(1) على مدى قرون كان المصريون مستبعدين من الحكم. وكان تبلور طبقة مصرية تملكت الأرض الزراعية بداية الطريق لاختراق حاجز السلطة والمشاركة فى حكم البلاد. وقد جسد مجلس شورى النواب نضالات المواطنين المصريين التاريخية وثوراتهم الممتدة والمستمرة ضد الحكام الوافدين. والمراجع للأداء السياسى لأجدادنا من البرلمانيين الأول سوف يلمح- بسهولة ويسر- أداءً رفيع المستوى من حيث
: ردهم على ما جاء فى خطبة العرش التى افتتح بها إسماعيل المجلس. أو نوعية الموضوعات التى طرحوها للنقاش وتلقفها «مثقفو وموظفو» مصر لوضع المقترحات موضع التنفيذ العملى فورا وخاصة فى مجال التعليم. نركز حديثنا هذه المرة على رد أعضاء المجلس على إسماعيل، ونعرض كيف تعاطوا مع ملف التعليم فى الأسبوع القادم.
(2) عرض إسماعيل فى خطبته يوم افتتاح مجلس شورى النواب تصوره لحكم البلاد، حيث تحدث عن أمرين هما: الأول ويتعلق ببناء الدولة العصرية بكافة مقوماتها المادية والمعنوية على أرض مصر. أما الثانى فيخص تمسكه باتباع سياسة استقلالية عن «الباب العالى». ولم يفت إسماعيل أن يلفت نظر الأعضاء ألا يتصوروا أنهم سلطة شعبية يمكن أن تملى إرادتها على العرش أو حتى على السلطة التنفيذية، وخاصة السياسة الخارجية. مذكرا إياهم بما أنجزه جده محمد على للمصريين.
(3) وفى رد بليغ غاية فى التحضر- يورده الرافعى- سوف نلحظ كيف أن المصريين كانوا على مستوى اللحظة التاريخية ومارسوا دورهم البرلمانى كما عهدناه فى أعرق الديمقراطيات. فلقد كان رد أعضاء المجلس- بمعايير منتصف القرن التاسع عشر وفى ضوء وعى أعضاء المجلس- بمثابة «وثيقة ديمقراطية تأسيسية تاريخية». تعكس حالة «الندية» بين الحاكم والمواطنين على قاعدة المواطنة.. ونوجز أهم ما جاء فيها من قواعد.
(4) القاعدة الأولى: عراقة التاريخ والحضارة المصرية. وكأنهم بحسب لويس عوض- يقولون لإسماعيل «لا تباهِنا بجدك العظيم فنحن أيضا لنا جدود أعظم». القاعدة الثانية: «إن انحطاط الأمة المصرية بعد مجدها القديم لم يكن من انحطاط المصريين أنفسهم ولكن من انحطاط ملوكهم» (لكن لتداول أيدى من لم يحسن تدبير ملكها من الملوك السابقين، تناوبتها نوائب الزمن). وهو أمر يحتمل أن يوجه لإسماعيل نفسه إذا ما فشل فى تحقيق خطته التى تضمنت تحديث الدولة والاستقلال عن الدولة العثمانية.
(5) أما القاعدة الثالثة: استكمل أعضاء المجلس ما نقص خطة إسماعيل. فضمنوا خطابهم ما يلى: أولا ضرورة العمل على إزالة الفساد والفوضى المملوكية بإزاحة «الوخامة». وثانيا: إقرار الأحكام. وثالثا: وإقامة «دعائم العدل بين الأنام». (أى إعمال دولة القانون على الجميع). ورابعا: نشر التعليم «وإنشاء المدارس العلمية والحكمية». وخامسا: بناء قوة مصر العسكرية «من الاستحكامات الملكية، وإحكام العمليات الوطنية العائدة بعظيم النفع على عموم الرعية». ما يعكس الحس الاجتماعى «للطبقة رأس الحربة»، التى بدأت تشارك فى الحكم، بالطبقات الأدنى.
(6) ووضع النواب قاعدة رابعة هامة حول التقييم الموضوعى لحكام مصر. فأدانوا كلا من عهدى عباس وسعيد بوصفهما عطلا تقدم مصر الذى انطلق مع محمد على. حيث جاء فى الرد: «... تولى على الأقطار المصرية وولايتها من لم يراعوا تلك المآثر العظيمة حق رعايتها ففترت همة مصر السابقة، وضعفت حركة تقدمها الفائقة».
(7) وفى ضوء الرد الذى رسخ قواعد الديمقراطية البازغة فى مصر. انطلق النواب يمارسون العمل البرلمانى برصانة شديدة. ولم يعر النواب أى اهتمام لما طرحه إسماعيل حول حدود دورهم التشاورى. حيث تجاوزوا بمراحل هذا الدور إلى ما هو متعارف عليه من أدوار للبرلمان فى أعرق الديمقراطيات من: تشريع، ورقابة، ومحاسبة، وتقييد للسلطة المطلقة (نسبيا)، والدفاع عن المصالح الوطنية العليا،...، إلخ،. كما جسد البرلمانيون دورهم البرلمانى بندية كاملة للحاكم.. ما أدى بعد ثلاثة مجالس نيابية إلى إقرار «تنصيب مشايخ البلاد وفقا لرغبة الأهالى وألا يعزل أحد منهم إلا إذا حكم عليه جنائيا. ومن هذا القرار تطور قانون انتخاب العمد وتحصينهم ضد الفصل التعسفى من المديرين أو من السلطة التنفيذية بصفة عامة».. نواصل...