عرفت الإنسانية عبر تاريخها، ألوانًا متنوعة من العنف. ويعنى العنف فى أبسط تعريف له «ممارسة إيذاء الآخر»، ويتدرج الإيذاء من اللفظ إلى الفعل المادّي. وبلغة سوسيولوجية تعكس العملية العُنفية «سلوكا إيذائيا قوامه إنكار الآخر كقيمة مماثلة للأنا أو للنحن، وكقيمة تستحق الحياة والاحترام». ويعمد الإيذاء بالترتيب إلي: أولا: خفض الآخر إلى تابع. وإما ثانيا: بنفيه خارج أى ساحة من ساحات التواصل الإنساني. وإما ثالثا: تصفيته معنويا أو جسديا.
ومنذ الصراع الإنسانى الدموى الأول بين ابنيْ آدم، وإلى اللحظة الداعشية المُرشحة للتجدد فى ثوب آخر. لا تتوقف العملية الإيذائية الإنسانية. بل إنها تتنامى وتتضاعف كمًا فى ضوء تعمق الحالة الصراعية الكونية لأسباب عدة. كيفًا بفعل التقنيات الرقمية الحديثة. ما انعكس على كل مراحل العملية العنفية في: «التجنيد، والتنظيم، والإعداد، والتخطيط، والتنفيذ،...،إلخ». بل وجعلها عابرة للحدود.
والنتيجة أن الممارسة العنفية الراهنة قد فاقت من حيث الكم والكيف معدلاتها عبر التاريخ. كما تجاوزت الإيذاء الإقصائى والتدميرى إلى الإبادة. ومن ثم بلوغ البشرية أعلى مراحلها العنفية...أو مرحلة:الإبادة أعلى مراحل العنف... ويمكن القول إن اللحظة الراهنة لحظة ملحمية بامتياز. فبلوغ الراديكالية الإرهابية العُنفية، الدرجة التى نشهدها، وتجددها فى طبعات متجددة: عقائدية، وانفصالية، وسياسية، ودينية/مذهبية،..،إلخ، إنما يعنى أن تظل الحضارة الإنسانية فى تهديد دائم لا فكاك منه...وهو ما حذر منه عالم النفس الأشهر والأهم سيجموند فرويد مبكرا فى كتابه «الحضارة واضطراباتها» ــ تحت عنوان:بتطور العنف وفقدان مصادر الشفاء منهب. ونفس الفكرة كررتها الفيلسوفة السياسية حنة أرندت فى كتابها المرجعى فى هذا المقام:«فى العنف». فلقد شمل التطور درجات العنف كما أوضحنا. كما شمل توظيف التقنيات الحديثة فى ممارسته.
وبالرغم من التطور فى درجة العنف، وفى وسائله، إلا أن ممارسى العنف/الإرهاب يعكسون حالة ذهنية وسلوكية بدائية تذكرنا بملحمة قاطع الطريق بروكرست...وبروكرست هو ابن بوسيدون إله البحر عند الإغريق.(كان يتحصن فى أحد الجبال الموجودة على الطريق بين أثينا وإلفسينا)...فماذا تقول هذه الملحمة الإغريقية القديمة؟...
كان قاطع الطريق بروكرست، يخطف العابرين بالطريق «الآخرين بالنسبة له»، ويضعهم فوق سرير معدنى رمزًا للقالب الجاهز، فإذا كان المخطوف أطول من السرير ضغطه حتى يتناسب مع طوله، وإذا كان أقصر من السرير مطه ليناسبه. وفى الحالين، يعد المخطوف ضحية مزدوجة لما يلي: أولا: ضحية خيار الفاعل العنفي(سواء كان خيارا واعيا أو لا). ثانيا: ضحية أدواته الجاهزة: إنها الداعشية المعاصرة أو كل ما شابهها: من قبلها، أو من سيأتى بعدها. أو بحسب أحد الباحثين إنها: القولبة الجبرية، والتطابق المتعسف، أى أن تكون مثلى أو مثل النموذج الذى أقدمه أو تتشد...، فمَن لا يخنع ويخضع ويذعن لما يعتقده ممارسو العنف، فإنه يستحق التدمير التام والسحق الكامل... إن النزعة العنفية التدميرية، الإقصائية، الإبادية، لا تأبه بتشويه التاريخ وتدمير مجسماته المادية، أو قراءته قراءة مبتسرة أحادية الرؤية؛ ولا تخجل من إنكار التنوع المجتمعي، والاختلاف الطبيعي؛ ويقينًا لا تعترف بالشراكة الوطنية والإنسانية.
وهو أمر ضد الطبيعة التعددية «التنوعية» التى جُبلت عليها الإنسانية.
وعليه نطرح الأسئلة التالية: إلى متى نرضى بدوام هذه العملية الإيذائية بأشكالها المختلفة وبأسبابها المتعددة: الاقتصادية، والثقافية/ الدينية، والسياسية، والاجتماعية؟، ومتى نتحرر من «سرير بروكرست» الذى يريدنا كلنا فى مقاس واحد؟، وكيف نضمن حياة بلا قوالب؟
نحن فى حاجة إلى مواجهة جماعية ذات طابع عملي، ولايصح أن تعيقنا المقولة الفرويدية عن أن نناضل معا: «محبو التقدم والإبداع والحرية»؛ من أجل مقاومة العملية الإيذائية.
كانت السطور السابقة مقدمة للمساهمة التى علقنا فيها على وثيقة مؤسسة أديان، كجهد مدنى تنظيرى وعملى فى آن واحد، حملت مقاربة تكاملية جمعت بين أصوات: «الخبراء، والفاعلين فى المجتمع، وأيضا قادة المجتمع المحلي، والناشطين». حيث أكدوا ضرورة العمل على التحرك الميدانى فى مساحات أربع: أولا: تأكيد المسئولية الاجتماعية للأديان. ثانيا: تضمين مناهج التعليم المواطنة الحاضنة للتنوع. ثالثا: مواجهة الخطاب الإعلامى العنفى بخطاب دينى إنساني. ورابعا: توسيع مجالات العمل المشترك بين المختلفين. هذا بعد أن وضعوا تعريفات محددة لكثير من المفاهيم عصرية وإنسانية. وكذلك داعمة للتضامن والاندماج الفاعل فى بناء الأوطان.
وحول الوثيقة وغيرها من وثائق (إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك ـ 2017. وبيان الأزهر العالمى لمواجهة التطرف والإرهاب ـ 2014. وبيان منتدى تعزيز السلم فى المجتمعات المسلمة المعنون: ماهذه بطريق الجنة ـ 2014،...،إلخ) ضمها الكتاب الصادر عن مؤسسة أديان: «الإسلام والأديان الأخرى فى مواجهة التطرف العُنفي/ العنيف»، (إشراف أحمد الزعبى ونشر دار الفارابي). دارت النقاشات فى فعاليات معرض الكتاب اللبناني. وقد صبت كلها فى كيفية تهيئة المناخ من أجل العمل الجماعى العابر للاختلافات من أجل صنع سياسات مشتركة قابلة للتنفيذ. وتشجيع المبادرات الحكومية والمدنية على السواء فى مواجهة العنف الإرهابى وتفكيك منظومته وعدم تجدده...وكلها مهام جسام لا غنى عن التصدى لتنفيذها من أجل التقدم.