أشارت تونى موريسون، الروائية والأستاذة الجامعية الأمريكية(86 عاما، الحائزة على نوبل للآداب عام 1993) فى دورية النيويوركر 28 أغسطس الماضي، إلى أنه فى سبيل ألا يفقد البيض مكانتهم التاريخية فإنهم يضحون بأنفسهم بقتل السود بشتى الطرق...لتأكيد الهوية الوطنية البيضاء...
وتعكس عبارة موريسون إلى أى مدى تفاقم الوضع الصدامى بين الملونين والبيض فى الولايات المتحدة الأمريكية. قد يقول البعض إنها ظاهرة قديمة. نعم هى ظاهرة قديمة إلا أن تسارع الأحداث وتكرارها فى أكثر من مكان فى السنوات الأخيرة قد أعاد إلى الأذهان الغبن التاريخى الذى لاقاه الملونون من السلطة البيضاء. خاصة مع تجدد صعود ما أطلقنا عليه جماعات الكراهية والعنف البيضاء من: العرقيين البيض الجدد، والفاشيين الجدد، والنازيين الجدد، واستعادة فكرة أمريكا البيضاء وتعبئة عناصرها لمواجهة خطر الأعراق الوافدة الأدنى بالنسبة لهم. وقد زاد من الإحساس بالغبن، هو انحياز ترامب إلى هذه الجماعات فى تصريح إعلامى علني، لم يتراجع عنه كليا. وعليه لم يعد ترامب رئيسا لكل الأمريكيين.
وقد ظهر بوضوح كيف أن ترامب يعتبر هذه الجماعات قاعدته الاجتماعية التى تمكنه من كسب معاركه سواء مع مؤسسات الدولة المختلفة أو مع القوى الليبرالية السياسية والمدنية والكتلة الأساسية للحزب الجمهورى التى ترشح باسمها والتى يتأكد أن لها وجهات نظر مختلفة عن التى يتبناها ترامب فى عديد القضايا. كما أن هذه الجماعات تعتبر عناصرها هم أحفاد المستوطنين القدامي. وأن من ينتمون إلى الطبقة الوسطى منهم يتعرضون لتنافس رهيب بسبب مزاحمة الوافدين، والمهاجرين، والملونين لهم. ما يعرض أحوالهم المعيشية للتدهور. ونشير هنا إلى أن فوز ترامب بالرئاسة أساسا قام على هذه الفكرة ألا وهى إنقاذ الشرائح الوسطى البيضاء وبخاصة الطبقة العاملة وحمايتها من غير البيض الوافدين كذلك حماية الصناعات الوطنية من الصناعات الواردة.
إنه مشهد يتقاطع فيه العرقي/الثقافي/الحضارى مع ما هو طبقي...ويهدد الولايات المتحدة الأمريكية بخطر مركب من: التصدع القومى و الصراع الطبقي...كيف؟
أولا: نقصد بالتصدع القومي/المجتمعي؛ هو حدوث انهيارات فى البنية المجتمعية القاعدية. فاستمرار العنف بين جماعات الكراهية والملونين وامتداد جغرافيته (العنف) إلى أماكن غير مسبوقة ومتعارف عليها تاريخيا، سيؤدى إلى أمرين هما: الأول: حدوث استقطابات حادة بين مكونات المجتمع. الثاني: فك لحمة التماسك المجتمعي. والمتابع بدقة للآلة الإعلامية الأمريكية بمجالاتها المختلفة سوف يلحظ كيف أن فكرة الحرب الأهلية يتم تأجيجها من خلال حملات إعلامية متنوعة. ولعل متابعة قناة فوكس التى تعبر عن الرؤية البيضاء من جهة والسى إن إن من جهة أخرى يعطى فكرة عن ما نحاول الإشارة إليه. وهكذا بالرغم من أن الجميع تجمعهم وضعية المواطنة وشرعية الجنسية الأمريكية. إلا أن الاختلافات العرقية واللونية تُفرق بينهم.
ثانيا: ونعنى بالصراع الطبقي؛ هو أن الأحداث الأخيرة قد أوضحت أنها ليست عرقية خالصة. ذلك لأنها تعكس أزمة الطبقة العاملة والوسطى البيضاء فى مجتمع تزداد حدته الطبقية. إلا أن الكتلة البيضاء بدلا من أن تعى أسباب أزمتها. وأن ما يحدث لها هو بسبب السياسات الرأسمالية وطبقة أصحاب الشركات الكبرى التى تزيد الأثرياء غنى والفقراء فقرا. فإنها تعزو ما يحدث لها من إفقار إلى المسألة العرقية ومزاحمة الملونين. وهى هنا تخضع للاستراتيجية التاريخية التى لجأت إليها الطبقة الحاكمة(بحسب ستيف فرايزر وجارى جريستل) لتجميد الصراع الطبقى وتحويل النظر عنه. وإرجاع سبب الإفقار إلى غير البيض...إلا أن ما سبق لم يمنع من تنامى الاهتمام بالمسألة الطبقية فى أمريكا وبالدراسات المسحية المجتمعية.
وفى هذا المقام نشير إلى دراسات عدة ترصد كيف كانت أجور أصحاب المواقع الأعلى فى قمة طبقة أصحاب الشركات تساوى 40 مرة ضعف متوسط أجور الطبقة العاملة منتصف الستينيات. وأصبحت ما يقرب من 500 مرة ضعف نفس الطبقة بحلول 2015...
كما نشير أيضا إلى بعض الدراسات الحديثة التى تلفت النظر إلى أهمية التعامل مع السياق المجتمعى الأمريكى الراهن بصورة مختلفة عن سياق الستينيات. فالملونون آنذاك كانوا ينتزعون حقوقهم من خلال الموجة الأولى من حركة الحقوق المدنية. أما الآن فلقد صار لهم حلفاء من البيض فيما يمكن أن يطلق عليهم الكتلة الليبرالية(اليسارية تجاوزا حيث التعريفات فى الحالة الأمريكية تختلف جذريا عن الحالة الأوروبية لاختلاف التطور التاريخى بينهما). كما أنهم لهم رموزهم الفاعلة والمؤثرة فى شتى المجالات.
كما أن هناك من يرصد بزوغ نزعة قومية سوداء فى داخل المجتمع الأمريكي. (راجع كتاب تمرد أم ثورة). وتشكل تيارات يسارية(تجاوزا) ونقابات عمالية ومنظمات مدنية تسعى لحماية المتضررين من عنف جماعات الكراهية البيضاء المدعومة من النخبة الجديدة الحاكمة.
ومن جهة أخرى استغلال النخبة الثرية الطبقات الوسطى والدنيا...
وهكذا يتقاطع، «التصدع» مع «الصراع»؛ فيما يمثل تهديدا حقيقيا مركبا فى الداخل الأمريكى... نتابع...