كان الحديث هادئا وعميقا، بالرغم من أن القضايا التى يتم نقاشها ساخنة جدا، إلا انه لا شيء غير قابل للنقاش...وكل القضايا تخضع لإعادة النظر... والأهم أن النقاشات تنتهى بمحاولة تقديم حلول تقوم على العلم والمعرفة ويراعى فيها التحولات الاجتماعية والمواءمات السياسية...
هذا هو الانطباع الذى تولد لدى عند متابعتى للتقارير الإخبارية المطولة، و«المخدومة» بعناية كبيرة التى تعقب النشرة اليومية فى إحدى قنوات الدول الأوروبية التى بقيت فيها لمدة أسبوعين. من أبرز القضايا التى تناولتها هذه التقارير نختار منها «تقريرا» يناقش دراسة قام بها أحد المراكز البحثية حول: «اتجاه الشركات الكبرى فى الآونة الأخيرة ــ إلى تطوير قدراتها من خلال الاستثمار فى التقنيات أكثر من الإنسان أو الكوادر البشرية التى تعمل فيها». ويقوم الباحث الرئيسى الذى أشرف على البحث بتقديم خلاصة ما وصل إليه فى كلمات محددة ومركزة ومكثفة وموجزة فى آن واحد. تصاحبه أثناء الحديث لوحات رقمية متحركة تدلل على ما يقول. ويشارك فى الحوار ـــ الذى يتم برشاقة مذهلة ـــ كل أطراف القضية وهم: أصحاب الشركات ومديروها التنفيذيون، والسياسيون الحزبيون بألوانهم المتنوعة، والبرلمانيون المنوط بهم التشريع، وممثلو النقابات العمالية، بالإضافة إلى عينة من الموظفين المتضررين.
أثار التقرير الكثير من القضايا الحساسة والخطيرة حول: مستقبل العمل والعمالة فى أوروبا، وكيف انه مع مرور الوقت يمكن أن تحل التقنيات الرقمية محل الانسان. ولم يتوقف الحوار عند العنوان العريض وإنما امتد إلى الكثير من الإشكاليات منها: علاقات العمل فى العصر الجديد، وفاعلية وجدوى القوانين الحالية فى حماية العاملين أو بلغة أخرى مدى صلاحيتها التاريخية، حيث إنها صدرت فى زمن كان التقدم التقنى ليس مطردا، ومدى الحاجة لقوانين جديدة تواكب التجدد التكنولوجى وأثره على مستقبل العاملين ومن ثم حفاظها على حقوق العاملين، وكيفية صناعة واتخاذ القرار فى هذه الشركات، وعلاقة كل ذلك بالمنظومة الاقتصادية الوطنية والأوروبية وأثرها على الواقع الاجتماعى بما سينجم عنها من إشكاليات تهدد منظومة العمل من جهة. ومن جهة أخرى سلام المجتمع من جراء الاستغناء عن 40% من إجمالى قوته العاملة، وأثر ذلك على دول القارة الأوروبية الموحدة: المتقدمة والأقل تقدما...
هذه هى نوعية القضايا المثارة فى «التليفزيونات» الأوروبية...بيد أن الأهم هو المنهجية التى يتم ممارستها فى مواجهة هذه القضايا...والأكثر أهمية هو تلقف الدوائر الأكاديمية والحزبية والبرلمانية والنقابية القضية فى محاولة من الجميع للإجابة عن سؤال ما العمل؟...أو الوصول إلى حلول ناجعة لجميع المواطنين على اختلافهم. وذلك بعد إخضاع القضية لمنهج يمكن أن نطلق عليه إعادة النظرRe-Consideration؛ حيث تخضع الإشكاليات والمفاهيم والأفكار والتوجهات والممارسات لأربع عمليات متعاقبة/ متداخلة/متفاعلة كما يلي: أولا: إعادة التفكير Re-Thinking، وثانيا: إعادة البحث Re-Studying، وثالثا: إعادة الفهم Re-Understanding، ورابعا: إعادة التنظير Re-Theorizing، ينتج عنها حصيلة معرفية جاهزة للترجمة إلى سياسات وإجراءات عملية... وفى هذا السياق، تجد العقل الأوروبى يبدع فى دراسة «تداعيات» ما بات يُعرف «بالثورة الصناعية الرابعة» أى ثورة: التقنيات الدقيقة (وهى الثورة التى هلت علينا بعد ثورات: البخار، والطاقة الكهربية، والالكترونية). وتتضمن ثورة التقنيات الدقيقة ما يلي: التكنولوجية الحيوية، والهندسة الوراثية، و «الأتمتة» أى الاعتماد على الآلة بدلا من الإنسان فى شتى المجالات... ويشير أحد الباحثين فى هذا المقام إلي: حدوث «تحولات فى ميزان القوى بين القطاعات الانتاجية المختلفة، والجهات الحكومية وغير الحكومية، والبلدان المختلفة. وأنه لا تقدم ما لم تأخذ هذه الحكومات فى اعتبارها بما يعرف «بالاقتصاد الشامل» اقتصاد متعدد الأبعاد: صناعي، وزراعي، وتقني، ومعرفي، فى آن واحد. فى ظل رؤية واستراتيجية وسياسات تنموية مستديمة مرنة وقابلة للمراجعة والتطوير. تأخذ بأنظمة التفكير الشبكية التى تختلف جذريا عن التفكير الخطى البدائى القديم»...أخذا فى الاعتبار رفع القدرة على علاج اللامساواة بين من يملك ومن لا يملك وتحقيق العدالة قدر الإمكان...وهو أمر يحتاج إلى إبداع رؤى واستراتيجيات وسياسات تؤكد «تمكين» المواطنين على اختلافهم فى الانخراط والاستفادة من الفرص الاقتصادية المتاحة فى ظل الثورة الصناعية الرابعة.
وفى ضوء ما سبق، وانطلاقا من الإحساس بالمسئولية وخوفا على مستقبل المواطنين وما يمكن أن يتعرضوا إليه من جراء التقدم التكنولوجى وقبل ذلك ما تعرضوا إليه من «إقصاء» و«إفقار» و «لا مساواة» بفعل سياسات الليبرالية الجديدة. تجد الجميع مستنفرا فى محاولة لتقديم العون الفكرى والعملى ليس فقط لقضايا جزئية بعينها، وغنما للقضايا الكلية التى باتت مزمنة وأنتجت حالة «لا مساواة» مزمنة بين المواطنين. كذلك ليس لدولة أوروبية بعينها وإنما للقارة الأوروبية. ولعل الحصيلة المعرفية لعام 2017 من قبل مؤرخين وعلماء اجتماع وسياسيين واقتصاديين أوروبيين، منهم من حصد نوبل، تؤكد أن هناك الكثير والكثير قد خضع «لإعادة النظر». والأهم نتج عنه إجابة على السؤال العتيد: ما العمل؟»...نتابع..