البرلمان ليس مبنى. والوصول إلى عضويته ليس عملا إجرائيا قانونيا. ولا العمل الرقابى والتشريعى عملية وظيفية.. وإنما هو تعبير عن عملية «نضالية مواطنية»؛ أى: فى إطار حركة المواطنين الدؤوبة والمستمرة فى الواقع، من أجل توسيع الشراكة فى الحكم بين مواطنى الوطن الواحد. وعدم استئثار أسرة، أو فئة، أو جماعة، أو شبكة امتيازات، أو...، بالحكم دون غيرها. فالبرلمان هو رمز لنضالات المواطنين: أولا فى الواقع لحين الوصول إليه. وثانيا تحت قبته دفاعا عن مصالح الوطن.
(2)
فى هذا السياق يأتى احتفالنا بتأسيس مجلس شورى النواب. حيث يعد نقطة فاصلة فى تاريخ مصر. فكل الأشكال المؤسسية التى عرفتها مصر ـ تاريخيا ـ للتشاور والتداول السياسى تأسست فى إطار الحكام. هكذا كان «البولا» وهو برلمان الإسكندرية فى العصر اليونانى الرومانى. مرورا بالهيئات التى كانت تشكل فى إطار قصور الحكم بمعزل عن المحكومين فى العصور الوسطى. ونهاية بما أنشأه نابليون بونابرت فى سنة 1798 باسم «الديوان العمومى» أو«الديوان العام»، عشية انطلاق محمد على بمصر فى مسار مستقل عن «الباب العالى العثمانى». كان من أهم ما أنجزه محمد على هو إدماج المصريين فى أجهزة الحكم أولا. صحيح أن محمد على قد أسس «مجلس المشورة». لكنه كان مجلسا «استشاريا غير ملزم للسلطة التنفيذية»، بحسب لويس عوض. إلا أن إدماج المصريين كعناصر فاعلة فى الدولة الحديثة قيد التأسيس. قد مهد الطريق لاحقا لتملك المصريين للأرض الزراعية. حدث هذا بعد أن كان الحكم مقصوراً على «إثنية» حاكمة وافدة. وعليه، حرمان المصريين من الشراكة فى كل من السلطة والثروة.
(3)
كان المصريون الذين حظوا بالتملك والانخراط فى جهاز الدولة هم النواة الأولى لطبقة صاعدة باتت لها مصالح ترتبط بأرض الوطن واستقلاله. كانت هذه الطبقة تتراوح بين الملاك الزراعيين الجدد من جهة. وأفندية الإدارة من جهة أخرى. وهم الذين ناصروا الحاكم (محمد على وسعيد) فى صراعهما مع الدولة العثمانية من أجل مصر مستقلة. وكان ثمن ذلك هو تجاوب الحكام للمشاركة المواطنية فى الحكم والإدارة. فلقد أدى تطور الأحداث بإسماعيل (1863 ــــ 1879) إلى ضرورة أن يقدم على أن يعلن استقلال مصر عن الدولة العثمانية. لذا كان لزاما عليه أن يؤسس «لمجلس» من مواطنى مصر لمساندته فى ذلك. فكان مجلس شورى النواب الذى تم انتخاب أعيان مصر لعضويته (75 عضوا). ينتخبون من قبل عمد البلاد ومشايخها. ومهما كانت نوايا الحاكم أو رغباته حول تأسيس البرلمان المصرى الأول، فإنه يعكس التحولات الاجتماعية التى طرأت على مصر وحركة المواطنين فى «التفاوض» مع الحاكم، ومساندته من أجل الاستقلال. وتقييد جموحه، وحمايته فى مواجهة التدخل الأجنبى.. وفى المجمل التعبير عن «حركة وإرادة المواطنين» المستقلة والحرة المكتسبة وليست الممنوحة.
(4)
ويلاحظ أن حركة ونضال المواطنين الحرة والمستقلة (المغايرة لرغبة الحاكم) لم تتبلور مرة واحدة وإنما وفق حركة نضالية. أى أنها كانت ثمرة كفاح ديمقراطى. أثبتت فيها الطبقة البازغة جدارتها فى أن تعى أهمية الاستقلال الوطنى والحماية الوطنية. نعم لم يكن وعيها الاجتماعى يسمح بالتعبير عن جموع الشعب. إلا أنها كانت ــ يقينا ــ غير مغلقة على مصالحها.. نواصل.
ما بعد المقال:
■ الشكر العميق واجب للمكالمة الهاتفية الطويلة للخبير الوطنى والعالم الكبير فى مجال الدواء والمثقف الموسوعى الدكتور محمد رؤوف حامد، تعليقا على مقال الأسبوع الماضى: «من المسؤول عن أزمة الدواء فى مصر؟». فلقد أغنانى بملاحظات ثمينة حول هذه الصناعة التى تعانى المحنة. وهو ما حاولنا أن نؤصل له. كما شاركنى نضاله المضنى من أجل تأمين استراتيجية وطنية فى هذا المجال والإعاقات التى واجهته على مدى عقود. والتى أدت إلى تراجعنا المخزى لصناعة حيوية. وسوف أعرض لبعض من أفكاره لاحقا.
■ كذلك الشكر لرسالة الخبيرة والمناضلة الدكتورة ماجدة غنيم على ملاحظتها الجديرة بالانتباه. فقط أطمئنها أن ما حكم تصورى هو طبيعة الأزمة التى لا يمكن لمتضرريها الانتظار. ومن ثم اعتبارها أمنا قوميا وتحرك كل مؤسسات الدولة لحلها بعيدا عن مصالح الكرتلات الدولية وامتداداتها.