أشرت منذ أسبوعين فى مقالنا: «تعرية القديم»، إلى أن المعالجات التى تمت فى مواجهة حادثة الكرم هى معالجات تنتمى إلى «القديم»، سواء بسبب غياب الإبداع والتخيل، أو «لأن اللى نعرفه أحسن من اللى ما نعرفوش»، وإن «مصارين البطن بتتعارك»، ومن ثم يتعطل القانون، وتتعثر المواطنة لصالح العرفى والجماعات الأولية التى هى نقيض للدولة الحديثة. ولولا «الاختراق الرئاسى» أو ما يعرف بالـ”breakthrough”، الذى انحاز فيه إلى إعمال القانون فى قضية تتعلق بمواطنين مصريين بغض النظر عن أية انتماءات... ويبدو لى أن إصرار البعض على الانتماء إلى القديم: فكرا، وممارسة، لا يقف عند حد التوترات الدينية وإنما يمتد إلى عديد من المجالات...
(2)
ففى المجال الاقتصادى، أذكر كيف أتيح لى أن أحضر اجتماعا منذ ما يقرب من عامين حول التشريعات المطلوبة لتيسير الاستثمارات. وكان الاجتماع ثريا بالأفكار الإيجابية من واقع الخبرة العملية والرغبة العميقة فى تجاوز سلبيات الماضى. إلا أن ما لفت نظرى هو أن من كان منوطا بهم تجميع حصيلة النقاشات وتفعيلها عمليا كانوا يعلقون على ما يسمعون باستدعاء معايير وأحكام وضوابط صندوق النقد الدولى. ووصل الأمر أن اسم الصندوق كان يذكر «كمرجعية» بين كل عبارة وأخرى... وبالصدفة البحتة سافرت عقب الاجتماع لحضور ندوتين فى أوروبا ووجدت حوارا مثيرا عن دور المؤسسات المالية ومستقبلها فى ظل الأزمة المالية الأكبر التى عرفتها البشرية حتى الآن فى 2008. أو ما بات يعرف بـ«الأزمة المالية النيوليبرالية الأكبر». وكان من ضمن المؤلفات التى حظيت باهتمام كبير آنذاك: «صندوق النقد الدولى: قوة عظمى فى الساحة العالمية»، الذى صدر باللغة الألمانية لأحد الباحثين المعتبرين، وأثار جدلا كبيرا، لا يقل عن الكتاب المرجعى «فخ العولمة» الذى خرج عن المدرسة الألمانية، أيضا...
(3)
المفارقة التى من السهل رصدها...هى كيف أن «تكنوقرطيينا المحليين» لايزالون «على قديمهم»- إذا استعرنا تعبيرات الشباب- بينما يشير لنا الكتاب المذكور، وسيل الكتب والدراسات التى تلت صدوره عن ميلاد اتجاه واضح تخصص فى ’’نقد‘‘ ’’سياسات صندوق النقد الدولى‘‘... وفى هذا السياق سوف نلقى الضوء على جانب مما جاء فى كتاب: «صندوق النقد الدولى: قوة عظمى فى الساحة العالمية»؛ الذى صدر فى طبعة عربية فى إبريل الماضى عن سلسلة عالم المعرفة، ترجمة عدنان عباس على. وفى نفس الوقت نعرض لبعض الأوراق النقدية لباحثين معتبرين من داخل صندوق النقد الدولى...
(4)
يشير المؤلف أرنست فولف، إلى أنه «من الناحية الرسمية، تكمن وظيفة الصندوق الأساسية فى العمل على استقرار النظام المالى، وفى مساعدة البلدان المأزومة على تلافى ما تعانيه من مشاكل. غير أن تدخلاته تبدو، فى الواقع، أشبه ما تكون بغزوات جيوش متحاربة. فإنه كان، فى كل تدخلاته، ينتهك سيادة هذه الدولة أو تلك، ويجبرها على تنفيذ إجراءات ترفضها الأغلبية العظمى من المواطنين»،... المحصلة أن سياسات صندوق النقد الدولى، بحسب الكثير من المصادر المعتبرة قد: ’’خلفت وراءها مساحة عريضة من خراب اقتصادى واجتماعى‘‘...
(5)
ويدلل المؤلف على مقولته الرئيسية من خلال دراسة حالات للدول التالية: «تشيلى، والاتحاد السوفيتى، وجنوب أفريقيا، ويوجوسلافيا، والأرجنتين، وإيرلندا، واليونان»، وقبرص. كما يدرس الأحوال الاقتصادية لقارات: أمريكا اللاتينية، وآسيا، وأوروبا، خاصة عقب الأزمات المالية التى قاربت على المائتى أزمة منذ الثمانينيات وحتى 2008 الأزمة النيوليبرالية المالية الأكبر، وتداعياتها. ودور صندوق النقد فى تأجيج هذه الأزمات... بالإضافة إلى معالجته لعدد من القضايا ووضعها موضع التحليل والتقييم العلمى مثل: «برامج التكيف الهيكلى»، والآليات التى يستخدمها الصندوق فى تفعيل سياساته، والعلاقة بين العولمة والرأسمالية المالية وموقع الصندوق فى هذه العلاقة،... إلخ. وأخيرا الحصاد التاريخى لصندوق النقد الدولى الذى يمكن وصفه بـ«بالبائس»...
(6)
يختم المؤلف مقدمته بعدد من الأسئلة منها: «كيف كان هذا»؟ وبأى وجه يحق لمؤسسة أن تتسبب فى تعريض بنى البشر لمصائب لا توصف، ورزايا لا نهاية لها، أن تواصل نشاطها بلا عقوبة، وأن تحظى، مستقبلا أيضا، بمساندة القوى صاحبة السلطان فى زمننا الراهن؟ ولمصلحة من، يا ترى، يعمل صندوق النقد الدولى؟ ومن الطرف المستفيد من إجراءاته؟... نجيب لاحقا... ونواصل...