«على مدى سنة(رئاسية)، شهد العالم ما ندركه جيدا، بأن الشعب الأمريكى بات أكثر أمنا وجرأة أكثر من أى شعب آخر. فإذا ما كان هناك جبل: نتسلقه. ولو هناك حدود: نعبرها. ولو هناك تحد: نروضه. ولو هناك فرصة: نقبض عليها.. ».
بهذه الكلمات بدأ دونالد ترامب ما يُعرف بخطاب حال الاتحاد الأسبوع الماضي. وهو الخطاب الذى يلقيه الرئيس الأمريكى المنتخب ــ بحسب القسم الثالث من المادة الثانية من الدستور الأمريكى أمام الاجتماع المشترك بين مجلسى الكونجرس: النواب والشيوخ(نهاية يناير أو بداية فبراير من كل عام خلال الدورة الرئاسية باستثناء السنة الرئاسية الأولي). وذلك ليقدم لأعضاء الكونجرس تقريرا وافيا عن أحوال الولايات المتحدة الأمريكية (حال الاتحاد الأمريكي)، ورؤيته، والسياسات التى اُتخذت فى العام المنصرم والواجبة التنفيذ فى مستقبل الأيام. ومن ثم تلقى الدعم الملائم من قبل أعضاء الكونجرس والمتمثل فى إصدار التشريعات وإقرار الميزانيات... ما الجديد الذى جاء فى هذا الخطاب؟
أجمع المحللون على بؤس هذا الخطاب. فبالرغم من الكلمات الأدبية التى وردت فى سطور الخطاب. فإنها فى الواقع لا تتماشى مع سياساته التى تدفع إلى حال اتحاد مغاير: حرج وخطير. القارئ لنص الخطاب يمكنه أن يرصد ستة ملامح تعبر عن حراجة وخطورة هذا الحال كما يلي:
أولا: الانقسام؛ يعكس خطاب الاتحاد الأمريكى حدة الانقسام فى المجتمع الأمريكى على جميع الأصعدة. ما يحول، دون شك، أن تكون أمريكا قوية كما يريد ترامب، بحق بحسب ما ورد فى خطابه. لذا تكررت أكثر من مرة عبارات تتعلق بضرورة وضع الاختلافات جانبا. . set aside our differences. والمفارقة أن دعوته تتناقض مع سياساته ومعتقداته التى تنحاز إلى العرق البيض, وهو ما تأكد فى أكثر من موقف ما يفاقم الانقسام الثقافى (يمكن الإحالة إلى خطابه معلقا على أحداث «تشارلوتسفيل» ودعمه لما أطلقنا عليه جماعات الغضب والكراهية البيضاء). كذلك تؤدى سياساته الاقتصادية والاجتماعية إلى اختلالات حادة بين الأغنياء والأثرياء ما يوسع فجوة الانقسام الاقتصادى والطبقي. ونشير هنا إلى دأبه على إلغاء قانون التأمين الصحى الذى أقره الكونجرس وقت ادارة اوباما وقد صدر وفق مفهوم اجتماعى شامل. ما يناقض رؤية ترامب التى تميل إلى جعله مجرد برنامج تأمين صحى مدفوع الأجر لمن يستطيع ومن ثم حرمان ما يقرب من 25 مليون مواطن أمريكى من الحق فى تأمين صحى ملائم.
ثانيا: الانغلاق؛ حيث يدعو ترامب إلى غلق الحدود أمام المهاجرين. وهو أمر قد يكون مقبولا ويمكن تفهمه. إلى أن ثنايا الطلب تتضمن تعاملا سلبيا مع المهاجرين المقيمين بالفعل وخاصة الذين لا يحملون أوراق إقامة رسمية. وفى مقابل تجنيسهم يعملون على إقامة سور بين أمريكا والمكسيك. ولا يفوته أن يذكر بأنهم ينافسون العمال الأمريكيين فى قوتهم. ما يثير الكثير ضدهم فى الواقع.
ثالثا: التصعيد النووي؛ من أهم ما ورد بخطاب ترامب عن حال الاتحاد هو اصراره على ضرورة تحديث وإعادة بناء الترسانة النووية الأمريكية لردع أية أعمال عدوانية. وقد أثار هذا الأمر اهتمام كثير من المراقبين. ما دفع مجلة التايم الأمريكية أن تفرد ملفا مهما فى عددها لهذا الأسبوع حول هذه الدعوة والإشارة إلى انها تعود بأمريكا إلى سياسة حافة الهاوية التى اخترعها «جون فوستر دالاس» وزير خارجيتها فى الفترة من 1953إلى 1959 فى مواجهة الاتحاد السوفيتى إبان الحرب الباردة. ما يعنى نزوع الإدارة الحالية إلى تفعيل هذه السياسة فى ابتزاز الآخرين وجرهم لسباق التسلح النووى والتلويح باستخدام الأسلحة النووية لإجبار الخصوم على التفاوض.
رابعا: الانسحاب الأمريكي؛ كان الرؤساء الأمريكيون ــ تاريخيا ــ فى خطاب الاتحاد يستعرضون جهودهم فى تعاطى إداراتهم للأوضاع السياسية فى مناطق العالم المختلفة وموقف الولايات المتحدة الأمريكية منها. إلا إن ما يلفت نظر القارئ هو انسحاب أمريكا من الإدلاء بدلوها حول الكثير من القضايا العالمية العالقة. فلم يشر من قريب أو بعيد للأوضاع فى سوريا أو اليمن وليبيا. كما لوكان قد فوض أمورها لوكلاء ينوبون عنه فى ذلك. وهو ما يتطابق مع ما أشرنا إليه مبكرا عن تطبيق سياسة المناطق الحيوية التى تم ابتكارها وقت بوش الابن. حيث يتم تقسيم العالم إلى مناطق إقليمية حيث تتولى إدارتها بدلا من أمريكا قوة إقليمية أو أكثر بالاشتراك مع قوة أو أكثر كبري. وفى هذا السياق، يمكن اعتبار الشرق الأوسط من هذه المناطق الحيوية التى ترُكت لقوى إقليمية. وفى هذا المقام، نرصد عدم الاهتمام بوضع تصور لحل المسألة الفلسطينية، كذلك تبرير الانسحاب الأمريكى من الشراكة الأوروبية أو الإشارة لأية اتفاقيات مع روسيا...
ويختم ترامب: «الناس هم من سيصنعون عظمة أمريكا مجددا»...لم يشر لنا الخطاب كيف؟ خاصة أنه اتسم بملامح تحول دون ذلك، بل يمكن أن تؤدى إلى الكثير من الإشكاليات. ما يسبب القلق على مستقبل الاتحاد فى زمن ترامب...