أفهم وأتفهم، وكتبت مبكرا، عن طبيعة الصراع الذى نشأ مطلع السبعينيات بين جماعات العنف الدينى والدولة المصرية. وكيف أن هناك ثلاث مساحات صراع مفتوحة تخوضها هذه الجماعات للنيل من الدولة الحديثة المصرية. الأولى: الأقباط. والثانية: الأجانب بشكل عام، والسياح بشكل خاص. والثالثة: المصالح الاقتصادية. إلا أن ما لا أستطيع أن أفهمه، أو أقبل تفهمه، هو اقتصار منهج التعاطى مع هذه الجماعات فى الإطار الأمنى دون غيره، على أهميته القصوى. خاصة فى العمليات التى تجرى فى داخل الوطن. لأن ما يجرى على حدودنا يتكفل به جيشنا الوطنى بكل حسم. إلا أن نمطية وبيروقراطية التعاطى مع عمليات الداخل قد سمحت باستمرار وتجدد هذه الموجات على مدى نصف قرن تقريبا من 1970 إلى يومنا هذا، خاصة الموجه إلى الأقباط. أخذا فى الاعتبار أن الخمسين عاما السابقة على سنة 1970، وتحديدا ما بين 1919 و1969 لم تشهد مصر خلال هذه الفترة إلا واقعتى عنف دينى. الأولى: قبل 1952. والثانية بعدها. فيما عرف بكنيستى الزقازيق والسويس.
(2)
وهنا علينا أن نبحث عن الأسباب. ما الذى كثف عمليات العنف وجعلها ظاهرة ممتدة وحصيلتها مستمرة تقترب من الـ400 عملية عنف دينى تم توجيهها، على مدى نصف قرن تقريبا، إلى الأقباط فى مواقع حياتهم من جهة. وإلى الكنائس من جهة أخرى. أخذا فى الاعتبار أننا قمنا بدراسة مطولة لتعريف وتصنيف وتحديد طبيعة عمليات العنف وتحديد أسبابها. (أقول هذه الملاحظة لأن هناك وقائع ذات طبيعة جنائية أو مجتمعية تحولت إلى دينية بفعل المناخ العام أو ظروف معينة ترتبط بأسباب عدة. وهذه الوقائع أخرجناها من العمليات الأربعمائة التى ذكرناها). ودون الدخول فى تفاصيل تناولناها كثيرا فى كتبنا ومقالاتنا، أنا وغيرى. نشير إلى عدة أمور ساهمت فى استمرارية الأحداث. الأول: هو القبول ـــ ببساطة ـــ بانطلاق فتاوى تعيد النظر فى الوضع القانونى للمصريين من غير المسلمين. الثانى: النظر إلى الأقباط كطائفة/ جماعة دينية، والتعامل مع الأقباط عبر القيادة الدينية بمنطق نظام الملة العثمانى. وقد تم إطلاق هذه الممارسة فى الفترة السبعينية. وباتت حقيقة ثابتة مع امتدادات هذه الفترة. ولم تتحرر مصر ـــ نسبيا ـــ منها إلا بعد 25 يناير مع انفراجة المجال العام ببعديه: السياسى والمدنى. ومن ثم حضور الأقباط بصفتهم المواطنية فى هذين المجالين. إلا أن البيروقراطية عادت إلى نهجها القديم. فى ظل مظلة دينية فقهية متشددة مطلوب.. كيف؟.
(3)
القبول بانتشار فقه متشدد مضاد للأقباط يقول أولا: بتكفير القباط، وثانيا: بعدم جواز بناء الكنائس، وثالثا: عدم حق الأقباط بتولى مناصب الولاية العامة. ليس فقط المناصب العامة وإنما لما هو دونها مثل: مناصب مديرى المدارس. ورابعا: عدم التعييد على الأقباط فى أعيادهم. وواكب ذلك الاستجابة العملية لهذه الفتاوى. ما يدفع بتبرير العنف تجاه الأقباط فى النهاية.
(4)
وندلل على ما سبق بقبول السلفيين على مضض بقانون بناء الكنائس ولكن بوجود نص يؤكد على أن الأقباط طائفة. كما يقنن الشروط العشرة المنسوبة تاريخيا للعزبى باشا التى تتحكم فى بناء الكنائس. وهى الشروط التى صدرت فى ظل دستور إسماعيل صدقى باشا الاستبدادى. خاصة أنهم يعرقلون البناء فى الواقع. كما أوجدوا مرجعية ما للدولة العثمانية التى تمردت عليها مصر محمد على من خلال مسار تاريخى: سياسى، وقانونى مختلف.(ولن أشير لما ورد فى الدستور فى إطار صفقة حول دينية الدولة لا مدنيتها فلقد ناقشته فى حينها). كذلك قبول الإدارة التعليمية بالتراجع عن تعيين سيدة مديرة مدرسة لعدم شرعية ذلك. ولم يعد أمام البيروقراطية إلا أن تعيد التكنيكات القديمة من شراكة مع الكيان الدينى فى إدارة الأقباط وخاصة شبابهم. وهو وضع يعيد تقسيم المجتمع على أساس دينى. ولعل هذا جل ما تريده جماعات العنف لأنه ييسر تحقيق مشروعها على أشلاء المصريين.
(5)
لم تتنبه البيروقراطية إلى ما فعله الرئيس من مواقف تاريخية غير مسبوقة من أولا: تعييد على الأقباط ـــ كمواطنين ــــ فى عيدهم بالذهاب إلى مكان عبادتهم. ثانيا: الاعتذار إلى سيدة المنيا العجوز. ثالثا: ترتيب جنازة عسكرية لشهداء البطرسية. فتستجيب لهذه الممارسات عمليا على أرض الواقع. ما يضعف مصر الوطن/الدولة أمام كل محاولات تغيير طبيعتها الحضارية المركبة التى تقوم على التعددية بغير خصومة مع الدين.. وأظن هذا ما تنبه إليه المصريون عقب الحادث. فمارسوا حالة تضامنية حضارية فيما بينهم لأن الخطر يتهدد الجميع. اللهم احفظ مصر الوطن بكل مكوناتها واجعل الحقيقة تطل، بكل وضوح. ولا يتحول الكلام الجد إلى طراطيش بحر كما يقول عمنا صلاح جاهين.. نواصل.
ما بعد المقال:
أعتذر عن عدم استكمال السلسلة التى بدأت فى كتابتها حول: حصاد الفكر فى 2016، الأسبوع الماضى. ونواصل كتابتها الأسبوع القادم.