تشير التجربة التاريخية إلى أن الدول التى اتبعت «روشتة» صندوق النقد الدولى قد عانت كثيرا من جراء تداعيات هذه «الروشتة». ويفصل لنا ذلك العالم الألمانى أرنست فولفانج، فى كتابه المرجعى المهم: «صندوق النقد الدولى: قوة عظمى فى الساحة العالمية»، (ترجمة عدنان عباس على، الصادر عن سلسلة عالم المعرفة- 2016)، التداعيات التى وصفها «بالخراب الاقتصادى والاجتماعى»... فلقد تابع المؤلف تفاصيل هذه التداعيات/ الخراب فى عدد من الدول مثل: تشيلى، والاتحاد السوفيتى، ويوغوسلافيا، والأرجنتين، وأيسلندا، وأيرلندا، واليونان، وقبرص، بالإضافة لعدد من دول القارة الآسيوية.
كما اقترب من دوره مع الاتحاد الأوروبى وأثر ذلك على أوروبا.. وفى كلمة دالة وواضحة وصف المؤلف علاقة الصندوق بالدول المتنوعة، والتى تتوزع فى قارات العالم «بالجبروت»، حيث اتسم سلوك الصندوق تجاه الدول: بالإذلال، والابتزاز، والامتثال.. إلخ.. وفى عبارة أدبية بليغة يقول المترجم فى معرض تعليقه على سلوكيات الصندوق ما يلى: «إن الصندوق يجرد أجيالا وأجيالا من بنى البشر من الحلم بمستقبل أفضل».. بفعل «جبروته».. كيف؟.
(2)
«برهن الصندوق على جبروته»، بحسب عنوان أحد فصول الكتاب، من خلال الكيفية التى تعاطى فيها مع القارة الآسيوية. فالاقتصادات الآسيوية كانت قد سجلت فى ستينيات القرن العشرين أعلى معدلات نمو اقتصادى فى العالم. ما أتاح للمستثمرين فرصا استثمارية تغدق أرباحا تتزايد بشكل مطرد. ومنذ مطلع التسعينيات، مارس الصندوق ووزارة الخزانة الأمريكية ضغوطا قوية لدفع دول القارة الآسيوية إلى تسهيل حركة رأس المال الأجنبى فى أسواقها دون عوائق. فنفذت هذه الدول- من جراء الضغوط- عملية تحرير غير مبررة. نشأ عنها بلوغ الحجم الكلى لقروض المصارف الأجنبية فى كل من: إندونيسيا، وكوريا الجنوبية، وماليزيا، والفلبين، فقط، ما يقرب من 300 مليار دولار بنهاية القرن العشرين.. ويلاحظ أن هذه القروض قد اشتملت على قروض صغيرة الأجل، تراوحت نسبتها بين 50 و70%. أخذا فى الاعتبار أنها لم تستثمر فى الاقتصاد الحقيقى، بل جرى استثمارها كنقود أو أموال ما يعرف «بالساخنة» «Hot Money»، فى شراء أسهم الشركات والعقارات المختلفة، تحديدا، التى تدر أعلى ربح ممكن بأسرع وقت متاح. ما سبب ارتفاعات ضخمة فى أسعار العقارات، غير حقيقية، وعليه اندفعت المصارف الآسيوية فى هذه الارتفاعات فرصة سانحة تستطيع توظيفها لمنح قروض جديدة مضمونة بالعقارات. وترتب على ذلك اندلاع حركة لولبية تنطوى على مخاطر جمة. فالمستثمرون الأجانب، ومن ضمنهم صناديق المعاشات التقاعدية الأمريكية والمصارف العاملة فى وول ستريت، لم يعروا الأمر انتباها. فلقد جنوا أرباحا عظيمة بفعل معدلات الفائدة العالية المفروضة على مناحى الاستثمار عالية المخاطر. ولما لا وتبعات المخاطر لن يتحملوها، بل ستتحملها المصارف الآسيوية وحدها ومن ثم الاقتصادات الوطنية.
(3)
ونتجت عن ذلك الأزمة الآسيوية الشهيرة التى أدت إلى: أولا، تخفيض سعر صرف العملات المحلية عدة مرات. وثانيا، سحب المستثمرون الأجانب رؤوس أموالهم، وثالثا، سرعان ما انتقلت العدوى بين عديد من بلدان القارة الآسيوية. ورابعا، وأخيرا، انهار، خلال أسابيع، قسم كبير من الجهاز المصرفى فى هذه الدول.. وعليه لم يكن لدى هذه الدول من خيارات سوى اللجوء إلى الصندوق للتزود بالسيولة، وهكذا.
(4)
وهنا تتجلى «ذروة جبروت» الصندوق. حيث يعقد ما- أشرنا له من قبل- ما يعرف «بإعلان النوايا».. حيث يلزم الدول بمجموعة من الإجراءات للموافقة على إتمام أى قروض. إجراءات- وأرجو الانتباه- يدفع ثمنها دوما: «الغلابة من المواطنين»، الذين ليس لهم علاقة من قريب أو بعيد بالاستثمارات والاقتراضات وجنونها.. من هذه الإجراءات ما يلى: أولا: تسريح أعداد من موظفى الدولة (حسب كل حالة). ثانيا: منح خدمة الدين الأجنبى أولوية السداد. ثالثا: تخفيض المصروفات الحكومية. رابعا: تصفية المؤسسات المفلسة (وطنية بالأساس). خامسا: رفع معدل الفائدة السارى على رأس المال الأجنبى إلى 80% لجذب المستثمرين مرة ثانية.. جرى هذا فى إندونيسيا، وكوريا الجنوبية، وتايلاند.
(5)
ولم يسهم أى إجراء من هذه الإجراءات فى نشر الاستقرار فى الاقتصادات المترنحة. «إن العكس هو الصحيح»، بحسب الباحث... حيث زادت من تدهور الأوضاع. وقادت هذه البلدان إلى كساد خطير، وأن تتحمل قطاعات واسعة من السكان وطأة التخفيضات المتعاقبة لسعر صرف العملة الوطنية، وخسارة ما يقرب من نصف قوتهم الشرائية... «يا له من جبروت»... ونواصل...