الإبداع الحقيقى يمس القلب والعقل دون استئذان. والتجربة الإبداعية متى كانت ثرية وحية تكون مصدرا للإلهام والتأمل، وبث الروح الإيجابية، والحث على الفعل البناء من أجل تغيير الواقع بالرغم من كل شروره المعيقة والجالبة لليأس.
فى هذا السياق، وقع فى يدى «مختارات شعرية بعنوان: براعم الأمل»، للشاعر الصينى «وانج جوه جن» (1956ـ 2015)، الذى أطلق عليه لقب: «أمير شعر العصر». وهى المختارات التى ترجمتها- عن الصينية مباشرة- مى عاشور، وصدرت فى سلسلة كتاب الدوحة هذا الشهر.. وقد كانت الأشعار مفاجأة لى. الأمر الذى جعلنى لا أترك الكتاب إلا بعد أن أنهيت قراءته فى ساعات.. فالأشعار بسيطة وعميقة فى آن واحد. لا تجد كلمة زائدة عن الحد.. جمال الأشعار يكمن فى قدرة الشاعر على إبداع صور شعرية مكثفة بديعة دون أن تكون منبتة الصلة بالواقع وبحياة المتلقين.. المتلقون الذين تمسسهم حالة وجدانية وذهنية مركبة، تتكون عناصرها من: الفرحة، والأمل، والقدرة على التغيير، والإنسانية... إلخ.
(2)
الحياة جميلة
عنوان قصيدته الأولى، وأظنها تعكس رؤيته لها.. يقول:
اجعل الشعور يُضيئ روحك/ والموسيقى تسرى فى خلاياك/ والزهور تتفتح أمام عينيك/ شُم رائحة الربيع، فالحياة جميلة.
أترك القلق يذبل فى الخريف / واجعل الغم يتبدد كالغبار/ والشعور بالنقص يتناثر كأوراق الشجر / استمع إلى زقزقة مئات العصافير/ فالحياة جميلة.
أحبك، ولا أحتاج إلى أسباب
وفى قصيدته الثانية يتجاوز علاقة الحب النمطية وأشعار الهجر والعتاب والتصيد.. فيقول:
أحبك، ولا أحتاج إلى أسباب سوى أنه/ حين أتت العاصفة الثلجية/ لم تغادرى/ وجودنا معا فى الشتاء/ هو احتفاء بالربيع/ أحيانا تكون الرحلة الشاقة بلا طريق/ وذلك يوضح لنا أن الحياة تحتاج إلى بداية جديدة.
أحيانا يكون النجاح بسيطا جدا
وفى هذه القصيدة يعدد إمكانيات النجاح بالآتى:
حين يضل الآخرون الطريق/ وعندما ينسحب الآخرون من منتصف الطريق/ وعندما يهول الآخرون الأمور/ وحينما ينغمس الآخرون فى الإعجاب بذواتهم/.. ولكنك لا تفعل!.
(3)
استطاع شاعرنا الصينى أن يصبح أسطورة الشعر الصينى المعاصر. وتعد أشعاره بحسب- المترجمة- الأكثر قراءة وتأثيرا فى الشباب. كما أن معظم شباب المدارس والجامعات، فى الوقت الراهن، يحفظون أشعاره عن ظهر قلب.. ونقرأ:
الحياة اللامعة لا تشيخ بسهولة
المشاعر المتغيرة/ كمأدبة ليلية صيفية سابقة/ قد تغير مذاقها/ وكذلك شكلها لم يعد جميلا!/ ما دمت قد استعددت لسكبها/ فلماذا يقودك الحنين إليها؟/ قَدِرِ الحياة/ واجتهد لتحيا بارقا كالنجوم/ الحياة اللامعة لا تشيخ بسهولة/ فهى، دائما، فى غاية البهاء/ مشرقة عاما بعد عام...
طالما ما يزال هناك غد.
بنفس الروحية يواصل الشاعر بقوله:
طالما ما يزال هناك ربيع/ فلن أحزن/ ستعود الشمس لتشرق من جديد/ ولو ابتلع الليل الحالك كل شىء/ طالما ما تزال هناك الحياة/ فلن أحزن/ حتى لو غُصتُ فى الصحراء الشاسعة/ فما زال هناك أمل لوجود واحة خضراء/ طالما ما يزال هناك غد/ فلن أحزن/ فسيذوب جليد الشتاء، رويدا، رويدا، فى النهاية/ وسيأتى رعد الربيع تباعا.
(4)
يستمر الشاعر على نفس النهج فى زرع براعم الأمل فى نفوس وعقول محبيه.. فيقول فى:
براعم الأمل
... لكن البراعم الممتلئة بالأمل/ حتما، قادرة على إيجاد تربة، لتنمو عليها... كما يقول فى:
دع الأمنيات تُحلق
... فبغض النظر عن تفتح الأزهار وتساقطها/ دع الأمنيات تُحلق... ويقول فى:
ذاكرة شابة إلى الأبد
لأنك ترافقينى فى طريقى/ حفظت المناظر المجهولة لهذا المكان/ عشقت كل غدير/ ونسمة خضراء تداعب الروح هنا/... قد تشيخ الحياة، لكن تبقى الذاكرة شابة، إلى الأبد.
(5)
«براعم الأمل» ديوان ينطبق عليه ما جاء فى فن الشعر لهوراس، «شعر يعبر بصدق عن الشاعر، ويصدقه القارئ، لأنه يتوقعه من الشاعر».. كما أنه عن الواقع وعن الناس ومواطن القوة والضعف فيهم.. شعر «لا غلظة فيه»، بل رقة ونعومة وأمل.. ونواصل.