ما إن نشر مقال الأسبوع الماضى حول المرشح الرئاسى بيرنى ساندرز وعن كتابه «ثورتنا ومستقبلنا الذى نؤمن به» (2017) والذى أشرت فيه إلى ميلاد يسار جديد. حتى ناقشنى أكثر من صديق وقارئ حول وضعية اليسار الأمريكي.
بداية، تعود الباحث والمحلل السياسى للشأن الأمريكى فى بلادنا ــ أن يختزله فى إدارتها السياسية...والأخطر، أن تعاقب الإدارات السياسية لا يحمل إلا اختلافات طفيفة لا تتجاوز الاختلافات الشخصية بين من انتخبوا لقيادة هذه الإدارات...وكأن هؤلاء القادة وهذه الإدارات تعمل بمعزل عن المجتمع... وكأن المجتمع الأمريكى ــ نفسه ــ يتسم بالسكون لا يتغير...
نعم، اتسمت نشأة المجتمع الأمريكى بملامح خاصة منها:
أولا: أنه مجتمع تم اكتشافه من قبل الوافدين إليه من أوروبا الذين تصارعوا معا حول ثروات أرض الأحلام/ الموعد.
ثانيا: غلبة التشدد الدينى على قطاع من الوافدين الذين عرفوا «بالطهريين» (البيوريتانيون).
وثالثا: تأخر تشكل وانتظام الجسم الاجتماعى الأمريكى لفترة زمنية. ومن ثم صُبغت الصراعات المجتمعية ـ لعقود ـ بطابع: جهوي: شمال وجنوب، تارة، وديني: بين مسيحيين أنقياء ومسيحيين أقل نقاءً، تارة أخري، وبين مواطنين أصليين(الهنود الحمر) ومتوطنين مغامرين وباحثين عن الذهب (الثروة) تارة ثالثة. ما آخر تبلور الصراعات فى طابعها الطبقي/ الاقتصادى بشكل واضح. (راجع كتابنا: أمريكا: ثلاثية الثروة والدين والقوة).
لذا عندما كانت بعض المراجع تريد أن تصف التنوع الأمريكى كانت تعتمد تصنيفا فكريا ثقافيا لا طبقيا سوسويولوجيا. وعليه يكون تصنيف المجتمع الأمريكى كما يلي: أولا: الليبراليون فى منتصف الخريطة الفكرية، وعن يمينها المحافظون وعن يسارها الراديكاليون«. أخذا فى الاعتبار أن معنى المفردة له خصوصية أمريكية لا تتطابق مع دلالتها الأوروبية. فالراديكالية الأوروبية تعنى ما هو أكثر مما تعنيه فى أمريكا بكثير. فتعنى الراديكالية الأمريكية هؤلاء ممن انخرطوا فى حركات البيئة وحقوق المرأة ومناهضة التمييز،...،إلخ. وتاريخيا احتل الليبراليون قلب الخريطة الفكرية وكانوا يمثلون التيار الرئيسى لاتجاهات الفكر الأمريكي.
ولكن مع الأزمة الاقتصادية الرأسمالية، الأكبر، التى واجهتها الولايات المتحدة الأمريكية، والعالم الغربي، فى ثلاثينيات القرن الماضي، برزت المسألة الاقتصادية الاجتماعية بوضوح. وأن هناك طبقات وشرائح اجتماعية «تئن» كلما اتجهنا نحو قاعدة الجسم الاجتماعي. فقادة الصناعة تحولوا من مجرد كادحين لجمع المال إلى طبقة نافذة احتكارية، وبات الجيل الجديد من العائلات الثرية المرتبطة بشركات صناعية ومالية سعت إلى إخضاع مصير بلدهم لمشيئة طبقتهم». (راجع نفوذ الثروات الطائلة فى أمريكا، الدراسة الخامسة من كتاب: RulingAmerica؛ إصدار 2005) ...ما أدى بأمريكا أن تكون دولة «رأسمالية احتكارية»، وهى مرحلة عليا من تطور الرأسمالية تتميز بعدة سمات (بحسب رمزى زكي) منها: أولا: تعاظم درجة الاحتكارية وتمركز رأس المال. وثانيا: امتزاج قوة وسلطة رأس المال الاحتكارى مع قوة وسلطة جهاز الدولة فى كيان واحد يسيطر على جميع مناحى الحياة فى المجتمع. وهو الأمر الذى أدى «بتعالى الأنين»، ودفع فرانلكين روزفلت (رئيس أمريكا من 1933-1945)؛ بتطبيق السياسة ذات البعد الاجتماعى الشهيرة بسياسة «الصفقة الجديدة» New Deal؛ حيث أيدها العمال والمنظمات المدنية وملايين من المزارعين و موظفى الحكومة وجميع الجماعات العرقية لما منحته إياهم من ضمانات اجتماعية غير مسبوقة.
أنعشت هذه السياسات التيارات الليبرالية واليسارية. ونشط الحزب الشيوعى بشكل كبير ووصلت عضويته إلى ما يقرب من 100ألف عضو فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين (بحسب موسوعة اليسار الأمريكي). وقد تبنى قضايا العمال. كذلك تصدى للكثير من الإشكاليات المجتمعية ــ آنذاك ــ مثل: قضية الإسكان فى نيويورك.
وفى المقابل أنعشت نتيجة الحرب العالمية الثانية الرأسمالية الاحتكارية الأمريكية ما دفعها للانقلاب على سياسة الصفقة الجديدة الاجتماعية التى وصفتها «بالسياسة الحمراء» (الشيوعية). وتشير الأرقام إلى الأرباح التى جنتها الشركات الكبرى من الحرب حيث زادت أرباحها من ما يقرب 7مليارات دولار فى سنة 1940 إلى ما يقارب 15 مليار دولار مع نهاية الحرب. واستطاعت هذه الأرباح أن تحل مشكلة السيطرة على الناس، الأمر الذى أسعد رجال المال بالحرب لأنها أوقفت الاستمرار فى برامج الدعم الاجتماعي.
ما جعل رجال المال يشجعون ما عرف «باقتصاد الحرب الدائمة». جددت الحرب أمريكا الرأسمالية الاحتكارية وهيمنتها على الجسم الاجتماعى التى تحول دون إجراء أى توزيع راديكالى للثروة وللقوة. كذلك عدم تكرار الاحتجاج مثلما حدث فى أزمة الثلاثينيات. ورفعت سلاح «المكارثية» ضد من يشتبه فى «يساريتهم» من سياسيين ومبدعين وعمال ومواطنين فى العموم. (راجع المؤرخ الكبير هوارد زين فى كتابه «تاريخ شعب الولايات المتحدة الأمريكية» طبعة 1999) ...
ولكن لم تلبث أن جاءت الستينيات حتى تبين أن هناك أوضاعا مجتمعية حادة. ما أطلق حركة الحقوق المدنية بتجلياتها...وجاءت أزمة 2008 المالية وصعود أوباما ابن حركة الستينيات المدنية لتطرح ما عرف «بسياسة الصفقة الجديدة» : الجديدة التى كانت تعبيرا عن حدة ما طرأ فى المجتمع من تناقضات اجتماعية. وأطلق موجة جديدة لليسار الأمريكى تمثلت فى «ساندرز» وكتلته الشبابية، وشكل العديد من الحركات سنلقى الضوء عليها لأنها تعكس ما يجرى فى الداخل الأمريكي...نتابع...