حتى مطلع الثمانينات كانت القوة تقاس «بالقدرة على الحرب». وبقدر ما تتسلح الدول وتطور وتنوع من أسلحتها بقدر ما تزيد فرصها فى الانتصار. ذلك لأن القدرة التسليحية تعنى ردع الآخرين حتى دون الدخول فى الحرب. إلا أنه تبين أن الحفاظ على قدرة الردع أو ما بات يعرف فى الأدبيات الاستراتيجية «بالقوة الصلبة/الخشنة» أصبحت تكلفته باهظة الثمن.
وعليه، أعيد النظر فى مفهوم القوة. ماذا تعني؟ وما حدود استخدامها؟ وهل لابد أن تكون ذات طابع عسكري؟ أو «قوة صلبة/خشنة»...ويعد جوزيف ناي(الابن) الذى شغل وظيفة وكيل وزارة الدفاع فى عهد بيل كلينتون ، هو أول من طرح هذه الأسئلة المفتاحية فى كتابه: «مفارقة القوة الأمريكية» Paradox of American Power.
فى هذا السياق، ولد مفهوم «القوة الناعمة».
وعليه يقول ناى «إنه إذا أرادت الولايات المتحدة أن تظل قوية»، فعليها أن تهتم بالإضافة إلى القوتين العسكرية والاقتصادية اللتين يعدهما معا مثالين على القوة الصلبةHard Power والتى يمكن استخدامها لإقناع الآخرين قسرا. أى جعل الآخرين يريدون ما تريده أنت. وذلك بدون اللجوء إلى التهديد باستخدام القوة العسكرية أو العقوبات الاقتصادية».
والقوة الناعمة هى القوة التى يمكن ممارستها من خلال التأثير على الآخرين بالثقافة والإعجاب بالقيم والنماذج الفكرية، والانبهار بالتقنيات المتجددة، والصناعات الإبداعية، والإغراء بتبنيها وامتلاكها بشتى الطرق...وقد لعب البعد الثقافى الغربى دورا فى استمالة عموم المواطنين كونيا. من خلال الأفلام والموضات والإعلانات، والبعثات، والمنح،...،إلخ. كما ساهم التقدم التكنولوجى فى مجالى الميديا والرقميات عموما، والعولمة بقيمها فى تجاوز الحدود ووضع معايير حياة واحدة لسكان الكوكب. وبالرغم من الكثير من الانتقادات المضادة للعولمة وتداعياتها الثقافية والاقتصادية. إلا أنها تشير إلى مدى أثر القوة الناعمة فى حياة الدول والمجتمعات.
ولم يلبث ما طرحه «جوزيف ناي»، حول القوة الناعمة أن تم تجاوزه.
وفى إطار النقد الذاتى الدائم، تمت مراجعة مفهوم القوة الناعمة. فقام مركز الدراسات الاستراتيجية والسياسية CSIS فى 2006بتكليف جوزيف ناى ومعه ريتشارد ارميتاج بالإضافة إلى نخبة استراتيجية معتبرة بإعداد تقرير تراجع مفهوم القوة ببعديه «الصلب/الخشن والناعم».
ونتج عن ذلك تقرير عوانه:»القوة الذكية» Smart Power؛ وذلك فى 2007. وهو ما طوره ناى لاحقا فى كتابه مستقبل القوة الصادر فى 2010، حيث طرح تعريفا للقوة الذكية خلاصته أنها « محصلة التكامل بين القوة العسكرية والقدرة الاقتصادية أى القوة الصلبة وبين القدرة على التأثير من خلال وسائل الجذب والاقناع المتنوعة أى القوة الناعمة»، وبهذه القوة الذكية يمكن مواجهة التحديات الكونية المعقدة المتزايدة. فلا القوة بمعناه الخشن فقط باتت تجدي. ولا بمعناها الناعم وحده تكفي.
ومنذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا أصبح مفهوم «القوة الذكية» هو المفهوم المتبع ليس فى الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا بطبيعة الحال، فقط، وإنما فى عدة دول منها: الهند، وجنوب إفريقيا، والبرازيل، ونسبيا الصين وروسيا...
وتعتمد القوة الذكية على «احداث التقدم» بالتوظيف الأمثل للقوتين الخشنة والناعمة، فى ضوء استراتيجيات منطقية تتناسب مع هاتين القوتين. وحول كيفية بناء استراتيجية مثلى لتطبيق القوة الذكية يشير ناى إلى خمسة متطلبات كما يلي: أولا: تحديد المصالح الوطنية العليا. ثانيا: حصر الموارد الذاتية المتوافرة: المادية والمعنوية. ودراسة كيفية تعاظمها. واستخدامها وتعويضها فى ضوء الاستخدام فى الواقع. ثالثا: الربط الدقيق بين الموارد والأفضليات وتحقيق المصالح الوطنية. رابعا: الاختيار الأمثل لنوع القوة وكيفية ممارستها لتحقيق المصالح الوطنية المتنوعة. ويمكن التنوع بين الممارسات والسياسات المختلفة او الجمع بينها. خامسا: توافر وجود مجموعة عقول تعمل على ممارسة عملية تقييم دائم للقوة الذكية.
بلغة أخري، تعنى القوة الذكية كيف يمكن الاستمرار فى امتلاك «سر الاختراع»، والاحتفاظ بالمبادرة، وتهيئة المناخ لديمومة الإبداع. وأهمية إدراك أن انطلاق هذه القوة يحتاج إلى قاعدة متينة من القدرة الحمائية والوقائية من جهة، ومن جهة أخرى ضرورة تطوير البنية التحتية للتعليم والصحة والثقافة والإعلام وللنموذج التنموى بكل أبعاده وتفاصيله. والأهم بنية ديمقراطية تشاركية مواطنية...
إذن، الإكثار من الحديث عن القوة الناعمة فقط باعتبارها السبيل الوحيد لتحقيق التقدم هو حديث ناقص. وما كان مؤثرا فى حقبة ما يمكن أن يفقد فاعليته فيما بعد. مثال الانتاج الفنى المصرى الذى كان مؤثرا فى المنطقة أصبح يتعرض لمنافسات بفعل تنامى الإبداعات المحلية فى كثير من البلدان. ومن الذكاء ربط الإبداع بهيكلية اقتصادية قادرة على الإنتاج والتسويق والانتشار مع توظيف التقنيات الرقمية فى ذلك. وإدراك أهمية ما بات يعرف باقتصاد المعرفة وتوظيفه. ما يحقق فى النهاية القوة الذكية فى عمقها...ذلك وفى ضوء الدراسة للكثير من الحالات لم يعد يكفي. كما أن الإفراط فى القوة المادية لا يضمن الهيمنة أو السيطرة أو تحقيق المصالح...
وبعد، لا تقل القوة الناعمة...ولنقل القوة الذكية...