الأبعاد السياسية لحوار الحضارات
رؤى غربية ثلاث
*سمير مرقس
(1)
مدخل
أدى ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر إلى بروز حركتين متضادتين لبعضهما فيما يتعلق بالعلاقة بين الحضارات / الثقافات والأديان، فمن جهة نجد حركة نشطة ودؤوب للقاءات تعقد في الجهات الأربع للنقاش حول حوار الحضارات بأبعاده وتفاصيله، ومن جهة أخرى نجد آلة حربية – أمريكية بالأساس – مستنفرة تحت غطاء فكري وأيديولوجي يصب في اتجاه صدام الحضارات. المفارقة أن الغرب مصدر “هاتان الحركتان”، الأمر الذي ربما يوحي بمدى التنوع الذي يسمح بوجود النقيضين: “المبادرة بالحوار” و”المسارعة إلى الصدام”،
وهو ما يمكن أن يكون صحيحاً نسبياً في الإطار الداخلي الغربي. إلا أنه ولا شك يكون محل تساؤلات لدى الآخرين غير الغربيين. فكيف يتفق كلاً من “الحوار” و “الصدام” في نفس الوقت، وهل العلاقة بين الحضارات – الثقافات والأديان لابد وأن تكون إما صراعية أو حضارية؟ وهل يكون الصراع أو / و الحوار بين الحضارات – الثقافات والأديان أم بين المنتمين إليها؟
(2)
الحضارات أم الناس صانعة الحضارات؟
إن المقاربات الموضوعية التي تناولت علاقة الحضارات ببعضها، تشير إلى أن الحضارات لا تتصارع أو تتحاور، بل الناس هم الذين يتصارعون ويتحاورون لأسباب تتعلق بالمصالح في المقام الأول. وأن مواقفهم لا تنبع من معطياتهم الحضارية والثقافية بقدر ما تنبع من مواقعهم في البناء الاجتماعي القومي أو العابر للقوميات بفعل العولمة. وعليه فنحن ننطلق من أرضية تؤمن بأن الحضارات ليست “كتلاً” تعمل كل منها وكأنها آلية منتظمة في ذاتها، صماء في طبيعتها، بل يوجد التنوع والتناقض في داخل كل حضارة، وهو ما أتاح وجود ما يسمى برؤى متعددة للعلاقة بين الحضارات – لا نقول الحوار أو الصدام – حيث أن كلاً منهما ما هو إلا تجسيد لإحدى هذه الرؤى بحسب المصلحة والسياق التاريخي. بلغة أخرى أن ما سمح بوجود التنوع في الغرب هو أن الغرب يوجد فيه رؤى متعددة حول العلاقة بين الحضارات يحدد هذه الرؤى مصالح ومواقع البشر في البناء الاجتماعي مما يتيح أن نجد جماعات بحكم المصالح – المواقع، تتبنى الحوار وأخرى تسعى إلى الصدام وهكذا. ربما تسود رؤية لواحدة من هذه الجماعات في لحظة تاريخية محددة وهنا لابد من قراءة موازين القوى التي ترجح قوة على أخرى في لحظة زمنية بعينها. وعليه فإن العلاقة بين الحضارات – حواراً كانت أم صداماً – ليست قراراً سابق التجهيز وإنما هي بحسب الجابري “عملية تاريخية”، حيث أنه من القرن السادس عشر يميل الميزان الحضاري إلى جهة الغرب (أو ما اصطلح على تسميته بالمركزية الغربية) ومن ثم استطاع أن يفرض الصدام تارة، أو يدعو للحوار تارة أخرى أو أن نجد الأمرين معاً، كذلك يميل الميزان في داخل الغرب ذاته إلى أنصار الصدام أكثر من الحوار.
(3)
الأبعاد السياسية للعلاقة بين الحضارات: رؤى ثلاث غربية
مما سبق وقبل البدء في التعرف على الرؤى المعاصرة الغربية السياسية للعلاقة بين الحضارات، لابد من التأكيد على أن الغرب ينطلق من أرضية فكرية تقول أنه أنجز مادياً وروحياً وأن حضارته هي الحضارة التي يجب أن يقتدى بها. وبفضل هذا الإنجاز فإنه لديه الحق كل الحق في تحديد طبيعة العلاقة وفق ما تمليه عليه مصالحه. “فالتقدم المادي لا يحدث دون تعبئة روحية وتجديد في القيم، بمعنى اكتساب قيم جديدة حول العمل والإنجاز والحقوق والواجبات”.
فالقيم – أخلاقية كانت أو دينية – جزء من سيرورة المجتمع وهي أيضاً تتجدد بتجدد المجتمع، فالرق الذي كان مقبولاً لم يعد كذلك، أما الديمقراطية والحق المطلق بالملكية الخاصة، والانتخابات وحقوق الإنسان والمواطنة فهي مبادئ جديدة عرفت في الغرب الأوروبي أولاً ثم الأمريكي. أن تقدم الغرب ليس مجرد إضافات لإنجازات مادية على منظومة قيم ثابتة بل جاء نتاجاً لتجدد مادي وروحي، ربما يكون قد تم بسبب التوسع الخارجي ونزح الثروات إلا أن ذلك أمراً آخر، حيث تحقق الإصلاح الديني في الداخل الغربي: الأوروبي ثم الأمريكي، وتم إنجاز التقدم العلمي، ومورست مبادئ الديمقراطية وولد الفرد المواطن.
وبالرغم من أن هذه الرؤية تحمل قدراً من الإدراك بالذات الحضارية في علاقتها بالحضارات الأخرى، وهو الإدراك الذي حكم العلاقة بين الغرب والآخرين على مدى زمني طويل فسادت هذه الرؤية على حساب رؤى أخرى، إلا أن الواقع الغربي لم يمنع – في إطار سياقة الداخلي – أن تعبر الرؤى الأخرى عن نفسها. صحيح أن المصلحة السياسية قد حددت إلى حد كبير أن تسود الرؤية ذات الطبيعة المهيمنة بسبب التوجهات التوسعية التي حكمت السياسات الغربية على مدى قرنين من الزمان.
وفي محاولة للاقتراب من هذه الرؤى والتعرف عليها، ولتسمية الأمور بمسمياتها يمكننا رصد ثلاث رؤى غربية فيما يتعلق بالعلاقة بين الحضارات وبخاصة في بعدها السياسي وذلك كما يلي:
1. الرؤية الاستشراقية / المناطقية (القديمة / الجديدة).
2. الرؤية الاستشراقية المعدلة.
3. الرؤية المدنية / الشعبية / القاعدية.
بيد أنه – وقبل استعراض الرؤى الثلاث – لابد أن نشير إلى أن أحداث 11/9 قد أظهرت أن العنوان الرئيسي لها هو الغرب والإسلام، وهو ما تجلى في ردة فعل الإدارة الأمريكية – تصريحاً وتلميحاً – وربما أوروبا، حول العلاقة بين الحضارتين، ومن ثم فإن رصدنا للرؤى الثلاث ينطلق من هذا الأمر، أخذاً في الاعتبار أننا نميل إلى عدم اختزال الأمر في العلاقة ذات الطبيعة الدينية أو الثقافية – صداماً كانت أو حواراً – وإنما إلى إدراك الأسباب الحقيقية وراء الإصرار على جعل العلاقة ذات طبيعة دينية وثقافية والخلط بين مفاهيم الثقافة والحضارة والدين من دون تمييز، والأمر لدينا يبدو وكأنه مقصود “لتغطية المصالح” الحقيقية.
أولاً: الرؤية الاستشراقية / المناطقية (القديمة / الجديدة)
يمكن القول إن هذه الرؤية تتأسس على أن هناك صراعاً تاريخياً بين عالم الغرب وعالم الإسلام، والضارب بجذوره إلى أكثر من ألف سنة، بحسب فريد هاليداي، بدءاً من فتح أسبانيا في القرن السابع مروراً بالحروب الصليبية (والمعروفة بالفرنجة) ثم النزاعات العثمانية الأوروبية والصراعات العرقية في عالم ما بعد الحرب الباردة في القارة الأوروبية. ويضاف إلى ما سبق وبحسب إدوارد سعيد أن “المصطلح” الإسلام “يبدو كأنما يدل على شأن واحد بسيط ولكنه في الحقيقة وهم في بعضه أو تعميم أيديولوجي في بعضه، وهو تحديد بسيط جداً للإسلام في بعضه الآخر وذلك كما هو مستخدم اليوم في الغرب”. ويضيف عبارة هامة منصفة أنه “لا تقوم أي مقابلة مباشرة على أي درجة من الأهمية الحقة، بين الإسلام بسكانه وحدوده الشاسعة وبالعشرات من مجتمعاته ودوله وتواريخه وجغرافيته وثقافاته”.
ويعد هذا التحديد المنهجي الذي يطرحه إدوارد سعيد هو جوهر النظرة الاستشراقية التي ربما تخفت لفترات زمنية ولكنها بالقطع تستدعي في لحظات التوسع الغربي الاقتصادي في الجوهر، أو بحسب أنور عبد الملك في حديث وجهة إلى المستشرقين قائلاً: “… إن بداية استشراقكم تزامنت مع بداية فتوحاتكم”. وتقوم الفكرة الاستشراقية، (السياسة) أو المناطقية بالتعبير الحديث، Area Studies على قاعدتين هما:
1) “التباين المطلق” بين الشرق والغرب.
2) “السجالية التاريخية” بين الشرق والغرب.
*فبالنسبة للقاعدة الأولى، نجدها تنطلق من مقولة كبلنج الشاعر “الغرب غرب والشرق شرق” ولن يتقابلا أبداً. فدعاة الفكر الغربي يقدمونه باعتباره موحداً وله خصوصية ثابتة منذ البدء، حيث ضمنت احتمال التقدم وهو احتمال غائب عن الشعوب الأخرى فلا مستقبل لهذه الشعوب إلا إذا تخلوا بالجملة عن هو يتهم وخضعوا لتغريب شامل، كما يدعي هؤلاء أيضاً أن تفوق الغرب قد تواجد ضمنياً منذ الأصل مما يضفي طابعاً عنصرياً على هذا الفكر.
*أما بالنسبة للقاعدة الثانية، “السجالية التاريخية”، فإنه في إطار تكريس الإطار المعرفي لعلاقة الغرب بالشرق، أعطى الغرب لنفسه الحق أن يكون باحثاً، والشرق هو موضوع هذا البحث. وتتحول نتائج هذا البحث لتكون سجالاً بينهما، والسجال هنا بحسب عزيز العظمة “ليس خطاباً حول النواقص، بل هو خطاب جوهري يواجه عدمه – أي نواقصه المطلقة…”.
أن هاتين القاعدتين تصب في اتجاه التقسيم الكوني والتمييز البشري مثلما أوضحها أبلغ التوضيح برنارد لويس:
ثقافات في صراع Cultures In Conflicts
وبالإضافة إلى هذه الدراسة دراسة هنتينجتون الشهيرة صدام الحضارات حيث التأسيس لفكرة الغرب والآخرون The West And The Rest.
لقد كانت مهمة هنتينجتون ومعه مدرسة كاملة من النخبة الأمريكية هو التأكيد على مضمون المدرسة الاستشراقية القديمة بخطاب ومفردات تتناسب والمصالح الغربية الحالية خاصة الأمريكية بعد الحرب الباردة، والتي نجد تعبيراً لها في المرجع الهام الذي صدر عن مركز دراسات المناطق بهارفارد والذي صدر عام 2000:
أمور ثقافية Cultures Matters
حيث العوامل الثقافية، وحدها، دون غيرها هي المسئولة عن تشكيل التنمية الاقتصادية والسياسية، والتأكيد على ثنائية “نحن” و “هم”، بل وإحالة أسباب تخلف الشرق إلى العوامل الجغرافية والمناخية أي استعارة المفاهيم القديمة وإعادة توظيفها مجدداً. والكتاب من تحرير لورانس هاريسون وصاموئيل هنتينجتون. وعليه لا نجد فرقاً كبيراً بين ما كان يطرح في القديم وبين ما يطرح الآن في إطار هذه الرؤية.
ونجد هذا الخطاب جلياً في وثيقة الستين التي دعت إلى الحرب العادلة عقب 11 سبتمبر حيث ضمت اليمين السياسي واليمين الديني في آن واحد، كذلك مضمون الخطاب السياسي الأمريكي الذي أعلن بكل وضوح على لسان رئيسه في الاجتماع المشترك لمجلس الكونجرس “أنها حرب حضارات”.
ثانياً: الرؤية الاستشراقية المعدلة:
وهي مدرسة تدعو للحوار بين الثقافات والحضارات والأديان انطلاقاً من أن الصدام الحضاري ليس صداماً حول “المسيح” أو “كونفوشيوس” أو “محمد” (ص) بقدر ما هو صراع سببه التوزيع غير العادل للقوة والثروة والنفوذ، والازدراء التاريخي الذي تنظر به الدولة والشعوب الكبرى إلى الصغرى. وفي نفس الوقت يعيد أبناء هذه الرؤية إعادة النظر إلى الثقافة باعتبارها وسيلة للتعبير عن المنازعات وليست سبباً فيها. بيد أنه بالرغم من محاولة التمايز عن الرؤية الاستشراقية ببعديها القديم والجديد، إلا أن هاجس وجود عدو وضرورة تحديد هويته يبقى أمراً مشتركاً بين الرؤيتين. فالإيجابي والذي يعكس سمة الاختلاف – بعض الشيء – مقارنة بالرؤية الأولى هو أن هذه الرؤية لا تقوم بشكل مسبق بتسمية العدو، وإنما تضع مبادئ مرجعية للقياس عليها وتخلص إلى أن من يقف ضد هذه المبادئ سيصبح عدواً بالضرورة وهذه المبادئ يمكن إيجازها فيما يلي:
1. الرأسمالية والسوق الحرة.
2. حقوق الإنسان والديمقراطية الليبرالية العلمانية.
3. الدولة – الأمة كإطار للعلاقات الدولية.
لا يتردد أصحاب هذا الاتجاه من توجيه بعض الانتقادات للنظام الغربي كما يقبلون بعض الانتقادات التي يوجهها “الآخرون” من العالم الثالث – الشرق للممارسات الغربية، وهو ما يعني وجود مساحة حوارية بين الغرب والآخرين، ولا يمانع أيضاً أنصار هذه الرؤية من الأخذ بمفردات ومفاهيم بعض الاتجاهات النظرية لمدرسة التبعية من نوعية: المركز الأطراف، كذلك قبول بعض المصطلحات الدالة على أوضاع اجتماعية واقتصادية صكها المجتمع الدولي مثل: الشمال والجنوب، الأغنياء والفقراء، بل والاطلاع على نتائج المنظمات الدولية ومؤسسات المجتمع الدولي في العالم فيما يتعلق بقضايا البيئة والموارد والفقر والتنمية والمرأة.. إلخ. ويكرس أنصار الرؤية الاستشراقية المعدلة وقتاً غير قليل لمحاولة فهم الواقع المجتمعي للعالم الثالث بوجه عام وللبلدان الإسلامية بوجه خاص ويحاولون التعرف على الأسباب التي أدت إلى عدم استقرار بعض هذه البلدان ومدى تأثير ذلك على النظام العالمي.
وتتفهم الرؤية الاستشراقية المعدلة كثيراً مشاعر العالم الإسلامي في أنه يعيش تحت حصار فرضه عليه الغرب في عديد من المجالات الحيوية السياسية والعسكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ويمتد هذا التفهم إلى إدراك الأسباب التاريخية التي أدت إلى ذلك، وإلى إشكاليات عملية التحديث التي فرضها الغرب وما اقترن بها من توترات اجتماعية واقتصادية.
إلا أن أنصار الرؤية “المعدلة” يقاومون بكل قوة الاستقلال التام عن الغرب بل ومنع ذلك وضرورة اتباع النموذج الغربي الذي أثبت نجاحه وعليه تطرح هذه الرؤية مهام على الغرب أن يؤديها وذلك كما يلي:
1. مراجعة القيم والمفاهيم الغربية لتواكب المتغيرات.
2. ترك العالم الثالث يسلك طريقه نحو التحديث، كل حسب الطريقة التي يختارها، والتفاعل بصورة إيجابية مع الدول التي تحقق تقدماً اقتصادياً في الإطار الغربي.
3. مساعدة الدول التي لا تستطيع تحقيق التقدم بحسب النموذج الغربي حتى لا تقوم مواجهة بين الغرب والآخرين.
إن أنصار هذه الرؤية يتيحون قدراً من الحركة والحرية للآخرين ولكنهم يؤكدون على مرجعية النموذج الغربي في النهاية، لذا فهم في النهاية ما هم إلا طبعة معدلة من الرؤية الاستشراقية في صورتها القديمة – الجديدة.
ثالثاً: الرؤية المدنية – الشعبية – القاعدية
هناك في داخل ٍالمنظومة الغربية من هم متحررون من التراث الكولونيالي بالمعنى الدقيق للكلمة، ويتجاوزون فكرة الحضارة – الكتلة والتي تعني تماثل العناصر المكونة لها في مواجهة حضارة – كتلة أخرى. وعليه نجد أن أكثر من تشددوا في مواجهة العولمة هم أعضاء النقابات الغربية والمدافعون عن البيئة والناشطون في المجتمع المدني الغربي والذين يحاولون بناء موقفاً مستقلاً عن أنظمة الحكم في الغرب وبخاصة الأمريكية. فمن المعروف تاريخياً أن الإدارة الأمريكية تتولى بالنيابة عن الأمريكيين إدارة شئون السياسة الخارجية بشكل مطلق والتي ازدادت في الآونة الأخيرة بوصول بوش الابن إلى مقعد الرئاسة الأمريكية حيث الإدارة ذات طابع يميني متشدد: سياسي وديني، وقد ازداد تشدد الإدارة بطبيعة الحال بعد 11/9. بيد أن أصحاب الرؤية المدنية القاعدية يحاولون التمرد على الرؤى والسياسات التي تؤدي إلى الصدام من واقع الهيمنة الغربية وانحازوا للتصدي لسياسات الظلم الاجتماعي والاقتصادي داخلياً في إطار المنظومة الغربية، ومدوا تضامنهم مع فقراء العالم والمتضررين بغض النظر عن انتماءاتهم، كما يؤكدون على أن التنوع أحد أهم الخصائص البشرية في وجه رؤى عنصرية تمثل تهديداً حقيقياً للتنوع ولكل ما يميز عرقاً عن آخر أو أيديولوجيا عن أخرى أو دين عن آخر. أن أنصار هذه الرؤية أمكنهم من خلال وسائل الاتصال الحديثة تعبئة التحالفات في شتى بقاع الأرض في مواجهة عنت الرؤى الحاكمة في الغرب والساعية للصدام من دون تمييز.
يمكن القول أن هذه الرؤية تناقض ما سبق من حيث المضمون الفكري من جانب، كذلك التحرك العملي من جانب آخر، إنها حركة قاعدية مدنية ترفض استئثار الغرب بالعالم كما ترفض الصراع على القاعدة الحضارية: غرب – شرق، غرب – إسلام، وتعود إلى أصل هذا الصراع – في تصورها – وأنه صراع ضد العولمة بغض النظر عن أن من يطلقها هو الغرب لأن هناك من يستجيب لها من الآخرين، وبالتالي لابد من تعبئة كل المتضررين سواء في الغرب أو في الشرق، في الشمال الغني أو الجنوب الفقير، في الحضارة الغربية أو في الحضارة الإسلامية. إنها في واقع الأمر حركة “العولمة من أسفل”، والتي تحاول تسليط الأضواء على التأثيرات السلبية لسياسات العولمة الاقتصادية والضغط من أجل زيادة معدلات الفقر والتهميش والتلوث البيئي وانتهاك حقوق الإنسان المترتبة عن سياسات المؤسسات المالية الدولية سواء في الشمال أو في الجنوب والدعوة إلى بناء نظام اقتصادي عالمي بديل قائم على العدل وليس السوق الحر والرأسمالية الشرسة، وبتعبير آخر عدم التعمية على ما سبق بمقولة صدام الحضارات. في ضوء ذلك تشكلت العديد من المنظمات والجماعات غير الحكومية التي تمثل هذا الاتجاه وتضم في صفوفها منظمات متنوعة ومتباينة الاتجاهات فمنها الخيرية والدينية والإصلاحية والتقدمية والراديكالية والشبابية والنسائية والنقابات العمالية والجماعات الفلاحية والحركات الاجتماعية وغيرها من المنظمات الشعبية. وتسعى هذه المنظمات إلى تبني مساراً للتنمية بديلاً للمسار الحالي للعولمة وبناء هياكل اجتماعية واقتصادية وسياسية بديلة قائمة على التعاون والديمقراطية والمشاركة السياسية والعدل الاجتماعي والتنوع الثقافي وحماية البيئة. وقد استفادت هذه الحركة من شبكة الإنترنت في سرعة الاتصال وتبادل المعلومات والتنسيق والتعبئة والحركة. كما اعتمدت على آلية عمل ديمقراطية غير مركزية (حيث كسرت احتكار المركزية الحضارية الغربية) تتناسب مع عدم تجانس المنظمات والجماعات المشاركة في هذه الحركة مما أتاح الاستقلالية في اختيار شكل ومساهمة وتحرك كل منها اعتماداً على إبداع وخبرة المشاركين ومبادرتهم.
وعليه تتجاوز هذه الرؤية ما تحاول أن تكرسه الرؤيتين السابقتين، ولعل ما حدث في سياتل ودربان وكذلك بيان المثقفين الليبراليين والتقدميين المائة والأربعين في مواجهة بيان الستين عقب 11/9 يكشف عن هذه الرؤية. وفيما يخص بيان المائة والأربعين نجده وبحق وبحسب السيد يسين أنه خطاب معارضة أمريكي يؤكد أن هناك امكانية التمايز عن الرؤيتين الاستشراقيتين (القديمة – الجديدة والمعدلة). إن هذه الرؤية تتيح أن تتحالف كل فئة في حضارة ما مع المقابل لها في الحضارة الأخرى وهو ما ينطبق على الحوار القائم بين المجتمع المدني العابر للقوميات وهو ما يمكن أن ينطبق عليه تعبير حوار الحضارات، خاصة وأن الرؤيتين السابقتين يمكن اعتبارهما نخبويتين يعبران عن مصالح من يحكم، بينما هذه الرؤية قاعدية مدنية وشعبية.
(4)
نحو حوار حضاري بين القوى المدنية القاعدية
وبعد، حاولنا في عجالة أن نرصد الرؤى الغربية فيما يتعلق بالأبعاد السياسية لحوار الحضارات من جانب، وتفنيد مقولة “الحوار – الصدام” بين الحضارات من جانب آخر، فالحوار بين الحضارات تصبح الدعوة إليه في ظل دعاوي الصدام أمراً ملتبساً. إن الحوار المطلوب هو الحوار الممتد بين أصحاب المصالح المشتركة وعدم الخضوع إلى فكرة الحضارة / الكتلة التي تتماثل عناصرها ومن ثم مصادرة إمكانية الحوار بين العناصر المتماثلة في كل حضارة. ولاشك أن المهمة الضرورية هو في النضال ضد ما من شأنه فرض رؤى مطلقة على طبيعة العلاقة بين الحضارات بشكل يجعل من الحوار وسيلة لتحقيق التبعية. فالديمقراطية وحقوق الإنسان التي نتجت في الغرب من خلال مسيرة حية على أرض الواقع دفع البشر ثمنها حروباً وصراعات، لا يمكن أن تفرض بشكل فوقي في أماكن أخرى بشكل ميكانيكي وبمنطق “الاستزراع” أو من خلال الحوار الذي يصبح وسيلة للهيمنة والدفع القسري لا أداة للتفاعل الحضاري الحقيقي الحر.
إن الديمقراطية وحقوق الإنسان لا يمكن فرضهما بالمنطق “الاستشراقي القديم – الجديد” أو “المعدل” مجدداً، حيث أنه تاريخياً تم إجهاض كل منهما بالتوسع الذي تم منذ القرن السادس عشر بحسب بيتر جران وإيمانويل والرشتاين وآخرون. إن انتصار النموذج الغربي، في طبيعته الأمريكية في الحرب الباردة، ساعد على تدعيم فكرة لماذا لا يأخذ الآخرون بهذا النموذج وإن كان قسراً، وفي مرحلة لاحقة طرحت الإدارة الأمريكية شعار إما أن يكون العالم معنا أو ضدنا، مما أوجد التناقض بين حرية الأخذ بالديمقراطية وتطبيق حقوق المواطنة والإنسان باعتبار ما سبق ثمرة نضال ذاتي وبين فرضها بالقوة الجبرية من أعلى.
في هذا السياق تأتي أهمية الرؤية المدنية القاعدية حيث إمكانية أن تأخذ كل تجربة سياسية مداها في ضوء واقعها كذلك إمكانية قبول وجود مركزيات أخرى غير غربية وعليه يستقيم الحوار. علينا في هذه اللحظة التاريخية الفارقة خاصة مع التوحش الأمريكي ونزوع الولايات المتحدة إلى السلوك الإمبراطوري فيما يتعلق بالعالم، أن نمد جسور الحوار مع القوى المدنية والشعبية والقاعدية في الغرب والتي تتبنى رؤية في الواقع تتفق مع مصالحنا الحقيقية والواقعية والتي تمس أوضاع الناس بشكل مباشر وعدم الوقوع في فخ تحويل النظر عن هذا الأمر تحت مظلة الصدام الحضاري أو الديني. فالصراع أو الحوار لابد وأن يكون حول قضايا الناس ومصالحهم.
المصادر
(1) محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1997.
(2) الفضل الشلق، حوار الحضارات في عالم الصراع، مجلة الاجتهاد، العدد 52 و 53، السنة 13، خريف وشتاء 2001 – 2002.
(3) إدوارد سعيد، تغطية الإسلام، ترجمة سميرة نعيم خوري، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1983.
(4) فريد هاليداي، الإسلام والغرب: خرافة المواجهة (الدين والسياسة في الشرق الأوسط)، ترجمة عبد الإله النعيمي، دار الساقي، بيروت، 1997.
(5) سمير مرقس، تعليق “استغرابي” على نص “استشراقي”، تعليق على ترجمة قمنا بها لنص لبرنارد لويس بعنوان الغرب والشرق الأوسط: سجال وتباين، دار ميريت، 1999.ويشار أن مقال برنارد لويس يمكن اعتباره أساساً نظرياً موجزاً لكتابه الذي صدر بعد 11/9 ما الخطأ؟
What Went Wrong?
(6) Anwar Abd El-Malek, Orientalism in Crisis, Diogenes, no. 44, 1963
(7) سمير أمين نحو نظرية للثقافة، نقد التمركز الأوروبي والتمركز الأوروبي المعكوس، سلسلة دراسات الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، 1989.
(8) عزيز العظمة، أفصاح الاستشراق، المستقبل العربي، عدد 32، أكتوبر 1981.
(9) Lawrence E. Harrison & Samuel P. Huntington, Culture Matters: How Values Shape Human Progress, Basic Books, 2000
(10) جراهام إي. فوللر وإيان أو. ليسر، الإسلام والغرب بين التعاون والمواجهة، ترجمة شوقي جلال، مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1997.
(11) نادية رفعت، من “انتفاضة سياتل” إلى “انتفاضة واشنطن” تنامي الحركة المناهضة للعولمة الاقتصادية، الجمهورية ، إبريل 2000.
(12) فيفيان فؤاد و نادية رفعت وسمير مرقس، المنظمات الأهلية والدولة في مصر: من السكون إلى الحركة – دراسة للصراع حول قانون الجمعيات الأهلية، مقدمة إلى مؤتمر المنظمات غير الحكومية والمحكومية في العالم العربي، القاهرة، مارس 2000.
(13) السيد يسين، نص خطاب المعارضة الأمريكي، الأهرام 9/5/2002.
* سمير مرقس:
مستشار المركز القبطي للدراسات الاجتماعية ومركز الفسطاط للدراسات.
عضو الهيئة الاستشارية لبرنامج حوار الحضارات بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية.
من كتاباته:
الحماية والعقاب: الغرب والمسألة الدينية في الشرق الأوسط.
الحوار الإسلامي – المسيحي في الخبرة المصرية.
المواطنة في الخبرتين المصرية والغربية.
الإمبراطورية الأمريكية:ثلاثية الثروة – الدين – القوة (من الحرب الأهلية إلى ما بعد 11 سبتمبر).