الشعور الوطنى، والحس الاجتماعى، والوعى الطبقى؛ ملامح ثلاثة أساسية ميزت الممارسة البرلمانية فى انطلاقتها الأولى من خلال مجلس شورى النواب. المجلس الذى عبر عن انطلاق حركة المواطنة فى مصر وكان إيذانا باختراق حاجز السلطة من قبل المصريين، بحسب أستاذنا وليم سليمان قلادة، وممارسة حقوق المواطنة ـــ نسبيا ـــ بمعايير التطور الاجتماعى والسياسى منتصف القرن التاسع عشر. فبفعل الحضور المصرى فى أجهزة الدولة: الجيش، والإدارة، ومؤسسات الحداثة، فى إطار مشروع محمد على المستقل عن الدولة العثمانية.
ثم تملك البعض «للأبعديات»، أو الأراضى الزراعية تبلورت طبقة مصرية خالصة حاضرة للمشاركة فى السلطة. وذلك وفق إرادة سياسية نافذة، وندية، وإدراك لمصلحة الوطن، وعلم...ما تجلى فى نوعية الملفات التى أثارها النواب الرواد. وإصرارهم على ممارسة دورهم النيابى بنهج مستقل. بالرغم من المواجهات المتكررة مع إسماعيل والتى أدت إلى «وأد المجلس»، ثم اضطراره إلى الدعوة لانتخابات المجلس أكثر من مرة...كيف؟.
(2)
لقد حرص النواب ـــ 75 عضوا يمثلون 14 مديرية (محافظة) ـــ على التعاطى مع ملفات غاية فى الأهمية وتصب فى الصالح العام. من ملفات المجلس الأول (1866 ـــ 1869) نذكر: أولا: إلغاء السخرة. ثانيا: تنمية الزراعة والتجارة فى مصر. ثالثا: مهمة نشر التعليم العام فى مصر. رابعا: تحديد مخصصات سنوية للمصروفات الخديوية. خامسا: تنظيم المحاكم. سادسا: بناء الديمقراطية من أسفل من خلال انتخاب عمد ومشايخ البلاد. سابعا: إلزام وزير المالية بتقديم ميزانية عامة لشؤون البلاد...وكانت مقاربة النواب الأول عميقة ومدروسة. كما رسخت لأسس الحياة النيابية فى مصر. كما عكست قدرا من التكامل والتناغم بين السلطة التشريعية، والجهاز الإدارى (السلطة التنفيذية/الحكومة) والخبراء المثقفين (أو المثقفين الخبراء)... أو بين البرلمانى وبين المثقف والموظف...وسوف نأخذ ملف التعليم كمثال على هذا التكامل المبكر اللافت بتميزه وانضباطه والتزامه المصلحة العامة للمواطنين من أجل نهضة الوطن ودعم استقلاله.
(3)
تشير محاضر مجلس شورى النواب إلى كيف دفع «اتربى بك أبوالعز» (نائب الغربية فى إبريل 1866) بضرورة: «تعميم التعليم الابتدائى المجانى بإنشاء مدرسة ابتدائية مجانية فى كل مديرية وكل محافظة». وتشير الحوارات التى دارت حول ما طرحه «اتربى بك» إلى موافقة المجلس على ذلك. كذلك كيف التزم «ممثل الحكومة شريف باشا رئيس مجلس الأحكام بما جاء فى تقرير اللجنة الخاصة بالتعليم». وأعلن من جانبه أن «الخديو إسماعيل وقف جميع أطيان تفتيش الوادى على المدارس، ولكنه طلب تأجيل إنشاء المدارس فى العريش والسويس والقصير (وكانت تعد بلادا نائية آنذاك) حتى يتم تأسيس المدارس فى المديريات القريبة». فوافق المجلس على طلب الحكومة. انطلاقا من أن التعليم يؤدى إلى: «تمدن أبناء الوطن».
(4)
أصبح التعليم العام مشروعا قوميا، تلتزم به الدولة. وكان جدنا الطهطاوى «المنور الكبير»؛ وتلاميذه من «المنورين الرواد» هم واضعو المناهج. فلقد تمت الاستعانة بالخبراء المثقفين فى هذا المجال لوضع مناهج التعليم الأساسى: فى اللغة العربية، والحساب، والعلوم،...، إلخ. انطلقت الحكومة تعمم التعليم بتأسيس المدارس الابتدائية التى تدرس مناهج معتبرة يقوم عليها مثقفون خبراء. ولم يتوقف تعميم التعليم عند التعليم الابتدائى. فيشير التقرير الختامى الذى قدمته الحكومة لمجلس شورى النواب فى نهاية مدة المجلس الأول فى 1869 إلى قيام «ديوان المعارف» (وزارة التربية والتعليم بلغة اليوم) بما يلى: تأسيس 12 مدرسة ابتدائية وثانوية ومتوسطة، على الترتيب. بالإضافة إلى العليا وذلك كما يلى: مدرسة المهندس خانة (كلية الهندسة)، ومدرسة الإدارة والألسن (كلية الحقوق)، ومدارس المساحة والمحاسبة، والرسم والعمليات (الفنون والصنائع)، والمدرسة البحرية فى الإسكندرية».. كذلك قيام «ديوان الجهادية» (وزارة الدفاع) بما يلى: إنشاء 10 مدارس منها ما هو عسكرى ومنها ما هو مدنى. وذلك كما يلى: «مدرسة الطوبجية (المدفعية)، ومدرسة الفرسان والبيادة، ومدرسة الشيش، ومدرسة الجبخانجية (صناع الذخيرة)، ومدرسة أركان حرب، بالإضافة إلى مدرسة الطب البيطرى، ومدرسة المحاسبة، ومدرسة الزراعة».
(5)
يجسد ما سبق الحالة التى كانت عليها البلاد من تأكيد إرادة المواطنين فى تعميق المسار النهضوى والاستقلالى لمصر...لذا كان نواب مجلس شورى النواب هم الحصن المنيع الذى واجه التدخل الأجنبى، ورفضه المساس بمقدرات البلاد...نواصل...