«إنها دولة كبيرة، لذا فانقسامها الداخلى كبير جدا»... «كان من المفترض أن تستعيد مناسبة عيد الاستقلال روح الوحدة بين الأمريكيين...ولكن»... «لقد عكس 4 يوليو هذا العام حالة من التشتت بين الأمريكيين بسبب ما يشاهدونه من تجاذبات واستقطابات سياسية»...
هذه بعض من الأقوال التى انتشرت فى عديد من الكتابات التى تناولت ذكرى عيد الاستقلال الأمريكى الذى تحقق وفق إرادة 13 ولاية أمريكية عام 1776. فالاستقلال الأمريكى هو تعبير عن توحد هذه الولايات(المستعمرات) عن المملكة المتحدة. وبالفعل، من الطبيعى أن تكون ذكرى الاحتفال به فرصة لاستعادة قيم الاستقلال والوحدة والتضامن،...،إلخ. ولكن يبدو أن المتابعة عن قرب تشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية: الدولة والمجتمع، تعانى وضعية «انقسام» داخلى حادة، لا تغفلها عين الراصد. وعليه خصصت كثير من الدوريات والفضائيات مساحة حول هذه الإشكالية. ولعل الملف الذى أفردته الإيكونوميست تحت عنوان :«دولة منقسمة» ما يدل على أهمية اللقطة السياسية الأمريكية الراهنة والجديرة بالتأمل والفهم... ولكن ما الذى أدى إلى الانقسام؟
السلوك المتناقض للساسة؛ أظنه يمكن أن يفسر جانبا من «اللقطة الانقسامية الراهنة». وهو سلوك يتجسد فى التناقضات التالية: الأول: حديث سياسى رئاسى صاخب عن ضرورة التقشف وترشيد الميزانية العامة. والإصرار على ذلك. على الرغم من أنه وحتى منتصف يوليو الجارى وبحسب الواشنطن بوست ــ لم يعين الرئيس سوى 72 وظيفة رئاسية من أصل 562 وظيفة رئاسية متاحة وضرورية (أى لم تزل هناك 390 وظيفة شاغرة وتعد نسبة كبيرة) حيث لم يتقدم أحد للالتحاق بهذه الوظائف.
ما يثير الجدل حول مدى الاقبال على الوظائف الحكومية. الثاني: المبالغة فى الحديث والدفاع عن السياسات الحمائية، وهو أمر إيجابى فى ذاته، دون أن يقترن هذا الحديث بالعمل على الإعداد لسياسات تصنيعية تدعم الصناعة الوطنية الذاتية. الثالث: الإصرار الرئاسى على التعاطى مع تشريعات وسياسات سلفه ــ بغض النظر عن مدى صحتها من عدمه ــ بشكل ثأرى وانتقامي. (يمكن أخذ نظامى الرعاية الصحية والضرائب كمثلين). ما دفع البعض من الجمهوريين على العمل ضد موقف الرئيس. الرابع: الدفاع الخطابى عن الكتل التصويتية المتنوعة التى منحته صوتها وفى نفس الوقت ــ وبحسب دراسات من داخل الحزب الجمهورى الذى ينتمى إليه ترامب ــ نجده يعمل على استصدار تشريعات ضد مصالح ملايين من الفقراء والمرضى ممن صوتوا له. بالإضافة إلى أن تصوره للنظام الضريبى المقترح ـــ بالرغم من التوافق على أهمية إدخال تعديلات جذرية عليه ـــ سوف يصب لصالح الأثرياء. ما يثير الحيرة والفوضى والجدل أكثر فأكثر حول النظام الضريبى الأمثل فى أمريكا.
هذا السلوك التناقضى السياسى الرئاسى الراهن خلق حالة مركبة من الانقسامات متعددة المستويات ـــ بحسب أحد الباحثين ــ كما يلي: الأول: انقسام داخل النخبة الجمهورية وانقسام داخل النخبة الديمقراطية. الثاني: انقسام بين النخبتين السياسيتين الديمقراطية والجمهورية. الثالث: بين عمال المصانع وبين طلبة الجامعات. الرابع: بين القومية الأمريكية وبين الخصوصيات العرقية المستوطنة والوافدة حديثا. الخامس: بين مجتمع السود وبين البيض. السادس: بين أبناء المدينة وسكان الريف. والسابع: بين الليبراليين وبين المحافظين...إلخ.
وفى نظر كثيرين، إن عبور جسور الخلاف بين الأطراف المنقسمة سوف يستغرق وقتا طويلا. ونذكر هنا نصا مهما لروبرت ليونارد أحد المراسلين الريفيين بأمريكا ــ مقاطعة ماريون بولاية آيوا ــ نشر بنيويورك تايمز حول عمق الانقسام الأمريكي. وأنه تجاوز الانقسام الأزرق ــ الأحمر أو الديمقراطى الجمهورى إلى ما هو أعقد من ذلك. وفى حالته يمكن القول: الريفى المحروم من الكثير من الخدمات فى مقابل المدنى المسـتأثر بالمرافق والخدمات... ويشار هنا إلى أحداث العنف التى جرت ضد السود فى فرجينيا وبالتيمور وغيرهما السنوات الخمس الأخيرة. والتى أعادت إلى الأذهان الاضطهاد التاريخى ضدهم وكأن حركة الحقوق المدنية لم تثمر وثيقة المساواة فى 1968 بعد تكلفة كبيرة عبر مائتى سنة.
بلغة أخرى، يمكن القول إن المجتمع الأمريكي، على غناه وتقدمه، إلا أنه أصبح يعانى إشكاليات مجتمعية عديدة تعكس مدى الانقسام المجتمعى الناتج عن الاستياء من استمرار سياسات أدت إلى الكثير من الفجوات بين المواطنين بسبب غياب العدالة بين المواطنين. ولعل من أهمها «فجوة الثروة» التى باتت تفصل بين قلة ثروية وأغلبية تصارع من أجل الشراكة بحسب الحلم الأمريكى نفسه.
الإيجابي، أن ما يثار الآن فى الولايات المتحدة الأمريكية يدخل فى سياق إعادة النظر فى واقع أمريكا الاجتماعى ودورها ورسالتها. قل إنها محاولة لتجديد فهم أمريكا... ومحاولة مصيرية ضرورية للإجابة عن سؤال: هل بالفعل استطاعت وثيقة مبادئ الاستقلال بعد ما يقرب من قرنين ونصف القرن أن تحقق حقوق: «الحياة والحرية والسعى وراء السعادة»...أم لا؟...إنه جدل تاريخى مهم... أظنه جدير بالمتابعة...