطي (مثل اجتهاد الدكتور أحمد كمال أبو المجد والدكتور محمد سليم العوا). بيد أن الأخوان المسلمين لم يطرحوا إلا شعارات عامة ملتبسة تثير القلق أكثر مما توفر الأمان ، خاصة من تجنب الحديث عن بعض الأمور التفصيلية مثل مفهوم الولاية وتطبيقاته على أرض الواقع كذلك مفهومي الأغلبية والأقلية . يضاف أيضا غلبة خطاب ما أسميته منذ وقت مبكر تديين الحياة السياسية أي تقسيم العمل السياسي إلى مسلمين وغير مسلمين والنظر إلى الأقباط كجماعة دينية، وهنا يمكن مراجعة الخطاب الفكري والسياسي منذ الأستاذ حسن البنا وإلى الآن، حيث لا يوجد نص تفصيلي يتعرض لموقف الجماعة من الأقباط بل أقصى شعار تم إعلانه في هذا الصدد هو ” لهم ما لنا وعليهم ما علينا ” أو شركاء في الوطن يمكن مراجعة مجموعة رسائل الأمام الشهيد حسن البنا وكتاب حديث الثلاثاء للأستاذ حسن البنا ومجموعة أعداد مجلة الدعوة قبل توقفها، وأحاديث مرشدي جماعة الأخوان المسلمين خاصة الأستاذين مصطفى مشهور ومأمون الهضيبي والكتابات التي صدرت عن قيادات من الأخوان المسلمين.
على الجانب الأخر نجد المراجعات الفقهية التي أنجزتها الجماعة الإسلامية -مع التقدير الكامل لقيمة المراجعة- جاءت أدنى بكثير من اجتهادات أخرى متقدمة أشرنا إليها سابقا فيما يتعلق بقضيتي الجزية والذمة . ويضاف إلى ما سبق أن هذه المراجعات لم تأخذ في الاعتبار قط مسيرة الحركة الوطنية المصرية على أرض الواقع ، فلقد وافقوا على قرار الخديوي سعيد بإلغاء الجزية عام 1855م لأن القرار صدر من قبل الحاكم وهو يتحمل تبعة قراره وتركوا الباب مفتوحا لإمكانية تغيير هذا القرار ومن ثم لا يمكن اعتبار هذا الأمر مبدأ فقهي مستقر (راجع : كتاب نهر الذكريات: المراجعات الفقهية للجماعة الإسلامية، مكتبة التراث الإسلامي، 2003.). يشير ذلك في الواقع إلي العودة إلي مفهوم الطائفة والذمة.20

إن المحصلة النهائية التي خلصت إليها القضايا والهموم القبطية عشية تداعي نظام مبارك، نرصد منها21:
* 1- استبعاد الأقباط من القوائم الانتخابية بدعوى ضعف قدرتهم على الفوز وهنا يشار إلى موقف الحزب الوطني الحاكم حتي عام 2011م الذي لم يقدم إلا مرشحين من إجمالي 444 مرشحاً في الانتخابات التشريعية.
* 2- محاصرة المرشحين الأقباط الذين بادروا بالمشاركة بالفتوى الدينية من بعض من عناصر تيار الإسلام السياسي، ومن بعض عناصر الحزب الوطني ذاته.
* 3- استمرار عدم التصدي لبعض الهموم الحياتية المعلقة الخاصة بالأقباط بشكل حاسم ونهائي.
* 4- التحول النوعي في طبيعة إثارة التوتر الديني، حيث مر هذا التوتر الديني في ثلاث مراحل منذ السبعينيات : بدأ أولاً: من قبل الجماعات المسلحة الإسلامية، ثم ثانياً من خلال أحداث اجتماعية تأخذ طابعا دينا إذا كان طرفا الأحداث أحدهما مسلم والآخر مسيحي مثل حادثة الكشح، وأخيراً ما حدث في الإسكندرية حيث تم توظيف المشاعر الدينية عندما شعر طرف بان هناك ما يمس معتقده الديني، مما ترتب عليه استخدام العنف وهو أخطر نوع، وتوترات علي المستوي الشعبي نتيجة أزمات في العلاقات الاجتماعية ما تلبث أن ترتدي بردة دينية، مثلما حدث في مناسبات عديدة نتيجة علاقات عاطفية تجمع شخصين مختلفين في الديانة، وعادة ما يأخذ رد الفعل في هذه الأحداث شكل “القبلية الدينية”22.
5- السماح بتبادل السجال الديني بين المسلمين والمسيحيين بدلا من الاهتمام بالهموم الحياتية المشتركة. وانتشار ما يمكن تسميته بالتوتر الناعم علي عدة مستويات في الفضائيات، والمظاهرات ذات الطبيعة الدينية، وفي السجالات الصحفية الملتهبة، واعتبار أن المسيحيين والمسلمين في حالة تناقض23.

القسم الثاني

غياب الإدارة الرشيدة للتنوع الديني

من خلال الاستعراض التاريخي الموجز السابق يمكن القول بأنه لم يغب الحديث عن التوتر الديني في الحالة المصرية خلال القرن العشرين. كان ينمو ويخبو حسب الحالة السياسية والثقافية العامة في المجتمع. فإذا كان هناك مد وطني تراجع المد الطائفي، وإذا تراجع المد الوطني حل محله المد الطائفي، يملئ الفراغ، ويعبئ القوي، ويشغل الأذهان، ويتسبب في احتقان النفوس.
منذ سبعينيات القرن العشرين تمر إدارة الشأن الديني التعددي في مصر بحالة من “التوتر” أحيانا، و”الفتور” في أحيان أخري. والسبب في ذلك يعود في جانب كبير منه إلي تراكم المشكلات، ونقص الخيال الإبداعي في التعامل مع معطيات الواقع ، والإصرار “المتعمد” علي التعامل مع الملف الديني بذات الأساليب القديمة، التي جري تجربتها، وتكرارها، وأثبتت الأيام عدم جدواها.
المشهد الديني ضاغط. في مجمله إسلامي مسيحي، وفي تفاصيله نجد أشكالا من التباينات والانقسامات علي أسس مذهبية، وثقافية، واجتماعية. عبر عن نفسه في العديد من الأحداث الطائفية، المتكررة والصاخبة. الاجتهادات في تفسير الأحداث الطائفية كثيرة، بعضها يرجع ما يجري إلي تحولات اقتصادية اجتماعية، وآخرون يرون فيها تعبيرا عن أنماط جديدة من التحالفات السياسية، وفريق ثالث يرجع الأمر برمته إلي تحولات ثقافية، الخ. بصرف النظر عن الأسباب، والتي يختلف حولها الباحثون، إلا أنه من الثابت أن هناك تحولا في كم وكيف الأحداث علي السواء. وتيرة حدوثها في تزايد، والكيفية التي تجري عليها في تحور خطير.
فقد اندلعت التوترات الدينية- في بادئ الأمر- بشأن قضايا كنسية مؤسسية مباشرة (بناء أو ترميم كنيسة)، مثل حادثة كنيسة الخانكة عام 1972م، ثم تحولت إلي أحداث إرهابية طالت الأقباط مثل غيرهم في المجتمع من مبدعين ومسئولين حكوميين، وسياح أجانب، الخ، وهي أحداث الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين وأشهرها صنبو وديروط وأبو قرقاص في صعيد مصر، ثم تحولت إلي خلافات جوهرها اجتماعي اقتصادي وظاهرها ديني طائفي مثل أحداث الكشح الثانية عام 2000م، وأخيرا أخذت شكل “مواجهات العوام” كما حدث في أحداث الإسكندرية الأولي عام 2005م، والثانية عام 2006م، والجيزة 2010م التحول الكيفي في نوعية الحدث الطائفي ينذر بمخاطر عديدة، أهمها هو استدعاء الجماهير علي نطاق واسع للمشاركة في التوترات الدينية، بعد أن ظلت لعقود محدودة، مكانا وبشرا.
ورغم التنوع والاختلاف في كم وكيف أحداث التوتر الديني، اتسمت إدارة هذه الأحداث – في العقد الأخير من عهد نظام مبارك- بملامح أساسية تجعل منها نموذجا دراسيا علي حالة الجفاف الفكري في التعامل مع ملف بالغ الأهمية والخطورة في آن واحد:
1. غياب التصدي الجذري للمشكلات. هناك تمديد مستمر للمشكلات الطائفية، أو علي الأقل تنامي الشعور بوجودها واقعيا علي مدار أكثر من قرن مثلما تبينا أعلاه. مشكلات من قبيل بناء وترميم الكنائس، والتمثيل السياسي للأقباط، تولي الأقباط مواقع قيادية في جهاز الدولة، أو الطعن في العقيدة المسيحية في وسائل الإعلام الخ. هذه المشكلات وغيرها ظلت لسنوات محل تداول في المجتمع، وجري الحديث بإفراط عنها إلا أنه لم يجر التعامل الجدي مع جذورها. وهناك من الآراء ما تشير إلي أن العقدين الأولين من حكم مبارك (1981-2011م) لم يكن هناك إدراك علي مستوي مؤسسة الرئاسة بوجود مشكلات تتعلق بالمواطنين المصريين الأقباط، وساد شعور بأن المشكلات هي نتيجة غياب الوعي، ووجود أقلية متعصبة علي هذا الجانب وذاك. هذا الإدراك المنقوص بالمشكلات القبطية بدأ يتغير مع وقوع أحداث الكشح الثانية 2000م التي أودت بحياة نحو عشرين قبطيا فضلا عن الجرجي، وما تلاها من تسارع وتيرة التوترات الطائفية. المفارقة الغريبة أنه في الوقت الذي كثر فيه الحديث عن هذه المشكلات، وأبدت الحكومة بعضا من الوعي “النسبي” في التعامل معها، إلا أن ذلك لم يؤد إلي تحقيق تآلف في العلاقات الإسلامية المسيحية، بل علي العكس زاد الاحتقان، وبات الجميع- مسلمين ومسيحيين- يشعرون بأنهم مضطهدون، وهو مشهد غريب يستبد بالأغلبية والأقلية العددية علي السواء.
2. إضعاف السياسي والثقافي لصالح الأمني. التوترات الدينية لها أبعاد سياسية وثقافية. علي مدار عدة عقود من الأزمة توارى دور المؤسسات السياسية والثقافية، وتحول الشأن الديني إلي ملف “أمني” بحت. تنطبق هذه الملاحظة علي البرلمان، والأحزاب، والمؤسسات الثقافية والإعلامية، ومنظمات المجتمع المدني. المسألة لا تتعلق بحالات التوترات الدينية التي تستلزم التدخل الأمني للحد من الإعتداء علي الأفراد والممتلكات ودور العبادة، ولكن القضية أن في عهد الرئيس السابق حسني مبارك أصبح جهاز الأمن له ولاية علي الشأن الديني بمختلف أبعاده، سياسا وثقافيا، وهو ما أدي إلي الحيلولة دون إرساء هندسة سياسية وقانونية تعزز التعددية الثقافية، ولعل ذلك هو ما ذهبت إليه وثيقة اليونسكو بشأن “التنوع الثقافي”، بالتأكيد علي أن التعددية السياسية هي الرد السياسي للتنوع الثقافي.
3. تنحية القانون والركون إلي الجلسات العرفية. في أحداث العنف الطائفي التي عادة ما تطول أرواح وممتلكات الأقباط، فضلا عن الكنائس يغيب تطبيق القانون، وجري اللجوء إلي الجلسات العرفية التي تجمع الضحية والجاني معا في مشهد يضيع في العدل لصالح صلح شكلي. في هذه الحالة تتخلي الدولة عن سلطاتها القانونية، وتتحول إلي “وسيط” لا يحقق العدالة، فقط يجبر الضحية علي قبول صيغة للصلح أقل ما توصف به بأنها لا تلبي مطالب العدالة، وتجعل الضحية يشعر بالمرارة مرتين: الأولي عندما وقع عليه الاعتداء، والثانية عندما أجبر علي قبول صلح شكلي لا يلبي شروط ومتطلبات العدالة. لا يٌعاقب الجناة، بموجب هذا الصلح، وقد يكون هناك أحيانا تعويض للخسائر المادية، قد يرفضها الأقباط حتى لا تكون سببا في “التهكم الاجتماعي” عليهم. تنحية “القانون” لصالح “المصالحة الشكلية” عادة ما يؤدي إلي فتح الشهية أمام مزيد من الأحداث الطائفية، طالما أن النتيجة معروفة سلفا وهي عدم تطبيق القانون. بالطبع لا يمكن فصل تطبيق القانون عن المواطنة، بل أن المواطنة القانونية هي أولي صور المواطنة، ويقتضي النظام العام في أي دولة معاقبة المخطئ، أيا كان، طالما أنه شارك في إحدى الجرائم التي تنال من استقرار المجتمع.
4. توظيف “الإعلام” في إدارة المشهد “الديني”. يلعب الإعلام دورا رئيسيا في “الملف الديني” ليس فقط في تشكيل بوصلة الرأي العام تجاه الملف، ولكن أيضا في إدارة الملف، والشد والجذب بين الأطراف المختلفة. في أحداث التوتر الديني تحدث حالة من التصعيد المتعمد من جانب المنابر الإعلامية، مثل الصحف والقنوات الفضائية والمواقع الالكترونية. البعض يفسر هذا الموقف بالرغبة في الرواج، ولاسيما أن الموضوعات التي تخص الشأن الديني تجد إقبالا من جانب جمهور المستهلكين، والبعض يفسرها بسعي أطراف الأزمة لاستغلال المنابر الصحفية وثيقة الصلة بها، خاصة مما كان له علاقة بأجهزة الأمن، أو بالتيارات الإسلامية، أو بالأقباط أنفسهم. وقد يٌستعان بهذه المنابر الإعلامية لاحقا في التهدئة إذا جري تسوية الموقف المتأزم. وتكشف الممارسة عن أن تغطية وسائل الإعلام للشأن الديني تتسم بعدد من السمات الأساسية منها استخدام لغة غير منضبطة مهنيا، وإستدعاء الروايات المنقوصة لتشكيل الرأي العام حول التوترات الدينية، ليس باعتبارها تعبيرا عن سعي المواطنين لإكتمال الحصول علي حقوقهم، ولكن لتمديد واقع سياسي معين، أو ربط هذه التوترات بتفاعلات دولية، أوالتعامل معها بوصفها “مباراة كرة قدم” يخرج منها فائز ومهزوم . يعزز كل ذلك جيل من الإعلاميين الشباب يفتقر إلي المعرفة العميقة لقضايا التعايش الإسلامي المسيحي، نظرا لأنه نشأ، وتعلم، وعمل في مناخ علا فيه الصوت الطائفي. المشكلة الحقيقية أن المجتمع المصري يعرف ظاهرة الإعلام التعددي، لكنه يمارس عمله في سياق غير تعددي، سياسيا وثقافيا. من هنا فإن هذا النمط من التغطية الإعلامية يمثل “خطورة” نظرا لما يتركه في نفوس القراء من رواسب طائفية تظل كامنة في العقل الجمعي للمواطنين في انتظار لحظة اشتعال تخرجها من طور الكمون إلي حالة الفعل الغريزي العنيف المنفلت الذي قد يكون من الصعوبة السيطرة عليه24.
5. غياب الجهة المرجعية الجامعة. الملف الديني في المجتمع المصري ليس له صاحب بالمعني السياسي. هناك جهات مرجعية إسلامية مثل الأزهر الشريف ودار الافتاء ووزارة الأوقاف، وهناك جهات مرجعية إسلامية مثل الكنائس المتنوعة. ولكن لا توجد جهة سياسية تتولي الشأن الديني، باستثناء ما سبق ذكره من وزارة الداخلية في عهد الرئيس السابق حسني مبارك. وعادة ما تغلب النظرة الأمنية علي تناول الشأن الديني، مثل اعتبار التوترات الدينية، أو حتي المطالب الحقوقية من جانب الأقباط بأنها تعبير عن وجود شرذمة أو قلة متعصبة مسيحية في مواجهة شرذمة أخري أو قلة متعصبة مسلمة. وهي نظرة أمنية شديدة الضيق، لا تستوعب المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية، فضلا عن اعتبار حقوق المواطنة محل تفاوض مستمر في مقابل تأييد الأقباط لنظام مبارك. ظاهرة “الملعب المفتوح” هي التي تهيمن علي العلاقات الإسلامية المسيحية، من هنا لا نستغرب وجود كم هائل من الشائعات، والأفكار المغلوطة، التي تروج بقصد وبدون قصد لتفخيخ الملف الديني. في كل أحداث العنف التي ارتبطت بتوترات دينية تأتي الشائعات عاملا وسيطا بين الأزمة والاشتعال. ولم تول الحكومة والقوي السياسية اهتماما كافيا إلي هذه الحالة الاجتماعية المرضية، التي باتت تهيمن علي العلاقات الإٍسلامية المسيحية خلال الثلاثين عاما الأخيرة. كم مذهل من الشائعات التراكمية يطلقها أحيانا مسئولون محليون، ومن بعض المتعصبين دينيا من العوام، وبعضها يأتي من قوي سياسية لها رغبة في إشعال الملف الديني25. الغريب أن كل طرف يتحدث عن هذه الشائعات كما لو كانت أمرا مسلما به، في حين يعجز عن أثبات صحتها. ورغم خطورة الأمر، وما ينتج عنه من تداعيات سلبية تتمثل في استدعاء نزعات تعصبية غريزية تأخذ في طريقها قيم المواطنة والحداثة لم يجر وضع إستراتيجية محددة المعالم للتعامل مع المشكلة. ويرجع سريان واستقرار الشائعات، وإعادة إنتاجها إعلاميا إلي أن ملف العلاقات الإسلامية المسيحية بلا صاحب، فلا أحد يملك الولاية عليه، الكل مدعو للحديث فيه بحق أو باطل، وهو ما وفر بيئة حاضنة لنمو وانتشار الشائعات- كما وكيفا26.
6. التحرك الثقافي الخدمي. بمجرد وقوع الأحداث الطائفية تسعي مجموعة من المثقفين والمهتمين بالشأن العام إلي تشكيل لجان “الوحدة الوطنية” بمسميات شتي أو إعادة الحياة مؤقتا إلي لجان أصابها تصلب شرايين ولم تعد قادرة علي الحركة. تجتمع هذه اللجان بضع مرات علي الأكثر ثم تتلاشي. واللافت للنظر أن هناك مجموعة من نفس الأشخاص تقريبا تأخذ علي عاتقها تشكيل هذه اللجان في حالات الاحتقان الطائفي وتصدر بيانات موقفية جادة، ورغم الدوافع الوطنية التي تحرك الكثير منهم إلا أن عدم استمرار النشاط يكشف عن غياب وجود رؤية للشأن الديني برمته، وسيادة إدراك منقوص مفاده أن هذه الفعاليات تأتي من باب إطفاء الحرائق وليس من منطلق السعي لابتكار هندسة سياسية جديدة في التعامل مع المسألة الدينية في مصر. وفي بعض الأحيان تستغل الحكومة هذه الفعاليات في إطار مواجهتها للمطالبات الدولية بتحقيق المساواة بين المواطنين، أو حمايتهم من الأعتداء، واحترام حقوق الإنسان، وذلك من خلال التأكيد علي مفاهيم من قبيل “السيادة الوطنية”، و”رفض التدخل الخارجي”، وهي من المفاهيم التي يحرص المثقفون في حركتهم علي التأكيد عليها، بدافع من الرغبة في تدعيم الشأن الوطني الداخلي، فإذ بها يعاد انتاجها من جانب الحكم، وأحيانا فصائل الإسلام السياسي لتدعيم المواطنة المنقوصة، ومواجهة الأصوات الداعية إلي تحقيق المواطنة الكاملة لكل المصريين.
وقد ترتب علي الإدارة البائسة للشأن الديني التعددي في المجتمع المصري عددا من التداعيات التي عمقت من مشكلات التعايش الإسلامي المسيحي، وأضفت مزيدا من التعقيد علي المشكلات المتوارثة بدلا من السعي لحلها، فضلا عن تدعيم الارتباك علي كافة المستويات كلما وقع حادث من أحداث التوتر الديني.
1- الافتقار إلي رسم استراتيجية واضحة للتعامل مع الشأن الديني؛ يتمثل ذلك في عدم وجود جهة مرجعية تتولي الشأن الديني بصفة عامة، وغياب الرصد الدقيق لبؤر التوتر الديني، والتعامل معها نظرا لغياب التنسيق بين مختلف الفاعلين، وعدم القدرة علي التعامل بشفافية مع الأحداث، وضعف قنوات الاتصال.
2- عدم وجود تراكم في التعامل مع الملف، لا توجد خبرات متراكمة، نظرا للتسييس المفرط في التعامل مع الملف، والانفراد الأمني به وتنحية كل ما هو سياسي، والحرص علي عدم إرساء تقاليد أساسية يمكن الركون إليها في التعامل معه، والنظر إليه علي أنه موضوع للاستقطاب في المجتمع يلجأ إليه الحكم أحيانا إما للتخفيف الضغط عليه لضعف الانجاز داخليا وخارجيا، أو لإعطاء جرعة إضافية من الاستبداد، أو الانقضاض علي الخصوم السياسيين وفي مقدمتهم الحركة الإسلامية، أو لإبتزاز الأقباط أنفسهم، وضمان تأييدهم الملطق للنظام الحاكم.
3- انتفاء ذاكرة التعامل مع الملف الديني، الذاكرة تعني ثوابت الدولة المصرية، خطوط حمراء لا يصح تعديها، أمن قومي ينبغي مراعاته، الخ. وجود الذاكرة يعني وجود أسس ثابتة في التعامل مع الشأن الديني، وعدم توسيع دائرة السلطة التقديرية للأفراد- الذين هم عادة من الجهاز الأمني- في التعامل معه، ليس هذا فحسب بل أيضا فتح المجال أمام تغيير الموقف من التعددية الدينية حسب الظرف السياسي، وما يقتضيه من تضييق علي أطراف أو مؤسسات دينية، أو افتعال أزمات لإدارة النظام ذاته.
4- التوظيف السياسي المباشر للشأن الديني، من خلال رفع جرعة “المحافظة الدينية”، والتي تتخذ أحيانا شكل التعصب في المجتمع لتحقيق التوازن مع إجراءات قمعية أمنية في التعامل مع الإسلام السياسي. هذا إلي جانب إدارة النظام السياسي من خلال بث مشاعر الارتياب والفرقة بين مكونات الجماعة الوطنية من المسلمين والمسيحيين، وخلق ما يمكن أن نطلق عليه الذهن الطائفي في النظر إلي الظواهر والتحولات في المجتمع الخ27.

القسم الثالث

التعددية الدينية: تصورات مقترحة للتصدي للمشكلات القبطية

تناول القسمان السابقان نظرة تاريخية موجزة لتطور المشكلات القبطية، وفشل إدارة التعددية الدينية ليس فقط في الثلاثين عاما الماضية من حكم الرئيس السابق حسني مبارك، ولكن أيضا في ظل أنظمة حكم متنوعة ما بين شبه الليبرالي، والاشتراكي التسلطي، واليميني اقتصاديا ودينيا، وأخيرا النظام المهجن الذي عرفه مبارك في خليط ما بين الاستبداد والسعي إلي الديمقراطية.
وفيما يلي بعض من المشكلات القبطية، من خلال نظرة رأسية متعمقة لتطورها وتبيان مواقف الأطراف المختلفة في التعامل معها.

  • أولا:بناء وترميم الكنائس28

تاريخيا حرص الولاة في مصر على تنظيم بناء الكنائس.ومن المتفق عليه بين المؤرخين أن بناء الكنائس وتجديدها من الموضوعات التي لم يكن للحكم الإسلامي فيها سياسة ثابتة، حيث تأرجح الموقف منها حسب الظرف الاجتماعي والسياسي وليس الديني. وللتدليل على ماسبق – على سبيل المثال لا الحصر- إنه وقت خلافة هارون الرشيد أمر والي مصر علي بن سليمان بهدم بعض الكنائس،لاعتبارات غير دينية وإن وظف فيها الدين. بينما أذن الوالي التالي له،موسى بن عيسى (وقت هارون الرشيد أيضا) للأقباط ببناء الكنائس التي هدمها علي بن سليمان، واعتبارها – بحسب الفقهاء- من : عمارة الأرض.
بتأسيس مصر الحديثة في عهد محمد علي (1805-1847)، أخذت مسارا مختلفا عن باقي دول المنطقة، وبرغم التبعية القانونية للدولة العثمانية، إلا أن محمد علي باشا بدأ يفك الارتباط نسبيا بينها وبين مصر. بيد أن الصراع بين الدولة العثمانية والقوى الأوروبية المهيمنة على مقدرات الدولة العثمانية وفق ما عرف بنظام الامتيازات، جعل السلطان عبد المجيد الأول يصدر ما يسمى بالخط الهمايوني سنة 1856م ويعني: الخطاب أو التوجيه أو البيان الموجه من الباب العالي، وهو ما يعني أنه مجرد نص ليس له صفة التشريع الملزم، في إطار الإصلاحات التي أراد إثبات مرونته بها تجاه غير المسلمين.
وحول هذا الخط نرصد الملاحظات التالية:
1. الخط الهمايوني،مثله مثل أي خطاب يصدر عن رئيس دولة ليست له صفة التشريع الملزم،خلافا “للفرمان “و”الديكريتو”.
2. لم يصغ النص في مواد كما هو الشأن في التشريعات. وإنما كتب بصيغة يتغنى فيها صاحبه بعبارات التمجيد والتفخيم.
3. بالرغم من أن جريدة الوقائع المصرية، الجريدة الرسمية المخصصة لنشر القوانين والتشريعات، كانت قد صدرت منذ سنة 1830، إلا أنه لم ينشر فيها هذا الخط ومن ثم لا يكون قد اكتسب صفة التشريع الملزم.
4. كانت مصر وقت صدور الخط الهمايوني تتمتع باستقلال تشريعي بحسب إجماع المؤرخين والقانونيين.
5. كان هذا الخط موجها إلى الجماعات المسيحية التي قبلت بنظام الملل في الشام، هذا النظام لم تعرفه مصر بالمطلق (ويمكن الإحالة لمزيد من التفاصيل إلى أبو سيف يوسف في كتابه الأقباط والقومية العربية، وعزيز سوريال عطية في تاريخ المسيحية الشرقية،ومحمد عفيفي في الأقباط في العصر العثماني، وسمير مرقس في الحماية والعقاب:الغرب والمسألة الدينية في الشرق الأوسط) حيث كان الأقباط مندمجون رأسيا في الجسم الاجتماعي لمصر.
6. القرارات الرسمية الحديثة والتي كانت ترخص لبناء الكنائس مع مطلع القرن العشرين وتجديدها لم تكن تشر للخط الهمايوني، وإنما إلى قانون قديم صادر في عهد الملك فؤاد هو القانون 15 لسنة 1927، الذي يقوم بتنظيم السلطة فيما يتعلق بالمعاهد الدينية وبتعيين الرؤساء الدينيين.والمفارقة انه لا يتناول موضوع بناء الكنائس أو تجديدها لا من قريب أو من بعيد. وقد استمرت الإشارة لهذا القانون في ديباجة القرارات الجمهورية لاحقا (حتى بعد صدور القرارات الجمهورية الخاصة بتفويض المحافظين والجهات الإدارية الذي تم في عهد الرئيس السابق حسني مبارك للتخفيف من إجراءت ترميم الكنائس: رقم 13 لسنة 1998، ورقم 453 لسنة 1999 ورقم 291 لسنة 2005 ). نخلص مما سبق أن الخط الهمايوني ليس جزءا من البناء القانوني المصري.
7. ويذهب الدكتور وليم سليمان قلادة إلى أكثر من ذلك بقوله أن دستور 1971 ألغى أي أثر للخط الهمايوني فعليا، وذلك بالنص في المادة 46 علي أن تكفل الدولة “حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية”، بالمطلق، وهو ما سار عليه الإعلان الدستوري الذي صدر في مارس 2011م عقب ثورة 25 يناير. هذا النص كان يٌكتب في الدساتير السابقة على دستور 1971 مضافا إليه تحفظات معينة. ويدخل نص المادة 46 بصياغته الحالية في إطار ما يسميه فقهاء القانون “الحقوق المطلقة”، والتي تكون نصوص الدستور بشأنها قابلة للتطبيق فورا، ولا تتطلب لإعمالها تدخلا من المشرع ليبين كيفية استعمالها، ومن باب أولى ليس عليه أن يضع قيدا عليها، لأنها تقرر مركزا قانونيا يتحتم احترامه بالنسبة للمشرع والأفراد على السواء.
8. لا يوجد تاريخيا أي قوانين تفصيلية خاصة ببناء الكنائس، سوى الإجراءات الإدارية الشهيرة المعروفة “بشروط العزبي باشا”(وكيل وزارة الداخلية) الذي أصدرها في 1934م، وهي إجراءات إدارية لا ترقى لمرتبة القانون. وحول هذا الأمر فانه ينبغي فهم السياق السياسي الذي صدرت فيه، حيث إنها صدرت خلال فترة الانقلاب الدستوري الذي قام به الملك فؤاد وإسماعيل صدقي على دستور 1923، ذلك بإلغائه وإحلال دستور عام 1930 محله، ويعد هذا الدستور من الدساتير المعروفة في تاريخ مصر بقيودها الشديدة. ومن يطلع على الشروط العشرة يمكنه أن يدرك أن المقصود منها هو وضع العراقيل أمام بناء الكنائس حتى يكون ذلك غير ممكن،رأي أنها متسقة مع السياق الذي صدرت فيه من جهة، ومع الطبيعة المقيدة للدستور والذي اتسم بحرمان الشعب من حقوقه من جهة أخرى. وتنطوي علي جملة من الشروط محل انتقاد نظرا لأنها تبتعد عن جوهر المواطنة في الدولة الحديثة. من هذه الشروط- مثلا- السؤال عن مدي قرب الأرض المراد بناء كنيسة عليها من خط السكة الحديد، أو المصارف العمومية، وعدد المسيحيين في المنطقة، وما إذا كان المسلمون المقيمون في المكان يوافقون علي بناء كنيسة من عدمه؟ وهو أمر يجعل قرار غالبية السكان حاكما في تمتع الأقلية الدينية بحقوقها الدستورية. ومن جراء تطبيق هذه الشروط تعطل بناء كنائس في مناطق تحتاج إليها لسنوات طويلة، نظرا لعملية التداخل الاجتماعي الشديد بين المسيحيين والمسلمين، بما لا يجعل هناك مناطق خاصة يعيش فيها مسيحيون، وهو إحدى العلامات الايجابية للتعايش الإسلامي المسيحي، الذي يقوم علي الاندماج وليس الفصل.
9. تأسيسا علي ما سبق يمكن القول أن بناء الكنائس خلال القرن التاسع عشر وحتى ما بعد منتصف القرن العشرين، لم يكن يواجه بأية قيود،ولم تكن هناك ثقافة مجتمعية مانعة لذلك. وجدير بالذكر أن القضاء المصري أصدر أحكاما تاريخية هامة في مجال حرية ممارسة الشعائر الدينية وإنشاء دور العبادة نذكر منها:
حكم محكمة القضاء الإداري الصادر في 26 فبراير 1951وقضى بما يلي:
أن إقامة الشعائر الدينية لكل الطوائف كفلها الدستور.كما ألغت قرارا لوزير الداخلية برفض الترخيص بإنشاء كنيسة على أساس قلة عدد أفراد الطائفة. وذكر الحكم انه لا يوجد نص يضع حدا أدنى لعدد الأفراد الذين يحق لهم إقامة كنيسة.
الحكم التاريخي في القضية رقم 615 لسنة 5 القضائية بتاريخ 16 ديسمبر سنة 1952،والذي أصدره الفقيه الدستوري الكبير الأستاذ الدكتور عبد الرازق السنهوري29جاء فيه:
“إن اشتراط ترخيص في إنشاء دور العبادة على نحو ما جاء في الخط الهمايوني لا يجوز أن يتخذ ذريعة لإقامة عقبات لا مبرر لها دون إنشاء هذه الدور مما لا يتفق مع حرية إقامة الشعائر الدينية.”
“إن حرية الاجتماع للقيام بشعائر الدين تدخل ضمن الحريات التي يحميها الدستور مادام أنها لا تخل بالنظام العام ولا تنافي الآداب.والحكومة لم تزعم شيئا من ذلك، ومن ثم يكون الأمر بتعطيل الاجتماع الديني قد وقع باطلا مما يتعين معه القضاء بإلغاء الأمر المطعون فيه فيما تضمنه من منع الاجتماعات الدينية.”
“وقالت المحكمة بان الدستور قد أقر تحويل الملك الخاص إلى كنيسة عامة إذ نص على حماية الدولة للقيام بالشعائر الدينية”.
“وأضافت المحكمة أن إلى أن اشتراط الترخيص في إنشاء دور العبادة لا يجوز أن يتخذ ذريعة لإقامة عقبات لا مبرر لها في إنشاء هذه الدور،مما لا يتفق مع حرية إقامة الشعائر الدينية إذ أن الترخيص لم يقصد به عرقلة إقامة الشعائر الدينية بل أريد به أن يراعي في إنشاء دور العبادة الشروط اللازمة التي تكفل أن تكون هذه الدور قائمة في بيئة محترمة مع وقار الشعائر الدينية وطهارتها،وفي هذه الحدود المعقولة ينبغي أن يقوم نظام الترخيص”.
وقد كان- حتى عقد مضي- ترميم الكنيسة يخضع إلي قرار جمهوري، وهو ما سبب العديد من المشكلات، خاصة في ظل صدور قرارات جمهورية لترميم بعض الغرف أو حتي دورات مياه في الكنائس. وقد أشار كثير من الكتاب إلي ضرورة تغيير هذا الوضع الموروث منذ عقود بعيدة، ومن بين من أعلنوا ذلك صراحة الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الجامع الأزهر30.
وفي 11 يناير 1998م صدر قرار جمهوري رقم 13 بتفويض المحافظين كل في نطاق محافظته مباشرة اختصاصات رئيس الجمهورية الخاصة بالترخيص للطوائف الدينية بتدعيم الكنائس أو ترميمها، وذلك مع عدم الإخلال بأحكام القوانين واللوائح المنظمة لهذه الأعمال. تلا هذا القرار قراران آخران هما: 453 لسنة 1999م، و 291 لسنة 2005م. ويوسع الأخير من سلطة المحافظين بحيث تشمل الترخيص بإعادة بناء وتدعيم الكنائس في نفس المساحة التي تشغلها، وأمهل الإدارة مدة شهر للرد علي الطلبات المخصصة في هذا الشأن.
وبالرغم من هذه القرارات الجمهورية المتتالية شكلت “تحركا” في التعامل مع مسألة بناء وترميم دور العبادة، ربما للمرة الأولي منذ عقود، إلا أن الممارسة العملية علي المستوي المحلي كشفت أن هناك حالات استفادت من هذا التحول، وحالات أخري تواجه صعوبات في التعامل معها، نظرا لأن الأمر برمته يخضع لتقييم السلطات المحلية، وبخاصة الأجهزة الأمنية، والتي عادة ما يحكم عملها اعتبارات معقدة.
وفي العقد الأخير حدث اهتمام ملحوظ بمسألة بناء وترميم الكنائس، وقد أعد المجلس القومي لحقوق الإنسان- الذي نشأ عام 2003م- مشروع قانون موحد لبناء دور العبادة، ودار حوله نقاش، إلا أنه لم يُطرح في مجلس الشعب حتي سقوط نظام مبارك في 11 فبراير 2011م31.
وفي أعقاب تجدد الأحداث الطائفية في المرحلة الانتقالية التي بدأت مباشرة منذ 12 فبراير 2011م، بدأت بهدم كنيسة بمنطقة صول بالجيزة، ثم حرق كنيسة أخري بمنطقة إمبابة بالجيزة، أعيد الحديث حول إصدار القانون الموحد لبناء دور العبادة، ووعدت الحكومة بسرعة إصدار التشريع في غضون شهر في أعقاب اعتصام بعض شباب الأقباط أمام مبني التليفزيون المصري في ماسبيرو، وهم الذين أطلق عليه “شباب ماسبيرو”، ولكن لم يقر القانون. وتجدد مرة أخري في أعقاب حادث قرية المريناب، ويتمثل في قيام الأهالي بهدم مبني يصلي فيه الأقباط، في محاظة أسوان، وما تلاها من مظاهرات أدت إلي اشتباك بين المتظاهرين وقوات الجيش أمام مبني التليفزيون، أو الاشتباه في وجود طرف ثالث هاجم الطرفين معا، ظهرت نية حكومية في التعامل مع القانون الموحد لبناء دور العبادة.

هناك اتجاهان أساسيان للتعامل مع هذه القضية:

الاتجاه الأول*: يري أنه من الضروري إصدار قانون موحد لبناء دور العبادة، يخضع المساجد والكنائس لمتطلبات واحدة*.
الاتجاه الثاني*: يري أنه- تجنبا للمشكلات التي قد تنشأ من تطبيق القانون الموحد- يمكن استحداث نظام أيا كان مسماه “قرار جمهوري” أو “قانون” أو* “لائحة”…الخ ينظم عملية بناء الكنائس علي نحو منفصل، ولاسيما بأن هناك قرارا صادرا عن مجلس الوزراء في 17 أكتوبر 2001م يضع تسعة متطلبات لبناء المساجد. ورغم أن هذه المتطلبات لم تطبق في الواقع العملي، إلا أن هناك دعوة خاصة من جانب “بيت العائلة” للآخذ بهذا الاتجاه.
ويبدو أن الإتجاه الثاني هو ما سوف تآخذ به الحكومة المصرية، خاصة بعد صدور قرار من مجمع البحوث الإسلامية، يؤيد صدور نظام خاص لبناء وترميم الكنائس، وهو أمر لا يجد ممانعة من جانب الكنائس المصرية. ويدور هذا النظام، في محاكاة مباشرة لقرار مجلس الوزراء بتنظيم بناء وترميم المساجد، علي نقل صلاحيات البت في بناء وترميم دور العبادة إلي المستويات المحلية بالكامل، تحديد مساحات معينة في الريف والحضر لبناء دور العبادة، رعاية الجهة الدينية لذلك، تحديد مسافات مقدرة بين دور العبادة والأخري التي تتبع نفس الجماعة الدينية، واتباع إجراءات إدارية ذات إطار زمني ينص عليها.

  • ثانيا:محدودية التمثيل السياسي للأقباط

إحدي المشكلات الأساسية التي تواجه الأقباط هي محدودية التمثيل في المجالس المنتخبة، سواء كانت مجلسي الشعب والشوري، والمجالس المحلية، وكذلك التشكيلات والهيئات النقابية، المهنية والعمالية.
هذه الإشكالية تؤثر سلبا علي حالة التنوع الثقافي، والتعددية السياسية، التي تعد تعبيرا سياسيا عن التعددية الثقافية. في هذا السياق تراجع مستوي تمثيل الأقباط في مجلس الشعب بما لا يتناسب مع تعددهم السكاني، وهو ما يكشف عن انكماش مساحة التسامح في المجتمع.
وتكشف نتائج الانتخابات البرلمانية أعوام 2000م و2005م و2010 عن ضعف الحضور السياسي للأقباط في المجلس التشريعي. في الانتخابات البرلمانية عام 2000م انتخب ثلاثة أقباط من إجمالي 444 عضوا (وتم تعيين 4 أعضاء) أي أصبح للأقباط 7 أعضاء بنسبة 1.5 % من إجمالي أعضاء مجلس الشعب البالغ عددهم 454 عضوا. وتكرر هذا المشهد في انتخابات عام 2005م والتي انتخب فيها قبطي واحد، هو وزير المالية، من إجمالي 444 عضوا ( وتم تعيين 5 أعضاء) أي أصبح للأقباط 6 أعضاء بنسبة 1.4% من إجمالي أعضاء مجلس الشعب، وهي تقريبا نفس النتيجة التي آلي إليها برلمان 2010م.
ويُلاحظ أن عدد الذين رشحوا أنفسهم خلال انتخابات مجلس الشعب عام 2000م من الأقباط بلغ 74 مرشحا، خاض منهم الانتخابات 66 مرشحا بنسبة تناهز 1.7% من إجمالي عدد المرشحين. ولم يختلف الحال كثيرا في الانتخابات البرلمانية عام 2005م من حيث موقف الأحزاب المتحفظ من ترشيح الأقباط، بيد أن الظاهرة الملفتة للنظر هو نجاح بعض المستقلين من الوصول إلى جولة الإعادة في 6 دوائر، إلا أن أيا منهم لم يوفق32.
ولا تعد هذه النتائج استثناء، بل هي سمة متكررة تقريبا في كل الخبرات البرلمانية منذ أكثر من نصف قرن، ويكفي القول أن في الانتخابات البرلمانية عام 1995م لم يستطع قبطي واحد دخول البرلمان، رغم أن عددا منهم أستطاع دخول أول برلمان في الخبرة الوطنية، بالانتخاب، هو مجلس شوري النواب عام 1866م.
ومحدودية حضور الأقباط في مجلس الشعب، يعكس حالة عامة من تراجع الحضور القبطي في مجالس النقابات المهنية والعمالية، والأندية الرياضية والروابط المدنية، كل ذلك يجفف مساحات التلاقي بين المختلفين في الدين، والتفاعل بينهم، الأمر الذي يؤثر سلبا علي التفاعل الثقافي الإيجابي بين مختلف مكونات المجتمع، ويجعل مستقبل التعددية الثقافية في تحد حقيقي33.
المراجع للبرلمانات المصرية منذ عام 1964 وإلى الآن أي على ما يقرب من نصف قرن يجد أن نسبة تمثيل الأقباط المنتخبين في المتوسط لا تزيد عن واحد في المائة 1% فيما عدا برلمان 1987 الذي أنتخب فيه 6 من الأقباط من أجمالي أعضاء المجلس وهو ما يقترب من أثنين في المائة 2% ويؤخذ في الاعتبار أن الأرقام والنسب السابقة لا تأخذ في الاعتبار المعينين بحسب المادة 87 في دستور 1971، كذلك العدد الأجمالي لأعضاء البرلمان الذي كان يضم في الفترة الناصرية 350 عضواً بينما يضم الآن 444 عضواً بالإضافة إلى العشرة المعينين ليصبح العدد 454 عضواً. ويواجه الأقباط إشكالية كبري في برلمان ما بعد الثورة التي سوف تجري الانتخابات الخاصة به ما بين شهري نوفمبر 2011م ويناير 2012م، حيث يقل عدد المرشحين الأقباط، ولم ترشح التيارات الإسلامية باختلاف تنويعاتها أيا من الأقباط علي الإطلاق، باستثناء حزب الوسط، ووجود ثلاثة مرشحين علي قوائم التحالف الديمقراطي الذين يدعمهم حزب الحرية والعدالة الممثل للأخوان المسلمين.
ويكاد يكون المشهد بعد الثورة مشابها لما كان قبلها، وزاد عليه أن قانون الانتخاب الذي ستجري في ظله الانتخابات التشريعية لم يأخذ بمبدأ تعيين عشرة في البرلمان، وهو الباب الذي كان يلج منه بعض الأقباط في السابق، رغم التحفظات الكثيرة التي كانت تتردد في هذا الخصوص.

جدول رقم(1):

بيان بتمثيل الأقباط في المجالس النيابية المصرية منذ عام 1924-2005

أولا تمثيل الأقباط في البرلمان من 1924 إلى 1952:

السنة إجمالي عدد النواب في البرلمان عدد النواب الأقباط النسبة
1924 214 16 7.48%
1925 214 15 7%
1626 214 12 5.60%
1926 235 23 9.79%
1931 150 4 2.66%
1936 232 20 8.62%
1938 264 6 2.27%
1942 264 27 10.23%
1945 264 12 4.55%
1950 319 10 3.13%
متوسط نسبة عضوية الأٌقباط في الفترة من 1924-1950     6.13%

ثانيا: تمثيل الأقباط من1957 إلى1969:

السنة إجمالي عدد النواب عدد النواب الأقباط المنتخبين عدد النواب الأقباط المعينين إجمالي عدد النواب الأقباط النسبة
1957 350 1 لم يكن قائما 1 أقل من نصف %
1964 360 1 8 9 2.5%
1969 348 2 7 9 2.6%
متوسط نسبة التمثيل         2.54%

ثالثا تمثيل الأقباط في الفترة من1979 إلى1984

السنة إجمالي عدد النواب عدد النواب الأقباط المنتخبين عدد النواب الأقباط المعينين إجمالي عدد النواب الأقباط النسبة
1971 360 3 9 12 3.33%
1976 370 0 8 8 2.16%
1979 360 4 10 14 3.89%
متوسط نسبة التمثيل         3.12%

رابعا: تمثيل الأقباط من 1981 وإلى 2005

السنة إجمالي عدد النواب عدد النواب الأقباط المنتخبين عدد النواب الأقباط المعينين إجمالي عدد النواب الأقباط النسبة
1984 468 4 5 9 1.92%
1987 458 6 4 10 2.18%
1990 454 1 6 7 1.54%
1995 454 0 6 6 1.32%
2000 454 3 4 7 1.5%
2005 454 1 5 6 1.32%
متوسط نسبة التمثيل         1.65%

تشير الإحصاءات السابقة إلي أننا أمام ظاهرة ممتدة على مدى عقود خمس. وفي هذا الخصوص هناك ثلاث ظواهر أساسية يتعين لفت الانتباه إليها:

1) التجاهل الحزبي لترشيح الأقباط وحسابات المكسب والخسارة.

إن المتابع لقوائم الترشيح الحزبية المتعددة منذ العام 1990 سوف يجد تجاهلاً حزبياً يكاد يكون تام لترشيح الأقباط وأن ماكينة تكوين الكادر السياسي في هذه الأحزاب قد أصابها العطب أو أن العقل السياسي المصري أصبح غير معنى بالحضور القبطي ومدى أهميته القصوى لعمليتي التكامل الوطني والاندماج القومي .
وهناك تفسير قدمه-في هذا الخصوص- الكاتب الراحل الأستاذ محمد سيد أحمد لغياب الأقباط عن قوائم الحزب الوطني عام 1995 بأن ذلك بسبب الرغبة في تحقيق توازن سياسي بسبب استبعاد التيار الديني من الانتخابات. يعني ذلك استمرار النظر إلى الأقباط باعتبارهم جماعة دينية وهى النظرة التي روج لها التيار الديني نفسه منذ مطلع الثمانينات وذلك بقصد ” تديين الحياة السياسية والمجال العام ” أو تحول العمل العام السياسي المدني إلى ديني ، بحيث تصبح بموجبه حلبة الصراع السياسي مجالا للتنافس بين تيارات دينية وطائفية لا بين تيارات سياسية . وربما يكون السؤال ماذا بعد الحضور المكثف للتيار الديني في الانتخابات الجارية ، هل إهمال ترشيح الأقباط كان حماية لهم مثلاً، واقع الأمر هناك إشكالية حقيقية في إنه متى تعددت الأسباب والتفسيرات فيما يخص عدم ترشيح أقباط وبالذات على قوائم الأحزاب الرئيسية فإنه يعكس كسلا داخليا حزبياً خاصة مع تنامي ظاهرة حضور قبطي لافت على مستوى المستقلين كذلك وصول بعضهم- في الانتخابات السابقة- إلى جولات الإعادة الأمر الذي يعكس أن ما يحكم الأحزاب هو عنصر المكسب والخسارة بشكل مباشر وفى نفس الوقت عدم أعطاء أولوية لقضية دعم التكامل الوطني عملياً على أرض الواقع .

2) التشكيك في أحقية الأقباط للترشح : الديني يحكم المدني

الراصد للعملية الانتخابية على أرض الواقع يرى كيف يشكك كثير من المرشحين ليس فقط المنتسبين للتيار الديني بل إلى بعض الأحزاب في أحقية ترشح الأقباط وحق تمثيلهم في البرلمان استنادا إلى فتاوى دينية بالرغم من وجود فتاوى أخري حاسمة وصارمة من شخصيات معتبرة تبيح ذلك. بيد أن ما يعكسه هذا الأمر هو امتداد الديني للمجال المدني وغلبة مفهومي الأغلبية والأقلية بالمعنى الديني.

3) التعيين:الحل السهل

في ضوء ما سبق أعتادت الأنظمة المتعاقبة منذ عام 1952م إلى التعيين لتعويض غياب الأقباط ، وهو ما دعا البعض إلي التفكير في الآخذ بمبدأ “الكوتة ” أو “التمثيل النسبي” الذي رفض تاريخياً في مناسبات عديدة- من جانب قطاع عريض من الأقباط- إيمانا بقضية المواطنة وإنه لا فرق بين مواطن وآخر بسبب الدين وأن العمل السياسي يمارس بالصفة المدنية للمواطن ، وإن التكامل الوطني يعنى حضور الجميع من دون تمييز . سوف تفتح انتخابات برلمان الثورة 2011م- كما يطلق عليه- الكثير من الملفات من ضمنها استمرارية ضعف بل يمكن الغياب شبه الكامل لحضور الأقباط برلمانيا ، فلابد من ابتكار الآليات المتنوعة في ظل مناخ ديموقراطى صحي ومجال عام مدني تتيح الحضور الفاعل للجميع بصفتهم المواطنية واستكمال عملية التكامل الوطني والتي لا تستقيم عملية الإصلاح والتغيير بدونها .

وللتعامل الجدي مع هذه الإشكالية المتوارثة، ينبغي أن يكون هناك حرص وطني علي انخراط الجميع في العمل العام على كل المستويات وفي كل المجالات، وتجاوز النظر إلى الأقباط؛ كونهم جماعة سياسية أو دينية، وأنهم مواطنون، ومن ثم لا بد من ابتكار وسائل وآليات تضمن حضورهم واندماجهم على قاعدة المواطنة، كل بحسب توجهاته السياسية والفكرية، والتي تتجاوز لدينا الدستوري والقانوني لتشمل الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والمدني؛ أي ليست المواطنة فقط المساواة بغض النظر عن الدين والجنس والعرق… إلخ، وإنما أيضًا تعني اقتسام الموارد ومنظومة حقوق متكاملة للجميع؛ وهو ما يكفل أن ينتقل الحديث من إشكالية المواطنة للأقباط فقط إلى مواطنة كل المصريين؛ وهو ما يعني الجهد المشترك للجميع، أي ينقلنا من مواطنين مقيمين Denizens إلى مواطنين فاعلين Active Citizens. 34
وعليه فإن الحرص على حضور المواطنين الأقباط في شتى الهياكل والبني المختلفة النقابية والبرلمانية… الخ، لا بد أن يكون مجال عناية من الجميع، وعليه نقدم هنا بعض المقترحات العملية التي من شأنها دمج الأقباط في العملية السياسية وذلك كما يلي:

اللقاء الوطني:

الإعداد للقاء وطني يعنى بقضية الاندماج الوطني علي قاعدة المواطنة، يعمل على وضع الرؤى و التصورات والخطط التي تحقق الاندماج عمليا، والخروج بميثاق شرف تلتزم به كل القوى الوطنية فعليا، يتضمن من ضمن ما يتضمن:

* كيفية التواصل مع فترات الصعود الوطني للحركة الوطنية والمراكمة عليها.

* متابعة وضبط ما يخل بالاندماج الوطني من حيث توظيف الدين سلبا في العملية السياسية، أو معالجة غياب الحضور القبطي وبخاصة من على القوائم الحزبية، كذلك ضمان تطبيق الأفكار والاقتراحات التي يتم طرحها وضمان عدم الطعن في دستوريتها.

* ضمان تطبيق المواد الدستورية الداعمة لتحقيق الاندماج السياسي على قاعدة المواطنة ببعديها الثقافي والسياسي/المدني.

* تقوم بدور توجيهي في الاختيارات والممارسات المختلفة فيما إذا كانت سوف تفعل أو تعطل من الاندماج الوطني، ومدى الملائمة السياسية لهذه الاختيارات و الممارسات.

تكوين خريطة معرفية متكاملة تتكون من العناصر التالية :

قراءة تحليلية للانتخابات السابقة تشمل أسماء المرشحين المستقلين والحزبيين وما هي المعوقات التي واجهتهم، أو كيف فازوا أو كيف خسروا في جولات الإعادة، وأين تزيد فرص النجاح في الريف أم في الحضر….الخ.
وضع قوائم تصنيفية للشخصيات القبطية المدنية، واقتراح الأسماء على الأحزاب، وتشجيع الدخول في تحالفات حزبية ،على الأقل ،في دعم المرشحين الأقباط .
حق التدخل السريع لتدارك الغياب أثناء العملية الانتخابية .
يشار إلى أن اللقاء الوطني يمكن أن يشكل من شخصيات عامة مشهود لهم بالوطنية والكفاءة والخبرة في هذا المقام، كما أنه سيكون في حالة انعقاد دائم لعدد من السنوات يتفق على أن تكون فترة مرحلية حيث بنهايتها تكون مصر قد استعادت الحالة الطبيعية للاندماج الوطني.

القائمة النسبية:

تبني حملة للأخذ بنظام القائمة النسبية، وهي التي يمكن أن تنتقل بالحياة السياسية المصرية كيفيا حيث التوجهات والأفكار السياسية هي معيار الترشح والانتخاب، وليس الانتماء القبلي أو الطائفي أو العائلي ..،أي أشكال التنظيم الأولية النقيض – بالتعريف – للدولة المدنية الحديثة . وفي هذا المقام يمكن أن نقترح ما يلي:
أن ينص في ميثاق الشرف المزمع إعداده من خلال اللقاء الوطني- الذي أشرنا إليه سابقا- علي أن تضم كل قائمة نسبية علي الأقل أسمين قبطيين من إجمالي العشرة، هذا في حالة الآخذ بنظام توزيع الدوائر كما جري في عام 1984. في هذه الحالة يمكن أن يحصل المرشحان القبطيان علي حق التمثيل النيابي ضمن النسبة الفائزة في القائمة الحزبية. ولكن في حالة فوز القائمة بنسبة معينة، ولم يكن المرشحان القبطيان ضمن النسبة الفائزة، في هذه الحالة يجري تصعيد أحد المرشحين القبطيين ليحل محل أحد المرشحين من الأسماء الفائزة. وهو إجراء يمكن أن يتم في إطار الحزب الواحد.(كما يتم لتأمين مبدأ تمثيل العمال والفلاحين).
إذا لم تحصل القائمة الأولي علي إجمالي مقاعد الدائرة (وبعد تأمين حضور الاسم القبطي الأول) فإن النسبة المتبقية سواء كانت موزعة علي قائمة أخري أو مجموعة قوائم فإنه يراعي أن يكون هناك مرشح قبطي ضمن الأسماء الفائزة. وعليه نضمن – محصلة لما سبق- أن يكون هناك قبطيان عن كل دائرة علي مستوي الجمهورية.
3)الأخذ بالقائمة النسبية و الدوائر الإنتخابية
بموجب هذا النظام يجري تقسيم أعضاء المجلس النيابي إلي قسمين مناصفة، يُشغل القسم الأول عبر انتخاب بالقائمة، ويُشغل القسم الثاني عبر انتخاب فردي. مفاد ذلك إذا افترضنا أن عدد مقاعد مجلس الشعب 454 مقعدا- أسوة بما هو متبع الآن، فإنه يشغل مقاعد البرلمان علي النحو التالي:
يخصص 222 مقعدا للانتخاب الفردي وفق دوائر انتخابية تغطي كافة أنحاء الجمهورية، حسب تقسيم جغرافي يتفق عليه.
يخصص 222 مقعدا للانتخاب بالقائمة. في هذه الحالة تعتبر الجمهورية بأسرها دائرة انتخابية واحدة، تتنافس القوائم المتعددة وفق نظام التمثيل النسبي للحصول للفوز بالمقاعد المخصصة. هنا ينص علي أن تخصص كل قائمة الأسماء العشرة الأولي للعناصر التي تحتاج إلي تمثيل سياسي في البرلمان مثل المرأة، الأقباط، القيادات الحزبية الكبرى. ثم تخصص الأسماء العشرة التالية للكوادر الشابة، ثم توضع بعد ذلك الأسماء بالترتيب وفق قدراتها التنافسية.
يخصص 10 مقاعد للتعيين في البرلمان- أسوة بما كان متبعا طيلة العقود الماضية- ولكن مع النص صراحة علي استخدام هذا الحق الدستوري من جانب رئيس الجمهورية في تحقيق “توازن في التمثيل السياسي لمختلف القوي الاجتماعية والسياسية والفئات النوعية”. وهو الأمر الذي يجعل للتعيين معني واضح.

4) القائمة القومية:

بالإضافة لما سبق يمكن الأخذ بفكرة ما يمكن تسميته بالقائمة القومية وهي الفكرة التي اقترحت لعلاج غياب التمثيل لفئات نوعية عديدة مثل صغار المنتجين من أصحاب الصناعات الصغيرة ،وصغار الموظفين، وعمال القطاع العام، وصغار الفلاحين ،وندرة وجود أعضاء من نشطاء المجتمع المدني،بالإضافة للمرأة والأقباط، حيث تقتضي أصول الممارسة البرلمانية أن يجري تمثيل كافة أو معظم قطاعات الشعب في البرلمان بحكم أنه مجلس تمثيلي بطبعه.وعليه يمكن أن تكون القائمة القومية على مستوى مصر كلها والتي تشمل كل العناصر الذين غابت عنهم فرصة دخول مجلس الشعب في العقود الأخيرة.وتتلخص فكرة القائمة القومية في الآتي :
أن يتم الاتفاق على إضافة 50 مقعدا إلى العدد الإجمالي من مقاعد مجلس، حيث يتم انتخابهم (ال50) من خلال ما يعرف بالقائمة القومية، فيصبح على كل حزب سياسي أو تحالف حزبي أو تكتل من المستقلين أن يتقدم بقائمة كاملة من 50مرشحا. ويختار الناخب بتأشيرة واحدة قائمة واحدة بأكملها دون غيرها، ويتم عد الأصوات الخاصة بهذه القائمة على اعتبار أن مصر كلها دائرة انتخابية واحدة. فإذا افترضنا أن مجموع الأصوات الصحيحة 9ملايين صوت يتم توزيعها على الخمسين مقعدا، فالقائمة التي تحصل على 180ألف صوت أي 2% من الأصوات الخاصة بالقائمة القومية فأنها تفوز بمقعد واحد. وإذا حصلت قائمة علي 900ألف صوت 10%من إجمالي الأصوات فإنها تفوز بخمسة مقاعد. وإذا حصلت قائمة على 1,8مليون صوت أي 20% من الأصوات فإنها تحصل على 10مقاعد ،وهكذا…
ويمكن رصد عدد من النقاط الأساسية في هذا الخصوص:
*ضمان النص علي الانتخاب بالقائمة القومية في الدستور الجديد.
*أن أي مواطن لديه إمكانية متاحة في الترشيح إما في دائرته المحلية أو من خلال الانضمام إلى أي قائمة قومية.
* كما تفيد القائمة القومية في عدم اللجوء إلى تطبيق نظام” الكوتة” ، أو التمثيل النسبي الذي رفضه المصريون تاريخيا لأنه يقسم مصر على أساس طائفي ويكرس من مفهومي الأغلبية والأقلية على أساس ديني لا سياسي .
* تدفع هذه الفكرة إلى بذل الجهد في اختيار أسماء جديرة للتمثيل مصر/الدائرة الواحدة، كذلك توسيع قاعدة الأسماء وكسر احتكار الأسماء التقليدية بل وكسر الاحتكار الجيلي، والطبقي، والعائلي، وتفريخ كوادر جديدة للحياة السياسية المصرية،تتجاوز الأسماء البيروقراطية والتكنوقراطية والطائفية .
بالطبع يمكن التنويع في الأخذ بهذه الفكرة حيث يمكن تقسيم مصر إلى خمسة دوائر كبرى، فتتكون كل دائرة من عدد من المحافظات،ويتم توزيع الخمسين مقعدا على الدوائر الخمس فيكون نصيب كل دائرة (التي تتكون من عدد من المحافظات ) عشرة مقاعد.وتمارس العملية التصويتية بنفس الكيفية التي شرحناها سابقا.
وما يجري علي مستوي التمثيل السياسي نلحظه فيما يمكن أن نطلق عليه “البيروقراطية التمثيلية”. يقصد بهذا المصطلح، أي البيروقراطية التمثيلية، أن يكون الآخر الديني حاضرا في مختلف المؤسسات الحكومية. ويؤدي وجود الأقباط في مختلف مؤسسات الدولة إلي خلق حالة من الضبط الذاتي لأداء هذه المؤسسات في اتجاه التسامح، وتدعيم مفهوم التنوع الثقافي في الحكم الرشيد للمؤسسات الحكومية. وهو ما يتفق مع الفلسفة التي تتبناها منظمة اليونسكو35. تشير الشواهد إلي أن حضور الأقباط في الجهاز الإداري ليس بالقدر الملائم، خاصة علي مستوي المواقع القيادية، والتي يجري إسناد المواقع فيها بالاختيار، وإن كان قد حدث تحول نوعي في السنوات الأخيرة باسناد رئيس الجمهورية منصب محافظ إلي قبطي، وهو خطوة لم تستطع حكومة الثورة أن تحافظ عليه، خاصة في ظل شيوع رفض شعبي يبدو أنه يستمد ماء الحياة من تفسيرات غير مستقرة فقهيا حول عدم جواز تولي القبطي مواقع قيادية في جهاز الدولة، توصف بأنها ضمن الولايات العامة36.

ثالثا:

اختيار المعتقد الديني

دستوريا تنص المادة (46) من دستور 1971، ووردت في الإعلان الدستوري في مارس 2011 علي أن “تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية”، وجاء صياغة المادة بالمطلق دون إيراد أية تحفظات أو قيود قانونية أو تقديرا لممارسات عرفية سابقة. من هنا فمن المفترض-دستوريا- أن المواطنين أحرار في اختيار المعتقد الديني، مما يستتبع البقاء فيه، أو الذهاب إلي دين آخر. ولكن هذا لا يحدث علي- علي إطلاقه- عمليا.
فمن ناحية أولي لا يواجه التحول من المسيحية إلي الإسلام أية عقبات، بل- من الملاحظ- يجري تذليل الإجراءات، والعقبات الإدارية، في سبيل تغيير أوراق الهوية لإثبات عملية التحول الديني إلي الإسلام. وقد كان متبعا- حتى فترة قريبة- أن يجري لقاء يجمع الراغب في التحول إلي الإٍسلام مع رجل دين مسيحي للتأكد من انتفاء وجود أية ضغوط عليه، إلا أن هذا العرف لم يعد مطبقا. وهناك مطالبات من جانب حقوقيين مصريين باستعادته رغم ما كان يكتنف هذا اللقاء من صعوبات، مثل ضيق الوقت المخصص لجلسة النصح الديني، وعقد هذه الجلسات في مقار أمنية، الخ37.
ومن ناحية ثانية في حالة تحول مسلم إلي أي دين آخر، مثل المسيحية، فإن الأمر يكتنفه صعوبات عديدة، ليس فقط علي مستوي الحصول علي أوراق هوية تثبت الحالة الدينية الجديدة، ولكن علي مستوي العلاقات الاجتماعية ذاتها، مما يجعل استمرار بقائه في نفس محل سكنه أمر بالغ الصعوبة. وهي حالة شائعة في معظم البلدان العربية، حيث أن التحول عن الإسلام، دين الأغلبية، ليس بالأمر المقبول اجتماعيا. في الحالة المصرية الظاهر أن المادة الثانية من الدستور الصادر في عام 1971م، والمعدل عام 1980م، والتي تنص علي أن الإسلام دين الدولة، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، تشكل أساسا قانونيا يحول دون تغيير العقيدة بالنسبة للمسلمين، واعتبار أن حرية الاعتقاد تكون في قبول الإسلام أو غيره من الأديان، فإذا دخل الشخص الإسلام- دون أكراه- فليس له الخروج منه38.
وقد ظهرت في الأعوام الأخيرة إشكالية مواطنين أطلق عليهم “العائدون إلي المسيحية”، وهم عدد من المسيحيين أسلموا، ثم عادوا إلي المسيحية مرة أخري، وقاموا بتحريك دعاوي قضائية لإثبات حالتهم الدينية الجديدة. بعضهم حصل علي أحكام قضائية بالعودة إلي المسيحية، والحصول علي أوراق هوية تثبت حالته الدينية الجديدة، ولكن مع الإشارة في بطاقات تحقيق الشخصية إلي ما يشير إلي تحولهم في السابق إلي الإسلام، الأمر الذي يخشي معه تعرضهم إلي ترصد اجتماعي39. ويٌلاحظ أن هذا الحكم الذي صدر في 9 فبراير 2008م، قد ألغي حكما سابقا صدر في إبريل 2007م يؤيد الموقف الحكومي في رفض استصدار أوراق ثبوتية جديدة للعائدين إلي المسيحية علي خلفية أنهم مرتدين.
ويرتبط بحالات تغيير العقيدة، وهو ما يمثل في أحيان كثيرة مصدرا للمشكلات الاجتماعية، التبعية المباشرة للأبناء المسيحيين القصر لأحد والديهم الذي أسلم، علي خلفية أن الأبناء يتبعون خير الأبوين دينا، وهو ما يحدث في مناسبات كثيرة رغما عن إرادة الأبناء، وقد لا يكتشفونه إلا عند استخراج بطاقة شخصية، عندما يجدون أن ديانتهم هي الإسلام، وغيرت أسمائهم المسيحية إلي أسماء أسلامية40.
في أعقاب ثورة 25 يناير وافقت وزارة الداخلية علي إستصدار بطاقات رقم قومي تتفق مع الأحكام القضائية بتغيير الأوراق الثبوتية للعائدين إلي المسيحية بحيث يدون فيها صفته الدينية الحالية، وهي المسيحية. وهناك مطالبات في ظل الحديث عن الدولة المدنية بأن يحذف بند “الديانة” بطاقة الرقم القومي. وفي كل الأحيان لابد من تقنين مسألة التحول الديني في المجتمع حتي تتلائم مع طبيعة مجتمع يتشكل علي أسس ديمقراطية، ويرعي الحريات الأساسية، من هنا يمكن اعتبار المسألة شخصية، تتعلق باثبات التحول أمام القاضي في المحكمة، باعتبارها حقا من حقوق الإنسان، ولا تدخل المؤسسات الدينية طرفا في ذلك.

رابعا:

التمييز المجتمعي ضد الأقباط

هناك حالات يواجه فيه بعض الأقباط تمييزا علي الصعيد المجتمعي، لا سند له من القانون، وغير ناتج عن سياسات حكومية مباشرة، لكنه تعبير اختيارات أفراد، في مناخ تأثر كثيرا بدعاوي التطرف. في أحيان كثيرة، بسبب هذا المناخ، يزاد الأقباط ابتعادا عن الحياة العامة، وحساسية في التعامل مع المجتمع. أحد أهم الأسباب وراء تقلص مساحة التسامح الديني هو خطاب الحركات الإسلامية، المقلقة، والمضطربة، والتي تبعث علي مراجعة وضع المسيحي في المجتمع، من شريك في المواطنة، له كل الحقوق وعليه كل الواجبات، إلي ذمي تنتقص حقوقه وواجباته في المجتمع، وهو ما يشكل خروجا علي الفقه الإسلامي المصري التقليدي المتسامح. أكثر من هذا، تأخذ هذه الخطابات شكلا تحريضيا في بعض الحالات.
هنا يظهر فريقان من الإٍسلاميين: أحدهما ينتمي إلي مدرسة “الذمية المعدلة” التي تؤكد أن حق المواطنة مكفول لكل من المسيحيين والمسلمين، ولكن دون إغفال أفضلية المسلمين في المجتمع السياسي نظرا لأغلبيتهم العددية. وفريق آخر يري أن الأقباط “أهل ذمة”، أعفاهم الحاكم المسلم في عام 1855م من أداء الذمة، وبالتالي فإن وضع المواطنة الحالي ليس هو الوضع الأفضل، بل المرجو هو العودة إلي الذمية بكل ما تحويه من دلالات واشتراطات41.
ويحتاج الأمر للتصدي إلي هذه المشكلة بروز إجتهادات تراكمية جادة في التيار الإسلامي، تعيد استلهام الفقه المصري التقليدي، الذي يقوم علي التوازن ما بين احترام وضع الدين في النظام العام، ولكن مع إقرار المساواة بين المواطنين بصرف النظر عن الاختلاف في اللون أو الدين أو الجنس أو العرق.
ويقتضي ذلك:
1- إصدار وثائق أساسية علي غرار وثيقة الأزهر في يونيو 2011م، تفصل في الشرح بشأن الرؤية الفقهية المصرية للعلاقة بين المسلمين والأقباط.
2- إعادة إصدار كلاسيكيات الفقه المصري، منذ كتابات الإمام محمد عبدة، مرورا بالشيخ شلتوت والدكتور عبد المتعال الصعيدي، وانتهاء بالاجتهادات المعاصرة التي تؤكد علي الحرية الدينية، وتتناول بالنقد ما هو متداول من أفكار قديمة يعاد بعثها حول الذمية، وموقع غير المسلمين في الدولة الإسلامية، الخ.
3- إدماج الأفكار الحديثة في الفقه الإسلامي في البرامج الإعلامية والتعليمية، ولن يتسني ذلك إلا من خلال وضع رؤية حكومية واضحة تجاه هذا الشأن، يجري ترجمتها في صيغ تنسيقية بين هيئات عديدة، علي النحو الذي سوف نناقشه تفصيلا عند الحديث عن التوترات الدينية لاحقا.
4- تشجيع المبادرات الاجتماعية التي تسعي لتشكيل “رأس المال الاجتماعي” المسلمين والمسيحيين، خاصة الشباب علي صعيد العمل الاجتماعي، التنموي، الانساني. تساعد هذه المبادرات علي تشكل هوية اجتماعية جديدة لدي الطرفين، وتساعد علي تغيير الصور النمطية المشوهة لدي كل منهما عن الآخر، مما يخفض من مستويات التمييز الاجتماعي.

القسم الرابع:

التوترات الدينية: المسار التاريخي من 1970 إلى مابعد 25 يناير

تشهد مصر منذ العام 1970 (سنة أول حادثة توتر ديني والمعروفة باسم حادثة أخميم وقد سبقت حادثة الخانكة بعامين) أحداث توتر ديني متتالية…فشلت الدولة في التعامل الجدي معها مما أدي إلي تفاقمها..الأكثر من ذلك فأن الأدوات والأساليب التي كنا نستخدمها في محاولة علاج التوتر شابها التراجع..فبعد أن كان اللجوء إلى تشكيل لجنة لتقصي الحقائق كوسيلة لمعرفة دقائق ما حدث ـ لجنة العطيفي 1972 ـ والاحتكام إلى القضاء الطبيعي باعتبارهما من الآليات التي تعبر عن الدولة الحديثة.. بتنا نلجأ إلى جلسات المصالحة “الشكلية” ذات الطابع العرفي مما أدي إلي العودة بمصر إلى ما قبل الدولة الحديثة..

أ) من 1970 إلى 25 يناير

مرت أحداث التوتر الديني في مصر بأربع مراحل ساهمت في تعقدها ووصولنا لما نحن عليه الآن وذلك كما يلي42:
المرحلة العنفية ؛ من قبل جماعات العنف الديني تجاه الأقباط . حدث ذلك في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، وكثيرا ما حركها الرغبة في إحراج الدولة، وإظهارها بمظهر غير القادر علي حماية المواطنين، خاصة الأقباط. وأخذت أحداث العنف عدة أشكال منها الاعتداء علي مواطنين أقباط، فرض الإتاوة عليهم، ترويع المواطنين في مناسبات معينة، الهجوم علي المحال المملوكة للأقباط، الخ. وأرتبطت هذه الأحداث بتأويلات دينية تسلب من الأقباط مواطنتهم، وتعيد طرح مفاهيم من قبل الذمية، والكفر، الخ.
مرحلة الاحتقان ؛ حيث تتحول أية واقعة جنائية يكون أحد طرفيها مسلم والآخر مسيحي إلى واقعة دينية، من أشهر هذه الأحداث هي حادثة “الكشح” الثانية عام 2000م، والتي راح ضحيتها نحو عشرين قبطيا، وأخذت شكل خلافات تجارية في البداية، ثم ما لبث أن تطورت في صورة اعتداء مسلح عشوائي علي عدد من المسيحيين.
مرحلة السجال الديني، ويظهر في وجود منابر إعلامية مكتوبة ومقروءة ومرئية والكترونية تحض علي الطعن في العقائد، وتروج لحديث المفاضلة بين أهل الأديان، وعادة ما تترك هذه المنابر الإعلامية مساحة واسعة من التعصب، والغضب عند القراء والمشاهدين، وهو ما ينعكس سلبا علي العلاقات الاجتماعية بين المواطنين العاديين. ويٌلاحظ بصفة عامة أن الجسم العام للمجتمع المصري، مسلميه ومسيحييه، لم يكن يوما مؤيدا لصدام أو جدل ديني، وهو ما يعرف في بعض الأدبيات بالتيار الرئيسي أو الأغلبية الصامته من المصريين، وتؤدي مناقشة، ونقد العقائد في وسائل الإعلام إلي التأثير سلبا علي التيار الواسع من المجتمع المصري.
مرحلة التناحر القاعدي حيث تحدث مواجهات بين المسلمين والمسيحيين لأسباب عديدة:بناء كنيسة، تحول ديني، قصص عاطفية طرفاها مختلفين في الديانة، الخ. حدث ذلك في مناسبات كثيرة وفي محافظات مختلفة.
النتيجة أن تكون لدى البعض من كل طرف نظرة خاصة سلبية عن الآخر وبخاصة في أوساط معينة لم تستطع روح “التحرير” أن تصل إليهم، وإنما سيطر عليهم روح:
الخوف من جهة الأقباط من أنهم يتعرضون للاضطهاد.ومن طرف المسلمين أن الإسلام يتعرض للتقليل.وهو الأمر الذي يستدعي استخدام: خوف الأقباط مغلف بما حدث في العراق من تنكيل بالمسيحيين، والمخاوف في سوريا من وجود استهداف منظم للمسيحيين عقب زوال نظام البعث، أما علي الجانب الإسلامي فإن هناك احساسا بفائض القوة الدينية، ورغبة في تشكيل مستقبل المجتمع المصري، ورسم العلاقة بين الدين والدولة، ليس علي النحو المستقر دستوريا، وفقهيا ولكن من خلال مساحات أخري تشهد طغيان السياسي علي الديني.
” فائض القوة الدينية “؛ لدى كل طرف ضد الطرف الآخر.

ب) 25 يناير وما بعد

في ذروة مشهد التوحد بين المصريين في ميدان التحرير من أجل التغيير،وقعت حادثة إطفيح ثم حادث أمبابة، ثم حادث المريناب ومرشح أن تتكرر في أماكن أخرى بما يؤدي إلى اتساع نطاق جغرافيا التوتر الديني.
إن تبعات التوترات الدينية في هذا المرحلة الانتقالية الدقيقة التي تعيشها البلاد بعد 25 يناير سوف ستكون أشد وطأة وخطورة على المجتمع أمنيا وسياسيا واقتصادية من أي قضية أخرى لأنها تشكل احد مقومات الأمن القومي المصري.وهي تمثل تحديا لشرعية الدولة المصرية الحديثة،دولة المواطنة والقانون، المستندة إلى قيم الحداثة والعدالة والملتزمة بمواثيق وعهود حقوق الإنسان.
ومما لاشك فيه، أن اعتماد الحل الأمني كإستراتيجية وحيدة لعلاج أحداث الفتنة الطائفية في الفترات السابقة أدى إلى مزيد من التعقيدات والإشكاليات أكثر مما أسهم في حلها حلاً جذريا شاملاً.كما أدت سياسة تقديم المسكنات الإعلامية والأمنية بديلا عن الحلول الإستراتيجية الحاسمة ـ تارة بحجة أن الظروف لا تسمح، وتارة أخرى باستخدام فزاعة القوى الدينية المتشددة ـ إلى تزايد عدد المشاحنات الدينية في السنوات الأخيرة، حتى أن بعض المشاكل ذات الطبيعة الاجتماعية سرعان ما تتحول إلى حوادث دينية عنيفة لمجرد أن احد طرفيها مسلم والأخر مسيحي مما أدى إلى فقدان ثقة المواطن العادي في مثل هذه الحلول الجزئية والسطحية.

القسم الخامس:

رؤية للمواجهة

إنطلاقا من إرادة وطنية جامعة لبناء تقاليد المواطنة وقواعد الحياة المشتركة بين المصريين على اختلافهم في إطار دولة القانون ياتي الاهتمام بضرورة دراسة الظاهرة والتفكير في وضع استراتيجيات وسياسات للمواجهة.
نهدف بداية إلى رصد بؤر التوتر في مصر، ومعرفة أسباب الحدوث واحتملات الحدوث، وتقديم الاتجاهات الإستراتيجية والسياسات العملية للمواجهة.

أ) الأهداف

1) دراسة خريطة التوتر الديني في المحافظات المختلفة.
ليس كل المناطق تشهد توترات طائفية، بعضها ترتفع فيه مؤشر السخونة الطائفية، وبعضها يسوده علاقات هادئة من الود والتعاون بين مختلف المواطنين، مسلمين ومسيحيين، وبعضها مرشح للتوتر في حالة إلقاء تنشط عوامل الاختلاف الكامنة فيه. الخريطة المتكاملة للتوتر الديني في مختلف المحافظات تحقق عدد من الأهداف أهمها: الوقوف علي الأسباب الحقيقة التي تتسبب في إشعال الخلافات الطائفية، ثانيا الانطلاق في التعامل في الملف الديني من معلومات موثقة، وفق منهجية متفق عليها، وليس بناء علي اجتهادات أو آراء أو تحيزات لطرف أو آخر، وأيضا ليس بالاستناد إلي المعلومات التي تتوفر لدي الأجهزة المحلية، والتي يشوبها في كثير من الأحيان القصور، وغياب القدرة علي التواصل مع مختلف الأطراف. وأخيرا، فإن رسم خريطة للتوتر الديني تساعد الباحثين الاجتماعيين علي إجراء دراسات مفصلة “مقطعية” في الجسد الاجتماعي، لرصد العوامل السياسية والثقافية والسوسيو اقتصادية التي تشكل “منشطات” للتوتر الديني، وطرح الحلول المختلفة لتثبيطها، وتفريغها من الفعالية.

2) رصد مظاهر التمييز الديني في المجال العام والتي قد تؤدي إلى توترات ومشاحنات.
ينبغي رصد مظاهر التمييز الديني في المجال العام، سواء من حيث الأفراط في استخدام الرموز الدينية في غير محلها، أو تصدير خطابات دينية في غير سياقها، أو ترويج آراء أو فتاوى تتسبب في الجدل، والسجال علي المستوي المجتمعي بين المختلفين في المعتقد الديني. في أحيان كثيرة، نتيجة لحالة التدين الشكلي، ورغبة جماعات الإسلام السياسي خاصة السلفية في الهيمنة علي المجال العام، ووجود احتقان طائفي علي الجانبين الإسلامي والمسيحي، فإن مظاهر التمييز الديني في المجال العام عادة ما تؤدي إلي توترات ومشاحنات بين المواطنين سواء في أماكن العمل أو في المواصلات العامة أو في الطريق العام.

3) رصد التمييز في الخطابات الإعلامية والثقافية والدينية والسياسية، والمناهج التعليمية،التي قد تسهم في حدوث التوترات.
هناك مجالات أساسية يُشار إليها بأنها الأكثر احتضانا لعوامل “الإشعال الطائفي”، منها الخطابات الدينية، والإعلامية، والسياسية، ويؤدي غياب النقد الحقيقي لها إلي حدوث تأثيرات كبيرة علي الجمهور العام في المجتمع. المشكلة الأساسية ليست فقط في إظهار أوجه القصور في هذه الخطابات، ولكن أيضا في وضع الآليات التي تكفل تطويرها، وتلافي أوجه النقص فيها. في أحيان كثيرة يتناول الباحثون- علي وجه العموم- هذه الخطابات بنقد، دون تبيان ما حدث فيها من مراجعات، وما ينتظرها من تطوير، وهو ما يجعل الأمر برمته يدور في دائرة مفرغة. وحتى يمكن تجنب “العمومية” في تناول القضايا، يتعين إجراء دراسات ذات طبيعة “تشريحية” للخطابات الدينية والإعلامية والسياسية، حتي نتبين علي وجه التحديد ما ينقصها للتعامل الجدي معه.

4) وضع البدائل والحلول العملية المناسبة لمواجهة التوترات التي قد تحدث وتحديد طبيعتها وتوصيفها بدقة من حيث التمييز بين الوقائع ذات الطبيعة الدينية والوقائع الاجتماعية.
يؤدي التوصيف والتشخيص الجاد للتوترات ذات الطبيعة الدينية إلي استشراف عدد من الحلول العملية التي يمكن الآخذ بها في سياقات متباينة. وهنا ينبغي أن نلفت الانتباه إلي قضايا أساسية، برغم أن هناك مشكلات أو هموم قبطية عامة، يعاني منها الأقباط علي وجه العموم، إلا أن درجة التأثر بهذه المشكلات يختلف مكانيا وزمنيا، وأيضا يختلف حسب المستوي الاجتماعي. يستدعي ذلك التفكير في هندسات قانونية وسياسية معمقة للتعامل مع المشكلات، مع وضع في الاعتبار اختلاف درجة حضورها وتأثيرها من سياق جغرفي لآخر، ومن مستوي اجتماعي لآخر.

5) وضع إستراتيجية طويلة الأمد في المجالات الثقافية والتعليمية والإعلامية والقانونية وأخري آنية مباشرة.
هناك مشكلات تحتاج إلي سياسات عملية مباشرة تضع نهاية لها مثل مشكلة بناء وترميم الكنائس، وهناك مشكلات أخري، خاصة التي ترتبط بالتمييز المجتمعي، والنظرة السلبية للآخر الديني المختلف، أو مواجهة الأفكار ذات الطبيعة الاستبعادية للمختلفين في المعتقد الدين، وايجاد سياقات أوسع تسمح بالمشاركة من جانب مختلف أطياف المجتمع، كل ذلك يقتضي سياسات بعيدة المدي ثقافيا، وسياسيا، واجتماعيا. في أحيان كثيرة تبدو المشكلة من اختلاف مستوي التوقع، ما بين حديث عن ضرورة حل مشكلات، وحديث آخر يرمي إلي التسويف في الحل، وما بين هذا وذاك، يختلف الناس حول النظرة إلي المشكلات. فمن يذهب إلي أن حل مشكلات الأقباط يقتضي وقتا لتهيئة المجال العام، وهو أمر في ظاهره يبدو صحيحا في بعض الأحيان، لا نجده يقدم تصورا لسياسات بعيدة المدي للتعامل معه، ويكون الإحالة إلي المستقبل في هذه الحالة، ليس تعبيرا عن التخطيط، ولكن رغبة في التسويف، حتى وإن لم يكن بشكل متعمد.

ب) الشركاء والحلفاء

  1. شبكات الجمعيات الأهلية.
  2. المنظمات الحقوقية.
  3. المجالس القومية المتخصصة:لحقوق الإنسان،والمرأة والشباب
  4. المراكز البحثية.
  5. الأحزاب السياسية.
  6. المنتديات الثقافية والاجتماعية الجديدة.
  7. القوى السياسية الجديدة البازغة مع 25 يناير..
  8. الوزارات المعنية.
  9. كيانات المجتمع المدني.
  10. المؤسسات الدينية (الكنائس، الأزهر، بيت العائلة…)

ج) آليات العمل والتدخل

1) الاعتماد على شبكة جمعيات أهلية في المحافظات المختلفة للرصد.
يُعد غياب القدرة علي استشعار، ورصد بؤر التوتر الديني، وتحديد موازين القوة والضعف فيها، ووضع خرائط تساعد علي التدخل السريع، وتفريغها من الاحتقان الطائفي. في كثير من الأحيان تكون هناك إشارات مهمة علي وجود توتر في موقع جغرافي معين، بعضها نتيجة خلافات حول بناء وترميم كنيسة، أو نشاط ديني، أو توترات نتيجة علاقات اجتماعية بين طرفين أحدهما مسيحي والآخر مسلم، مثلما يحدث في حالات العلاقات العاطفية بين شباب من الجانبين. في هذه الحالة يمكن رصد طبيعة التوتر، والوقوف علي أسبابه، والاتصال بأطرافه، والسعي إلي التعامل بجدية معه من خلال قنوات الحوار، حتي لا يسمح للخلاف بالتصعيد، والتوتر، ويصبح مدعاة للأنفلات غير المحسوب، وتدخل في إدارته أطراف غير رشيدة. الركون إلي هذه الآلية يساعد علي تحقيق عدد من الأهداف:
أولا: تعظيم القدرات المحلية، وتمكينها علي إدارة شئون مجتمعها، وتسوية ما ينشأ من خلافات في إطار من الحوار المحلي.
ثانيا: إرساء قواعد لحل الخلافات التي تنشأ بين المختلفين في الدين، مما يساعد- مع مرور الوقت- علي وضع إطار للعلاقات بين الجانبين، ويخلق حالة من المساندة المجتمعية له.
ثالثا: التأكيد علي أن الشأن الديني ليس ملفا أمنيا، كما أنه لا يخص المؤسسات الدينية وحدها، بل هو في المقام الأول شأن مجتمعي، تنشغل أطراف عديدة به، وتعمل علي إيجاد حلول للمشكلات التي تنشأ في إطاره.
رابعا: تحقيق الشراكة علي المستوي المحلي بين أطراف حكومية وأهلية (سياسية- دينية-قيادات طبيعية) تساعد ليس فقط علي تسوية المشكلات ذات الوجوه الدينية، بل تشكل في ذاتها إطارا مهما لتعبئة الجهود المحلية لتحقيق التنمية المستدامة.

2) نشطاء من الشباب لرصد التوترات.
كشفت ثورة 25 يناير 2011م الدور الذي من الممكن أن يلعبه الشباب، بما يمتلكون من طاقات فعلية، وعاطفة جادة، وأحلام نقية تجاه المستقبل، في تحقيق التنمية والسلام المجتمعي. هؤلاء الشباب يمتلكون- علي المستوي المحلي- قدرات علي التواصل مع المجتمع، ومن الممكن المساهمة في استشعار ورصد التوترات الدينية قبل حدوثها، والتدخل لتسويتها.
3) تدريب القيادات المحلية الطبيعية والشبابية لاحتواء الخلافات وفض النزاعات واعتماد الحوار المجتمعي كآلية تضمن التماسك المجتمعي.
أفضل أنواع الحلول للمشكلات التي تحدث يجب أن ينبع من المجتمع المحلي، في ضوء العلاقات الراسخة بين مختلف مكونات المجتمع، خاصة المسيحيين والمسلمين، والتي عادة ما يحكمها سياق محلي من العلاقات المتبادلة المستقرة عبر سنوات. القيادات الطبيعية، أي القيادات التي تتمتع بتأييد مجتمعي، وتنبع من داخل هذه المجتمعات، تلعب دورا مهما في فض المنازعات التي تنشأ بين عائلات أو حول ملكية أرض أو خلافات إجتماعية عادية. وعادة ما يكون لها دور في “تخصيص القيم”- حسب التعبير السياسي- في كل مكان جغرافي. بالتأكيد فإن تدخل هذه القيادات، في حل المشكلات ذات الطبيعية الدينية، يكون له مردود ايجابي في إرساء جذور مستقرة للعلاقات بين مختلف مكونات المجتمع المحلي. ومن الملاحظ أنه في أعقاب أحداث العنف الديني، كثيرا ما تجتمع هذه القيادات من الجانبين الإسلامي والمسيحي بحثا عن حل للأزمة، في حين أنه كان حري بها – في حالة توفر السياق والتشجيع المجتمعي- أن يكون لها دور مبدئي في تجفيف منابع الأزمة منذ البداية، والحيلولة دون تطور الأوضاع سلبيا. وفي كل الأحوال فإن القيادات الطبيعية، وبخاصة الشباب منها يحتاج إلي تدريب معمق حول استخدام آلية الحوار المجتمعي لتحقيق التماسك الاجتماعي، وكيفية التعامل مع المشكلات التي تنشب علي خلفية التوترات الدينية، والقدرة الاتصالية التي ينبغي توافرها للتواصل مع كافة الجهات، ووئد التوترات في مهدها، وتوفير المناخ الآمن للحوار بين مختلف الأطراف.
4) تفعيل وتنشيط المجالات المجتمعية العامة للعمل المشترك.
هناك ضرورة أساسية لتفعيل مجالات العمل علي المستوي المجتمعي، بهدف تكوين رأس مال اجتماعي حقيقي بين المواطنين يقوم علي أساس من الثقة والاحترام المتبادل والتضامن. في تجارب تنموية عديدة، وبعضها يعرفه المجتمع المصري بصيغ مختلفة، حين ينشأ بين الناس المختلفين في المعتقد الديني علاقات تشابك سوسيو-اقتصادية في مشروعات تنموية، تجارية، ومبادرات مجتمعية لتطوير نوعية الحياة في المجتمعات المحلية، فإن مناخ العلاقات بينهم تسوده الثقة، وكثير من بواعث التوترات الدينية يتلاشي، ويتبلور سياق مجتمعي يمكن من خلاله تسوية المشكلات دون أن يكون لها مردود سلبي علي أرض الواقع. الحادث أن هناك نشاطا ملموسا من جانب بعض الجمعيات الأهلية في بعض القرى، التي أستطاعت أن تجمع في رحابها السكان المحليين من المسلمين والمسيحيين، وهذه القرى يقل فيها احتمال حدوث توترات دينية مقارنة بغيرها، ليس هذا فحسب، بل أن المناخ الاجتماعي السائد فيها يتسم بالتسامح، والنظرة الأرحب للعلاقات الاجتماعية. بناء هذا النمط من الثقة ليس فقط مسئولية المجتمع المدني علي تنوع مؤسساته، لكنه مسئولية أساسية تقع علي عاتق مؤسسات الدولة في إيجاد مسارات تسمح بالمشاركة المجتمعية لكل المواطنين في جهود التنمية، والإدارة المحلية للشأن المجتمعي.
5) تشكيل لجان لتقصي الحقائق وتقديم التقارير المطلوبة.
في أحداث التوتر الديني، حيث تتعدد الروايات، وتلتبس المواقف، ينبغي توافر آلية مستقلة تقوم علي تقصي الحقائق، والتوثيق الدقيق للمشكلات، دون تهوين أو تهويل، ووضع حلول واقعية للتصدي لها. أحد أهم مشكلات الشأن الديني في مصر هي غياب التوثيق، والذي يحول دون الوقوف علي الأسباب الحقيقية للمشكلات، ليس هذا فحسب، بل أيضا يقوض من إمكانية تحقيق التراكم في المعالجة للشأن الديني.
6) موقع الكتروني للتواصل مع الناس.
ينبغي تطوير وسائل التواصل بين المواطنين، بما يتماشي مع الثورة العلمية والتكنولوجية في مجال الاتصالات. تزايد أعداد المستخدمين للأنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي علي “الفيس بوك” و”التويتر” ينبئ بإمكانية إستخدام هذه المساحة في الفضاء الالكتروني في رفع مستوي وعي المواطنين بأهمية المشاركة، في الحصول علي معلومات دقيقة حول قضايا الشأن الديني، تفنيد الآراء الخاطئة التي تروج، كشف الشائعات ودحضها، تقديم نماذج إيجابية للتعايش بين المختلفين في المعتقد الديني، الخ. بالطبع يقل إحتمال تأثير “الفضاء الانترنتي” مع إرتفاع نسبة الأمية الأبجدية في المجتمع (أكثر من 40% من تعداد السكان)، والأمية الثقافية المتمثلة في تراجع مستوي التعليم، وضعف المنتج الثقافي، وشيوع ثقافة تقوم علي الشائعات والعنف اللفظي والبدني وغياب التفكير النقدي. ولكن سيظل الفضاء الالكتروني من الأهمية بما كان خاصة ما كشفت عنه أحداث التوتر الديني في السنوات الأخيرة من سوء استخدام هذه المساحة التي يظهر فيها الفرد منتجا للمعرفة، ومستهلكا لها في آن واحد، مما يعطي مجالا لنشر التعصب، والغضب الطائفي غير الحصيف، والسجال الديني بين المسيحيين والمسلمين، وقد دفع ذلك في وقت من الأوقات أحد الدعاة المعروفين، الشيخ عمرو خالد إلي إطلاق مبادرة مع مواقع الكترونية عامة، وإسلامية ومسيحية تحت عنوان “انترنت بلا فتنة”، وقد لاقت المبادرة تشجيعا، ولكن نظرا لعدم التواصل، وغياب الاستدامة ضعفت كثيرا إلي حد الانتهاء تقريبا43.
7) مراجعة كل الجهود التي قطعت شوطا في هذا المجال من مناهج تعليمية ومقترحات قوانين ومشروعات ثقافية من حيث التعريف بها أو استكمالها أو تنشيطها وإعدادها للعمل.
في كثير من المنعطفات الطائفية التي يمر بها المجتمع المصري كثيرا ما يتردد خطاب متكرر حول أهمية إعادة النظر في برامج الإعلام والتعليم، باعتبار أن كلاهما من أدوات التنشئة المهمة في الدولة الحديثة. يضاف إليهم ما يقدم من مشروعات ثقافية ترقي بالذوق العام، وتدعم الإبداع، وتنعش الذاكرة الوطنية، وتحقق التواصل بين الأفراد ومواردهم الثقافية الأساسية. أحد أهم المشكلات التي تواجه هذه الجهود هي غياب آلية التنسيق المستمرة بين الهيئات والمؤسسات التي تقوم علي إدارة ملفات الإعلام والتعليم والثقافة، كل منها له وزارة، يتبعها مؤسسات، تعمل وفق خطط خاصة بها، ولا تقوم بوضع المواطنة علي أجندة العمل المشترك، إلا في حدود ضيقة، وفي سياق مبادرات ذات طبيعة وقتية ترتبط بالجدل حول التوترات الدينية. هذه المسألة تحتاج لي قدر عال من التنسيق بين مختلف الجهات الحكومية المعنية بالإعلام والتعليم والثقافة، وربط ذلك بالجهود والفعاليات التي تقوم بها المنظمات غير الحكومية، والهيئات الأهلية، كل ذلك في إطار خطة متكاملة لتدعيم المواطنة، والتسامح، والحوار علي المستوي المجتمعي.
8) الاهتمام بإعادة تكوين الإعلام ليكون جسرا للتواصل وليس مدعاة للسجال والاحتراب علي أساس ديني
يعد الإعلاميين، وبخاصة الصحفيين، من أكثر الجماعات المهنية التي تسهم في عملية صناعة الضمير في المجتمع، لما لها من قدرة علي تشكيل الرأي العام تجاه مختلف القضايا- محليا وإقليميا ودوليا.

وحتى يقوم الإعلامي بدور ايجابي في بناء الجسور في المجتمعات فإنه يحتاج إلي إعداد مهني ونفسي واجتماعي. فقد ثبت بالخبرة أن التكوين المهني للإعلامي ليس هو العامل الوحيد لضمان أداء جيد يأخذ في اعتباره تحديث المجتمع، ففي كثير من الأحيان يلجأ إعلاميون- أكفاء علي المستوي المهني- إلي المساهمة في الدعوة إلي السلطوية سواء في شكلها السياسي أو الاجتماعي أو الديني، وهو ما يكشف أهمية تلازم التكوين مع التدريب، بغية الوصول إلي شخصية مهنية تمتلك مهارات الحرفة والرؤية المستنيرة.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن الجيلين الشاب والوسيط من الإعلاميين اكتسبوا ثقافتهم في ظل نماذج للحكم تفتقر إلي الديمقراطية الكاملة، وعاشوا في مجتمعات تسوده ا أنماط من السلطوية في العلاقات الاجتماعية، وتأثروا بميراث ممتد من الطائفية، الأمر الذي جعل التكوين الأساسي للصحفيين يفتقر في كثير من الأحيان إلي مبادئ الليبرالية والحرية والديمقراطية والتعددية وقبول الآخر والتسامح… وغيرها مما يعد من القيم الأساسية التي تقوم عليها المجتمعات الحديثة. يستدعي هذا ضرورة التفكير في وضع تصور لبناء جيل من الإعلاميين ينهض علي مسألة الحوار والمواطنة. هذا التصور يهدف إلي بناء مجتمع للتغير Community في قلب المجتمع الأصلي Society أي تكوين ما يمكن أن نطلق عليه رسل الحوار والمواطنة من الإعلاميين. ومن خلال تكوين مجموعة صغيرة من الإعلاميين الراغبين في تعميق ثقافة الحوار يتشكل المجتمع الصغير من أجل الإصلاح، ثم ما يلبث أن يتحول –بالعمل والإصرار- إلي مجتمع أكبر نظرا لدخول وافدين جدد إليه… وهكذا.
ينطوي هذا التصور علي ثلاث مجالات أساسية هي:
التكوين الفكري للصحفيين، ويشمل إرساء بنية تفكير نقدي تقوم علي مبادئ الحرية والاستنارة والديمقراطية والمواطنة، والحوار. في هذا السياق يمكن دراسة قضايا من قبيل النوع والتنوع والاختلاف، ومنهجية الحوار، وسبل التفكير العلمي…الخ.
التكوين المهني للصحفيين، ويشمل صقل الإعلاميين بمهارات مهنية، وأساليب حرفية متقدمة تساعدهم علي أداء عملهم علي نحو أفضل. مثال علي ذلك دراسة أساليب التناول الإعلامي الرصين لقضايا من قبيل المواطنة، وكيف يمكن أن يحافظ الإعلام علي التنوع في ضوء ميثاق يتعين الوصول إليه للعيش المشترك.
التكوين القانوني للصحفيين، ويعني إكساب الإعلاميين معارف قانونية فيما يتصل بالتشريعات والمواثيق المهنية التي تنظم الصحافة والصحفيين وحرية التعبير والنشر في المجتمعات العربية عامة والمجتمع المصري علي وجه الخصوص، بما يكفل احترام الخصوصيات، والتنوع الديني والمذهبي، في إطار مجتمع متسامح، بحيث لا تستخدم المنابر الإعلامية للحض علي الكراهية، أو التمييز ضد الآخر المختلف، أو الأزدراء بالأديان.
في ضوء المبادئ السابقة نقترح أربعة محاور يمكن أن تصلح مساحات مشتركة تقرب بين المصريين وتكون ملهمة لنشاطات وبرامج و مواد إعلامية متنوعة..
* المحور الأول: معرفي/معلوماتي حول تاريخ العلاقات الإسلامية والمسيحية والتعددية الثقافية في مصر.
يعنى هذا المحور أولا: بالتواصل الحضاري للثقافة والفنون المصرية الفرعونية والقبطية والإسلامية والحديثة من: فن المعمار، المنسوجات، الأعمال الخشبية، الفنون المصورة، الآثار، الخ،وتقديمها في إطار معرفي وثقافي داعم لفكرة الهوية الوطنية المركبة العناصر..وثانيا: تقديم التراث الثقافي المصري المشترك بين المصريين في حياتهم اليومية بالرغم من الاختلاف الديني..وثالثا:تقديم التراث المصري في الاعتدال الديني (الإسلامي / المسيحي)..ورابعا وأخيرا:تقديم المواقف الإسلامية والمسيحية من قضايا مثل:العدل، المساواة، الحرية…الخ.
* المحور الثاني: دعم قيمة الحوار الثقافي والحياتي:
يتناول المحور الثاني عدة أبعاد أولا: نبذ السجال الديني بكل أشكاله وتعظيم قيم احترام الآخر والاختلاف..وثانيا: فهم الآخر كما يحب أن يكون مفهوما، وليس كما يريد الآخرون فهمه.ثالثا:إدانة الإساءة أو التشويه أو التشكيك أو التجريح أو الطعن في العقائد. رابعا:التركيز على قيمة التنوع وأنه من نعم الله على الإنسانية ويعد أساسا لفهم الذات ومصدرا للتقدم.
* المحور الثالث: دعم قيم المواطنة الحديثة:
يتضمن أولا ما يمكن تسميته: الذاكرة المدنية الحديثة حيث يلقى الضوء على المواقف الوطنية المشرقة التي شارك فيها المصريون معا في مواجهة المحتل والمستعمر، وفي تحقيق الاستقلال الوطني، وتحرير الأرض، والمشاركة في المشروع الوطني. ثانيا:الإلحاح على الدعوة إلى المشاركة السياسية والاجتماعية وان المشاركة لا تستقيم إلا بحضور كل مكونات الجماعة الوطنية. ثالثا:دعم القيم الدستورية وأن الحضور في المجال العام والسياسي هو المكان الذي يمكن أن يلتقي فيه المختلفون ومن ثم تحدث المصالحة بين الديني والمدني. رابعا:التأكيد على قيمتي تكافؤ الفرص والمساواة. خامسا: إلقاء الضوء على المساهمات المتنوعة للأقباط في الماضي والحاضر في شتى المجالات.
* المحور الرابع التعامل مع إشكاليات التوتر الديني:
يمكن ذلك من خلال منهجية تقوم على أولا:الحرص على التغطية المعلوماتية الدقيقة لأي واقعة توتر ديني وأن يكون الإعلام المصري المصدر الأول لتدفق المعلومات. ثانيا:تجنب الممارسات اللا مهنية مثل ذكر الصفة الدينية لأطراف الوقائع الجنائية لمجرد أن أحد الطرفين مسلم والطرف الآخر مسيحي، والتأكيد بدلا منها على الصفة الجنائية للواقعة وعلى الصفة المواطنية لأطرافها. رابعا:مراعاة المعالجة الإعلامية التوازن بين الجوانب الاجتماعية والسياسية والثقافية من ناحية وبين المعالجة الدينية من ناخية أخري.

هذه بعض الاتجاهات والمحاور التي يمكن من خلال التركيز عليها دعم قيم المواطنة في الإعلام وتأكيد الشراكة الوطنية بين المواطنين على أرض الواقع…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern