يعد مارتن لوثر كينج أحد صناع التاريخ الحديث والمعاصر. فلقد استطاع عبر حياته القصيرة (1929 ــ 1968) أن يواجه ثقافة نخبة بيضاء عنصرية فرضت وضعا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا قاسيا ومؤلما على حياة السود فى الولايات المتحدة الامريكية منذ 1878 غداة الحرب الأهلية.
حياة كانت أعلى قليلا من مرتبة العبودية لكن أدنى من المواطنية التامة بمراحل. وتمثل هذا الوضع الاقتصادى والاجتماعى فى منع السود من ركوب المواصلات التى يركبها البيض فكان الأطفال وكبار السن يسيرون لمسافات طويلة، ومنع الاختلاط بالبيض فى الأماكن العامة أو ما عرف بالفصل العنصري، وكان أصحاب العقارات ووكلاؤهم يمتنعون عن التأجير او بيع الوحدات السكانية فى الأحياء التى سبقهم إليها البيض. كما كان يلفظهم سوق العمل. وكانت كثير من الجامعات والمدارس تحرم السود من الالتحاق بصفوفها. كما كانوا محرومين من المشاركة السياسية والتصويت الانتخابي.
والنتيجة أن تجمعوا فى الأحياء الفقيرة المتداعية المرافق والخدمات العامة. ما أدى إلى وقوع الكثيرين فى أسر المخدرات وممارسة الأعمال غير القانونية. ولكن هناك من تمردوا على كل الأوضاع الجائرة وأصروا على الحصول على حقوقهم كمواطنين بداية من مطلع القرن العشرين فيما عرف بالرابطة السوداء التى كانت باكورة لمجموعة من الحركات المدنية التى تشكلت تباعا للدفاع عن حقوقهم. إنها قصة السود فى أمريكا التى عبر عنها الشاعر لانجستون هيوز (1902 ـ 1967) بكلمات واضحة ومؤثرة فى قصيدته «تحذير» بما يلي:
«الزنوج، وديعون متواضعون لطفاء،
احذروا اليوم الذى يعدلون فيه عن رأيهم.
الريح فى حقول القطن: نسيم رقيق،
احذروا الساعة التى تجتث فيها الشجر».
ويقول هوارد زِن المؤرخ الأمريكى الكبير مؤلف المرجع العمدة، تاريخ شعب الولايات المتحدة الأمريكية « ــ 2003 فى الفصل الـ17 المعنون» بـ «هل لابد من الانفجار؟»، كيف «لم ينس السود ذكريات الفصل العرقى والقتل خارج القانون والتمييز العنصرى والإذلال والخزى وإلحاق العار» الذى تعرضوا له على مدى زمنى ممتد...وكيف ثاروا عليها مع نهاية الخمسينيات بإيقاظ «روح الشعب الأسود»، بحسب العالم والسياسى الأمريكى والإفريقى وليم بورجهارت ديُبوس (1868 ــ 1963) والتى تجلت فى ابداع فنى وأدبى جسدته فرق الجاز والبلوز الأمريكية والشعراء والأدباء السود.
فى هذا السياق، تعددت التنظيمات المدنية المطالبة بالمساواة والتصدى لكل أشكال التمييز وتراوحت بين العنف والسلمية خاصة فى بداية انطلاقها مع نهاية الخمسينيات. ولكن بمرور الوقت وبفضل مارتن لوثر كينج اعتمدت المواجهة على المقاومة السلمية والمطالبة بالمساواة بين السود والبيض. فلقد كان على يقين بأن القوة الكامنة فى الجماهير المنظمة اجتماعيا أعظم من قوة الأسلحة التى يحملها عدد من الرجال اليائسين.. وكان «غاندي» ملهما لكثير من مواقفه.
ولم يقصر دعوته على الدفاع عن السود فقط بل عن كل من يعانى «الشر المركب»: القهر الاقتصادي، والتمييز، والإقصاء؛ من الأمريكيين السود والبيض على السواء. ونجح أن يكون ضميرا حيا للأمريكيين وأن يعبر عن موقفهم الرافض للحرب الفيتنامية وللتسلح النووى واعتبارهما الإثم الأشد سوءا من جميع الشرور، والذى سوف يُلحق بأمريكا ضررا شديدا لن يستثنى أحدا. فالإسراف فى نفقات الحرب والتسليح سوف يتسبب فى إفقار أمريكا. وتساءل : هل تعد الحرب والدمار من الأولويات؟ أم أن الحياة والتنمية هما ما يجب أن نوليهما بالعناية والاهتمام...
من هنا اكتسب الرجل مكانة تجاوزت جماعته... ذلك لأنه لم يعد داعية لحقوق جماعة إثنية ــ فقط ــ بل لوطن كامل بكل مكوناته...
نعم لم يستطع السود أن يحققوا فوزا حاسما ونهائيا لكن تمكنوا من خلال الحلم بحياة أفضل أن يحققوا انتصارات مرحلية بدأت بقرارات إلغاء التمييز فى 150 مدينة. كما أُقر قانون حق الاقتراع للسود فى عام1965. وكان ذروة هذه الانتصارات وصول أوباما إلى سدة الرئاسة فى 2008 لدورتين. وبالرغم من تجدد العنف حيالهم ممن وصفناهم ــ مرة ــ «بجماعات الكراهية البيضاء»، خاصة فى السنتين الأخيرتين، إلا أن الحلم بمجتمع العدالة والمساواة والكرامة هو ما يجب العمل عليه وجعل الأحلام حقائق.
ولاشك أن الخطاب التاريخى الأشهر لكينج «لدى حلم» يمثل دستورا حاكما لحركة السود التاريخية. فمن كلماته:«دعونا لا نسعى إلى إطفاء عطشنا للحرية بالشرب من كوب المرارة والكراهية. علينا دائما أن نشن كفاحنا على المستوى الرفيع للكرامة والانضباط. لا يجوز أن نسمح بتدنى احتجاجنا الخلقى إلى عنف جسدي...ولدى حلم أن يعيش أولادنا يوما فى أمة لا يحكم عليهم فيها بناء على لون بشرتهم بل بمضمون خُلقهم...
صحيح أن دعوته السلمية الوطنية قد ووجهت باغتياله فى مدينة ممفيس بولاية تنيسى فى ابريل من سنة 1968. إلا أن نضاله وأفكاره مثلت أساسا صلبا للتحولات التى شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية منذ الستينيات وإلى الآن فى المجالات: التشريعية، والسياسية، والاجتماعية... وأنه لم يزل ــ وحلمه ــ حاضرا بقوة فى الوعى الإنسانى الأمريكى والعالمى «أملا» فى انتصار نهائى وحاسم على الكراهية والتمييز...