قصة «التمدد» الصينى هى قصة نجاح بكل المعايير. فلقد استطاعت الصين خلال سبعين عاما أن تصبح حاضرة فى كل بقعة من بقاع الأرض من خلال تجربة تنموية شاملة تم تطبيقها وفق تصور «عقلانى مرن»؛ بحسب تعبير أحد المراقبين للتجربة الصينية.
قام هذا التصور الصينى الشامل، «العقلانى المرن»؛ على عدة عناصر كما يلي:
أولا: أن يكون تقدمها وصعودها التنموى «آمنا» من أزمات الرأسمالية العالمية المتتالية والدائمة. ومن ثم امتلاك قدرات توجيهية للاقتصاد تُسرع أو تُبطئ من حيويته بحسب الحاجة.
ثانيا: ألا يقع النموذج التنموى الصينى فى أسر التبعية الاقتصادية للغرب. ما يؤدى إلى علاقات غير متوازنة بين الغرب الرأسمالى وبين الصين يكون من نتيجتها أن تظل الصين فى حاجة وعوز.
ثالثا: أن تمتلك الصين نموذجا «تنمويا» قابلا للترويج وللانتشار فى الدول التى تبغى أن تتقدم خارج إطار التبعية للغرب. ويؤكد الصينيون فى هذا المقام حرصهم فى توفير كل ما يلزم لهذه الدول فى إطار شراكة طوعية لا قسرية.
رابعا: ولعل السر فى انضباط هذا التصور منذ الثلث الأول من القرن التاسع عشر وإلى الآن هو إدراك القيادات الصينية المتعاقبة أن حلم التقدم فى الحالة الصينية لابد وأن يتبع القاعدة التالية: «التطابق بين القوة المحسوبة والقوة المدركة والواقع». ما يضمن «قوة الصين المتنامية». ومن ثم سوف نجد وفق القراءة التاريخية أن الصين تقدمت بحسب هذه القاعدة دوما.
وما أن تتخلى عنها يحدث التراجع حتما. تحقق ما سبق مع تجربة التصنيع الحديثة التى أطلقها زياو بينج فى 1820 حيث كان مدركا تماما للقوة الذاتية الصينية وحدودها وكيفية إدارتها. وما أن تخلت الصين عن اتباع هذه القاعدة لأسباب كثيرة تراجعت كليا. لذا أُحتلت وتم السيطرة عليها عسكريا وغرق شعبها فى إدمان الأفيون والفقر. وعليه كانت القاعدة الذهبية حول القوة الصينية حاضرة فى ذهن ماو ومن جاء بعده(ابو الإصلاحات الصينية دينج هسياو بينج، ثم هو جينتاو، وشى جين بينج).
ومن تابع أعمال المؤتمر العام التاسع عشر للحزب الشيوعى الصينى الذى التئم فى أكتوبر الماضى سوف يلحظ بسهولة تأكيد «شى جين بينج» المتكرر على معادلة «القوة» الصينية التى يجب أن تكون «متدرجة» و»متوازنة»، أو بحسب ما اشرنا «متطابقة بين المحسوب والمدرك والواقع» ما يضمن «نموا دائما»، وفق «عقلانية مرنة» ذات العناصر الثلاثة: «الآمنة»، و»المتحررة من التبعية» و»المتمددة فى كل انحاء العالم»...
كما كشف حديث «بينج» على رؤية للمستقبل «صافية» و»واعية» ترسم مستقبلا واضحا للصين لثلاثين عاما قادمة وذلك على مرحلتين كما يلي:
أولا: الفترة من 2020 إلى 2035؛ حيث تسعى الصين إلى أن يكون لها مكان على قمة الاقتصاد العالمي. والاستمرار فى توسيع الشريحة الوسطى من الجسم الاجتماعى الصيني. وسد الاختلالات الاقتصادية ما أمكن.
ثانيا: الفترة من 2020 إلى 2035؛ تخطط الصين لتكون قيادة كونية فاعلة.
فى هذا الإطار أعلن «بينج» إطلاق الصين لمشروع «الحزام والطريق» الذى يربط بين الصين وبين جنوب شرق آسيا وباكستان وآسيا الوسطى ومن ثم الامتداد إلى الشرق الأوسط وأوروبا وافريقيا...إنها عملية «التمدد الصيني» الكونية عبر أكثر من ثلاثين دولة وقد رصدت لهذا المشروع التاريخى أكثر من 4 تريليون دولار...وهو المشروع الذى بدأت الصين تطبيقه. ويلاقى ترحيبا أوروبيا كبيرا. ويؤكد السياسيون الصينيون أن مشروع الحزام والطريق يهدف إلى إيجاد نموذج انسانى للتعاون والمنافع المشتركة لا أن يكون سبيلا للصراعات «...لذا فهى على استعداد أن تقدم خبرتها التنموية لأى دولة على قاعدة الشراكة التنموية الكونية».
والهدف النهائى للصين عمليا هو أن تُسهم الصين فى الاقتصاد العالمى بنسبة تقترب من الـ50%...مقارنة بمساهمة أمريكا الشمالية حيث تصل نسبتها إلى 21%، والاتحاد الأوروبى حيث تبلغ مساهمته 16%...
وفى هذا السياق، نشير إلى أنه ما أن انتهت أعمال المؤتمر المذكور حل ترامب ضيفا على الصين مطلع نوفمبر الماضي. حيث وقع على اتفاقيات اقتصادية تقترب من نصف تريليون دولار فى مجالات: الطيران، والالكترونيات، والسيارات، والطاقة،...،إلخ...كما نشير إلى أن زيارة ماكرون إلى الصين الأسبوع الماضى قد أسفرت عن استثمارات متبادلة قيمتها 3 مليارات يورو(نذكر أن هناك 1600 شركة فرنسية تعمل فى الصين كما أن هناك 1200 شركة صينية تعمل فى فرنسا). هذا ناهيك عن ألمانيا، وروسيا، والهند،...،إلخ...
الخلاصة، نحن أمام نموذج تنموى ذات «خصائص صينية» بحسب ما يتكرر فى الأدبيات الصينية. قد يكون مثار انتقادات من المنظور الماركسي. كما قد يكون محل التباس من قبل الليبراليين. إلا أنه وبحسب الصينيين نحن أمام تجربة بلورة: «اقتصاد مختلط يزاوج بين الانفتاح الاقتصادى وتحرير أسواق المال والاستثمار، مع الاحتفاظ بالاقتصاد المركزى فى توجيه قوى الاقتصاد الكلي»...وهى تجربة جديرة بالنقاش وصفها البعض مؤخرا «بالجبروت الصيني» لتمددها وتوسعها..