بدأت معرفتى بالمرحلة العثمانية فى تاريخ مصر والمصريين ـ نهاية الثمانينيات ـ بعبارة وردت فى الكتاب العمدة: «الأقباط والقومية العربية»(1989)؛ الذى كتبه أستاذنا المفكر والسياسى الكبير أبو سيف يوسف. نصها: «أن مصر لم تعرف نظام الطوائف كما عرفته منطقة الشام وجبل لبنان...».
وهو النظام الذى يعيد تصنيف مكونات المجتمع وفق الانتماء الدينى والمذهبي. ومن ثم تصبح الدولة تتكون من مجتمع يتكون من جماعات دينية ومذهبية مغلقة.(وإن كان قد عرف كتقسيم مهنى وحرفى وتجارى تم تجاوزه فى1890). وقد كانت الفكرة تصب فيما كان يجتهد فيه استاذنا الدكتور وليم سليمان قلادة فى التأكيد على أن هناك حاجزا مانعا تفرضه السلطة الوافدة/المُستعمرة بينها وبين المحكومين من المصريين (راجع «قصة المواطنة المصرية»).
وفتحت لى هذه الأفكار آفاقا حول هذه المرحلة يختلف عما هو شائع عن الدولة العثمانية لذا عندما شرعت وحدة البحوث بمجلس كنائس الشرق الوسط فى منتصف التسعينيات البدء فى مشروع بحثى كبير لإصدار مجلد مرجعى ضخم عنوانه: «المسيحية عبر تاريخها فى المشرق» (صدر عام 2000 فى 1000 صفحة)؛ أصر كاتب هذه السطور بحضور وليم سليمان قلادة، أثناء النقاشات التمهيدية لوضع منهجية وبنية بحوث المجلد، على أمرين هما: أولا: أن مسار المسيحية فى مصر والأقباط لهم مسار حياتى واجتماعى مختلف عن المسار المشرقى بدرجة أو أخرى. ثانيا: أن الإدارة السياسية للحكام الوافدين فى مصر مغايرة عن ما جرى فى أماكن أخرى فى المنطقة.
لذا جاءت المساهمات المصرية حول الأقباط وحركتهم المجتمعية تعبر عن المنهجية السابقة وذلك كما يلي: أولا: الأقباط فى العصر الفاطمى وأنجزتها وحدة المواطنة بالمركز القبطى للدراسات الاجتماعية بقلم الدكتور حنا جريس والدكتورة فيفيان فؤاد. ثانيا: الأقباط فى العصر العثمانى لكاتب هذه السطور. ثالثا: أصول مبدأ المواطنة فى تراث القبط وتاريخ بلادهم لوليم سليمان قلادة. وظنى أن هذه الدراسات قد مثلت خطا فكريا يوضح الكيفية التى تعاطى فيها ــ ليس الأقباط وحدهم ــ وإنما المصريون مع أنظمة الحكم الوافدة/المُحتلة/المُستعمرة وخاصة «العثمانيين» ومقاومتهم بشتى الطرق... لماذا؟
يرجع ذلك إلى سببين هما: الأول: القهر الاجتماعى والاقتصادى. وحول ذلك يقول عزيز سوريال عطية فى كتابه المسيحية الشرقية: إن مصر فى ظل العثمانيين قد أصبحت «فريسة للسلب والنهب من قبل سلطة الحكم الثلاثية: العثمانيون والأوجاقات والمماليك». المصريون على اختلافهم كانوا عرضة للنهب: المسلمون والمسيحيون. وفق مبدأ أو قول تداوله المؤرخون نصه: «احلب الدر حتى ينقطع واحلب الدم حتى ينصرم. ما وضع المصريون فى حالة اقتصادية مؤلمة. ما دفع إلى تبلور تطلعات قوى اجتماعية مصرية، تضم علماء وتجارا وحرفيين وعاملين فى دواوين الدولة، ومن ضمنهم القبط، للاستقلال».
أما السبب الثانى فيتعلق: بسلوك الطغمة الحاكمة «العثمانية» (والمملوكية من الباطن) «كأثنية» حاكمة ترفض التمصير أو الاندماج. فعاشوا عمرا فى مصر مترفعين على «المصريين».
مما سبق، ولدت إرهاصات الوعى القومى المصرى بضرورة الاستقلال عن الباب العالي. وهو ما تلقفه محمد على وسار فيه بالرغم من التبعية القانونية للدولة العثمانية وذلك ببناء بنية دولته: عسكرية، وإدارية، وقانونية، وسياسية داخلية وإقليمية، وثقافية، ومدنية مصرية مستقلة. وهو ما تؤيده مدرسة تاريخية وطنية مصرية من رموزها: محمد أنيس، وأحمد عبد الرحيم مصطفي، ورؤوف عباس، ومحمد عفيفي،...ولا أبالغ إذا قلت من واقع دراستنا اللاحقة كيف أن الدولة العثمانية قد فتحت الباب للغرب الاستعمارى عن طريق ما يعرف «بالامتيازات الأجنبية» مبكرا جدا، وتحديدا فى سنة 1535 وذلك لفرنسا أى بعد أقل من عشرين سنة من تأسيسها. (وتوالت الامتيازات كما يلي: 1579 لإنجلترا، هولندا 1598، وروسيا 1700، والسويد 1737، ...، إلخ). ويتفق جميع المؤرخين على أن الامتيازات الأجنبية كانت بداية النهاية للدولة العثمانية لما مثلته من: «استعباد مالي»(بحسب لوتسكي)واختراق لشئون المنطقة وإثارة لمسألة الأقليات حيث كل دولة أوروبية بحثت لها عن طائفة كى ترعاها فى الداخل فيما يمكن أن نطلق عليه نظام: «الرعاية المذهبية». وهو أمر لم يستطع الدفاع عنه أشد من كانوا متحمسين للدولة العثمانية.
والأهم هو التواطؤ بين الباب العالى الذى تعددت هزائمه ومعاهداته الاستسلامية ــ والأجانب ضد الولايات التابعة لها خاصة مصر. فلقد كان المسار المستقل البازغ قبل وبعد محمد على وعدم قدرة الأجانب على احتواء الأقباط سببا مباشرا لحصار مصر وطموحاتها الوطنية.
وبعد، أتصور أن هناك ضرورة لإعادة النظر أولا: فى قراءتنا للتاريخ بحيث لا تكون دينية، أو عاطفية أو تحت تأثير رؤية سياسية. ثانيا: إدراك حجم الصراع الذى واجهه المصريون لمقاومة الباب العالى ومؤامراته مع الغرب ضد مصر. ثالثا: عدم الاحتفاء بالحكام الوافدين أو برموز سلطة الاحتلال الذين عانينا منهم ليس فقط فى مناهجنا التاريخية أو تسمية مدارسنا وشوارعنا بأسمائهم.
إن تقدم الشعوب يبدأ بإدراك هويتها وإبراز مكامن ورموز النجاح فيها والاحتفاء بها وليس بالاحتفاء بقامعى نضالاتها مثل أغسطس قيصر ودقلديانوس والمأمون وسليم الأول.....