فى أكتوبر من عام 2012، تلقيت دعوة رسمية من وزارة الخارجية الإسبانية لحضور مؤتمر عن دساتير أمريكا اللاتينية. على أن يعقبه برنامج مكثف لدراسة تجربة التحول الديمقراطى فى إسبانيا، وقد كنت معنيا بهذا الملف فى مصر. وتصادف أن إقليم كاتالونيا(أحد الأقاليم الإسبانية ويسكنه 6مليون مواطن، ويضم 4 مقاطعات وما يقرب من 1000 بلدية ) كان يستعد فى نوفمبر من نفس العام لإجراء استفتاء رمزى حول «استقلال الإقليم». ما دفعنى أن أطرح سؤالا على أحد الخبراء الذى ألتقيتهم ــ آنذاك ــ حول «المسألة الكاتالونية» فى إطار التجربة الديمقراطية الإسبانية...
رد محدثى بأن دستور التوافق الديمقراطى الإسباني، الذى أقر فى العام 1978، بأغلبية تقترب من ال90%، قد نص فى فقرته الأولى من بنده الأول على ما يلي: «تؤسس إسبانيا بوصفها دولة اجتماعية ديمقراطية تخضع لسيادة القانون، وتنادى بالحرية والعدل والمساواة والتعددية الثقافية». وفى ضوء المبادئ التأسيسية لدولة إسبانيا تقر مباشرة فى البند الثانى من الدستور على ما يلي: «يستند الدستور إلى وحدة الأمة الإسبانية غير القابلة للانفصام، ووطن جميع الإسبان المشترك غير القابل للتقسيم، وهو يعترف بحق القوميات والمناطق التى تتكون منها الأمة الإسبانية فى الحكم الذاتى ويعترف بالتضامن فيما بينها جميعا، ويضمن ذلك الحق».
وعليه، بنى محدثى حجته بأن ما سوف يحدث فى الإقليم الكاتالونى ما هو إلا تحصيل حاصل. وأعلمنى أنه منذ 1979 حصل الكاتالونيون على حق الحكم الذاتي. وتم الاعتراف بلغتهم كلغة رسمية بالإضافة للإسبانية. كما سُمح لهم بتكوين قوة أمن محلية بالإضافة إلى تطبيق سياسات محلية فى التعليم والصحة،...،إلخ. وكان سؤالى أين تكمن المشكلة، إذن؟
أجابنى فى “المناوشات” السياسية التى تحدث من حين لأخر. ذلك بالحديث عن “الأمة الكاتالونية” وضرورة أن يكون لها كيان سياسى مستقل...ففى هذا السياق، أشار محدثى إلا أنه فى 2006 طالب الإقليم الكاتالونى توسيع الحكم الذاتي. وطرح ذلك من خلال وثيقة سياسية فى استفتاء عام. وتضمنت الوثيقة تعريفا لكاتالونيا بصفتها “أمة”. ما دفع بالطعن ضد هذه العبارة أمام المحكمة الدستورية العليا الإسبانية. وكانت النتيجة أن تمت الموافقة الشعبية على مبدأ توسيع الحكم الذاتى فى حينها. إلا أن المحكمة الدستورية ألغت ــ لاحقا ــ فى 2010 الجزء الخاص بالتعريف السياسى لكاتالونيا “كأمة”.
تذكرت ما سبق مع صعود الأزمة الكاتالونية الراهنة والتى بدأت مطلع الشهر الجارى مع الدعوة لاستفتاء حول “استقلال كاتالونيا”. وما رافقها من أحداث مؤلمة. فما شاع فى أوساطنا العربية هو “انفصال الإقليم”. وهو ما يحرص السياسيون فى الإقليم على تجنبه التزاما بالدستور الإسبانى الذى لم يزل المرجع التاريخى لإسبانيا بما تضم من أقاليم.
وتقوم فلسفة دستور التوافق التاريخى الإسبانى فيما يتعلق “بالهويات القومية” التى تشكل المملكة الإسبانية على عنصرين أساسيين هما:
أولا: ’’التعايش بين الهويات وتجاوز الصراعات التاريخية التى شهدتها ‘‘؛ فمن المعروف أن منطقة كاتالونيا ــ تقع بين إسبانيا وفرنسا ــ وعاصمتها برشلونة. ظلت تتعرض للسيطرة من قبل العائلات المالكة المتعاقبة فى كل من فرنسا وإسبانيا حتى القرن السابع عشر. وحظيت ما بين عامى 1640 و1652 على الاستقلال. ولكن فى سنة 1714 أُلحقت بالمملكة الإسبانية فيما عرف بحرب الخلافة الملكية الإسبانية وذلك فى 11 سبتمبر من نفس السنة. وبات هذا اليوم هو اليوم الوطنى لكاتالونيا. وحاولت النخبة الكاتالونية الاستقلال مرة أخرى فى ثلاثينيات القرن العشرين وتحديدا فى عام 1934 حيث أعلنت الجمهورية الكاتالونية بالتوازى مع الجمهورية الإسبانية إعلانا بانتهاء الملكية السلطوية. ولكن هذا الاستقلال لم يدم كثيرا وانتهى بالحرب الأهلية الشاملة التى استمرت من 1936 إلى 1939 وانتهت لصالح حكم فرانكو الذى حكم البلاد وألغى الحكم الذاتى حتى العام 1975. والقبول أخيرا بالتعايش بين الأقاليم الإسبانية فى ظل ملكية ديمقراطية.
ثانيا: ’’التكامل بين الأقاليم فى ظل وحدة سياسية جامعة‘‘؛ لا يمنع الحكم الذاتى من “تدارك اختلالات التوازن الاقتصادى بين الأقاليم وتنفيذا لمبدأ التضامن” بحسب البند 158 من الدستور.
ما سبق مقدمة ضرورية لسببين هما: أولا: لفهم “المسألة الكاتالونية”. لأن تعبير “الانفصال”، تعبير يحرص رئيس الحكومة الكاتالونية على ألا يستخدمه. حتى إعلان الاستقلال عبارة لا يتم تداولها فى الأوساط السياسية الرسمية فى الإقليم. وللدقة فإن ما أعلنه رئيس الوزراء منتصف الأسبوع الماضى هو أن الإقليم قد “اكتسب حق الاستقلال”. وترك الأمر معلقا من أجل الحوار الوطنى بين كل الأطراف المعنية...
وثانيا: ان ما جرى لا ينبغى أن يؤخذ بخفة لأنه لو تم سوف يكون انقلابا فى المسرح السياسى الدولي. كما أنه لا ينبغى تشبيهه بالموقف الكردى الذى يتم فى غياب منظومة إقليمية مرجعية وفى ظل صراعات ميدانية معقدة...
والأسئلة التى يجب أن تطرح نفسها: لماذا يجب التعامل مع الأقلية الكاتالونية برؤية أوسع...وفى ماذا تختلف عن الأقليات القومية ما بعد الشيوعية...وماهى سيناريوهات المستقبل...نتابع...