المسألة الكاتالونية (2).. قوميات الشمال والجنوب...ما الفرق؟

كان المشهد غير مسبوق ولافتا للنظر. أقصد مشهد احتفاء الجماهير فى كل من شوارع عاصمتى ويلز وأيسلندا لفريقى كرة القدم العائدين من بطولة أمم أوروبا فى صيف 2016. بعد أن قدما عروضا مميزة وممتازة فى أول مشاركة رسمية لهما فى هذه البطولة.



وأذكر أن هذا المشهد لم يحتل ــ فقط ــ مساحة بارزة فى المجال الإعلامى وإنما كان محل اهتمام العقل الأوروبي. وقد كان العنوان العريض الذى وصف به هذا الاحتفاء الجماهيرى هو إعادة الاعتبار «للنزعة القومية». وكانت مادة التحليل التى صاغت العنوان فى صورته الأخيرة العناصر التالية: الشعارات التى أطلقتها الجماهير، والملابس القومية التاريخية التى لبسها المحتفلون، والرموز التاريخية التى تعبر عن الثقافة القومية للبلدين والتى تمت استعادتها فى الاحتفالات،...،إلخ.

وفى دراسات معمقة لاحقة، أشرنا إلى بعضها فى معرض حديثنا عن الحركات الأوروبية البازغة: القومية المتجددة والمواطنية الجديدة، ربط الباحثون بين الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى انطلقت فى 2008،ولم تواجه مواجهة صارمة حتى الآن، وبين النزوع القومى الأوروبي. وكيف أنه فى كل مرحلة تاريخية تشهد تحولا جذريا فى حياة الناس تتجدد النزعة القومية لدى المواطنين. و فى إطار قوميات الشمال(أوروبا تحديدا) نرصد ما يلي:

أولا: قوميات ما بعد ممالك وسلالات أوروبا القديمة. ثانيا: قوميات ما بعد الشيوعية. ثالثا: هو ما نشهده الآن، قوميات ما بعد الليبرالية الجديدة.

أى أن القومية مثلت عنصرا لتقدم أوروبا وتجاوزها مرحلة حروب الممالك القديمة الممتدة وتأسيس جسد دولى مؤسس على الدول القومية لا السلالات.. كذلك كانت القومية هى الحاضن لتداعيات انقسام أوروبا بين معسكرى الحرب الباردة. وأخيرا لعبت القومية دور المحرك لتعبئة المواطنين ضد سياسات الليبرالية الجديدة التى زادت الفجوة بين الأغنياء والفقراء إلى حد لم تعرفه البشرية من قبل...وتأكد تاريخيا أن وحدة أوروبا ضرورة.

فناتجها المحلى يقترب من ال15 تريليون دولار وهو رقم يتجاوز قرينه الأمريكي. ومن ثم فإن حديث الاستقلال أو الحكم الذاتى هو حديث يدرك أنه وإن تقرر عمليا سوف يعاود أصحابه الاندماج بدرجة أو أخري. ذلك لأن آليات الدمج والتعاون والتشارك متعددة ومتجددة. وفى كل الأحوال سيكون الحوار هو السبيل الوحيد لبلوغ الأهداف الأوروبية شريطة علاج «السوءات» التى سببتها سياسات «الليبرالية الجديدة» من: أولا: تنامى قاعدة الفقراء. وثانيا: تزايد الاحتكارات. وثالثا: إضعاف التنمية الوطنية...فى هذا السياق، تأتى المسألة الكاتالونية.

يشكل إقليم كاتالونيا 20% من الناتج المحلى الإسبانى بقيمة تتجاوز ال200مليار يورو. ويضم الإقليم 15% من السكان. ويدفع 23% من الضرائب فى المملكة ويحظى الإقليم ــ فقط ــ ب10% من الاستثمارات الكلية لإسبانيا. كما يمتلك الإقليم طاقة مائية تمكنه من انتاج الطاقة الكهربية. أخذا فى الاعتبار أن كاتالونيا وحدها تنتج ثلث الانتاج الصناعى الإسباني. وربع صادراته. وهنا مربط الفرس. فالتواصل مع الخارج عبر قوانين العولمة ساهم فى تشجيع الحديث عن الاستقلال. وما كان صعبا فى الماضى فى ظل مشروع تنموى ذاتى للمملكة الإسبانية بات يسيرا وفق السياسات الاقتصادية الكونية التى باتت تمنح شرعية سياسية ما «للاقتصادات القومية الفرعية» إذا جاز التعبير. خاصة وأن الدول أصبحت أقرب إلى الأسواق.

وعليه، نجد كيف أن الأطراف المعنية ــ إذا ما استثنينا رسالة العنف التحذيرية ــ قد لجأت إلى سياسة الباب «الموارب». حيث ارتكنت هذه الأطراف إلى الحوار كآلية وحيدة للفصل فيما هو مثار. فالليبرالية الجديدة قد أتاحت بفعل الاتفاقات الاقتصادية الموازية مع القوميات وخاصة فى الشمال من دعم حديث الاستقلال. وفى نفس الوقت احتماء المتضررين من هذه السياسات بالالتزام بالقومية(سواء بالاستقلال أو بالتواصل مع الدولة الأم تاريخيا مع التوسع فى الحكم الذاتي) كسلاح من أجل مشروع اقتصادى وطنى طالما توفرت له الامكانات الذاتية من موارد ونهضة علمية وثقافية.

وبالأخير لا مانع من اللجوء إلى حوار ينظم وضعا قائما لن يتغير كثيرا. بل وربما يفتح آفاقا مبتكرة لترقية ما هو قائم دون حدوث خسائر لأى طرف من الأطراف...

ويختلف ما سبق جذريا عن الحالة الكردية حيث اقتصادها ريعي، ولا توجد علاقات دمج بينها وبين الدولة الأم، كذلك لا توجد مرجعية مؤسسية عربية قادرة على تأمين الاندماج أو الحوار. واخيرا تضارب مصالح البعض فى تحقيق ما يفيد. وأخيرا اندلاع صراعات ميدانية متنوعة الدوافع...وهذا هو حال ومصير قوميات الجنوب...

ونذكر بأن شعار أوروبا الموحدة يستلهم لحن الفرح فى الحركة الرابعة والأخيرة من السيمفونية التاسعة لبيتهوفن (المعروفة بالكورالية والتى سمعت فى فيينا للمرة الأولى عام 1824 وكتب كلماتها الشاعر الألمانى شيلر ) حيث جاء فيه (بحسب ترجمة للدكتور حسين فوزى من كتابه عن أعمال بيتهوفن) تعبير عن »الفرح بالاندماج؛

يا أيها الفرح ضم شمل النازحين والمتفرقين...

فالناس جميعا إخوان، تظللهم بجناحك

أيها الفرح العلوي..

ليحتضن البشر بعضهم بعضا،...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern