«اللامساواة المتنامية بين المواطنين تهدد بهزيمة العقد الاجتماعى والسياسى التاريخى حول حلم الرخاء الأمريكى للجميع»...هذه العبارة هى خلاصة دراسة بعنوان: «اللامساواة والانحدار الأمريكي: العقد «المهزوم» Inequality & American Decline: The Broken Contract»؛ والتى نشرت فى دورية فورين أفيرز الشهيرة(نوفمبر/ديسمبر 2011). وظنى من متابعتى للشأن الأمريكي، منذ منتصف التسعينيات، أنها تعد من الدراسات الرائدة. ذلك لأنها اتسمت بأمرين هما:
أولا: المعالجة غير التقليدية لأحوال المجتمع الأمريكي. حيث تبنت خطابا اقتصاديا اجتماعيا يقترب من رصد التحولات التى أصابت البنية المجتمعية الأمريكية.
ثانيا: أن تنشرها دورية محافظة تاريخيا يعنى أن الأمر جلل وجد خطير. ما دفع كوكبة من الباحثين الأمريكيين ان ينحوا نفس النحو مثل فوكوياما الذى وصفناه «بكاتب النهايات» حيث تراجع عن كتابه «نهاية التاريخ» من خلال دراسة مهمة ــ أشرنا لها فى حينها ــ عنوانها «نهاية الريجانية». كما دفع كثيرا من الاقتصاديين ممن كانوا منحازين لإجماع واشنطن وسياسات النيوليبرالية الجديدة إلى انتقادها نقدا شديدا مثل: ستيجليتز، وكروجمان،...، إلخ... ولابد أن نشير هنا إلى أهمية الدور الذى لعبه أوباما من خلال انحيازاته الاجتماعية للطبقة الوسطى وللفقراء فى دعم التيار النقدي.
وقد أخذ هذا التيار النقدى فى التبلور خارج الحزبين الكبيرين فى أمريكا سواء الديمقراطى أو الجمهوري. أخذا فى الاعتبار أنه لا يصح مقارنة الحياة الحزبية فى أمريكا بمثيلتها فى الغرب الأوروبي. ذلك لأن الحزب فى أوروبا ــ أى حزب ــ يعبر عن تجمع طبقى اجتماعى واقتصادى محدد. ويعتمد الحزب الأوروبى فى المنافسة الانتخابية على القاعدة الاجتماعية التى يمثلها...
بينما الحزب الأمريكى نجده يضم فئات وشرائح اجتماعية متنوعة. لذا لا نجد ــ عمليا ــ فروقات كبيرة بين الحزبين الرئيسيين فى الولايات المتحدة الأمريكية: الجمهورى والديمقراطي، إلا فى التفاصيل. وعليه لا يعتمد المرشحون فى نجاحهم بالأساس على أعضاء الحزب...وفى دراسة لنا حول الكتل التصويتية الدينية فى أمريكا أثبتنا فيها أن: «مركز الثقل ــ واقعيا ـ لتأييد هذا الحزب أو ذاك» فى أمريكا ــ ليس للأعضاء المنتمين إليه، فقط، وإنما الكتل التصويتية التى يلتمس المرشح أصواتها. ومن ثم إطلاق وعود «خاصة» بتحقيق مطالبها «الكتلوية». لذا لا تعتبر جماعة الناخبين ــ فى الواقع ــ حزبية. وإنما جماعات مصالح وكتل نوعية.
لذا فإن نمو التيار النقدى ذى الطابع الاجتماعى خارج الحزبين الكبيرين إنما يعد تحولا تاريخيا فى الحياة السياسية الامريكية بكل المعايير، فلقد أعاد توجيه شرائح من المجتمع للانتظام السياسى بتصلب وقوة ــ على أساس طبقى واجتماعي. بالطبع ليس بالتعقيد الأوروبي، ولكن هناك إرهاصة واضحة يرصدها أحد الباحثين تتمثل فى تجليين لهذا التيار النقدى أحدهما يسارى والأخر يميني. ويمكن اعتبار المعركة الانتخابية الرئاسية التى خاضها «ترامب وساندرز» تجسيدا لهذا التحول التاريخي. وبأن هناك تنافسية سياسية جديدة قيد التشكل خارج ما دأبت عليه الولايات المتحدة الأمريكية على مدى تاريخها.
ولأن ترامب بما مثله من تيار نقدى يمينى قد حظى بالكثير من التحليلات فإننا سوف نلقى الضوء على ما طرحه ساندرز وعبر عنه فى كتابه الأكثر مبيعا «ثورتنا: مستقبل نعتقد ونثق فيه» (ما يقرب من 500 صفحة ــ 2017), لأن النص يعد من أهم النصوص التى كتبت فى اتجاه بلورة أفكار اجتماعية تقدمية ــ نسبيا بالنسبة للخطاب السياسى الأمريكى التقليدى تقوم على ما يلي:
أولا: الانحياز الحاسم للفقراء. ثانيا: تقديم رؤية لتقدم المجتمع تكاملية الأبعاد. ثالثا: التحديد الواضح للخصوم، (من قوى اجتماعية، وكيانات مالية)، الذين يعيقون التقدم أو يسعون نحو تعميق اللامساواة وتغييب العدالة. رابعا: السعى وفق العلم والفاعلية التشريعية إلى حل المسألة الاجتماعية التى تتفاقم حدتها، يوما بعد يوم، بشكل جذري. خامسا: تجديد حلم الرخاء الأمريكى على قاعدة العدالة بين الجميع على اختلاف اللون والجنس والطبقة، والعرق، والدين، والجيل،... كذلك اختلاف الجهة: الشمال، والجنوب،...، إلخ. سادسا: تحقيق ثورة سياسية فى المجتمع الأمريكى بدأت بالفعل منذ الحملة الانتخابية.
حيث تشكلت حول هذه الأفكار، فى الآونة الأخيرة، حركات كثيرة تعبر عن التيار النقدى اليسارى باتت فاعلة ومتنوعة ويظاهرها حركة حريات مدنية متجددة. منها ما هو عُنفى ومنها ما هو لا عُنفي. ويُفصل ساندرز عناصر الرؤية السابقة من خلال «أجندة» عمل تتكون من عشرة عناصر هي: أولا: هزيمة الأوليجاركية أو الطبقة المالية الحاكمة وإنهاء سيطرتها على الحياة الديمقراطية...ثانيا: مقاومة انحدار الطبقة الوسطى الأمريكية...ثالثا: انهاء الاقتصاد الزائف الذى يبقى الثرى ثريا والفقير فقيرا.
فالاقتصاد الحقيقى يقيم الفقير من فقره...رابعا: الرعاية الصحية للجميع...خامسا: التعليم العالى للجميع...سادسا: مواجهة التغيرات المناخية المدمرة للبيئة والمهددة للمواطنين...سابعا: إصلاح منظومة العدالة الجنائية...ثامنا: إصلاح القوانين واللوائح المنظمة للهجرة إلى أمريكا...تاسعا: حق الأكثر هشاشة وتهميشا بالحماية الاجتماعية فى الولايات المتحدة الامريكية...عاشرا: كشف دور الإعلام الذى يقوم بالتخديم على أصحاب الثروة وإلى أى مدى تهدد قيمه وأفكاره الديمقراطية الأمريكية...إنها لحظة تاريخية جديرة بالمتابعة المتأنية...