الدراما التاريخية باتت عنصرا أساسيا في الوجبة الإبداعية التليفزيونية. وقد انطلقت من خلال السير الذاتية ـــ تحديدا ــ مثل: النديم، وطه حسين، والعقاد، وأم كلثوم، وهدى شعراوي، والملك فاروق، وعامر،...،إلخ. إلى أن وصلنا إلى «الجماعة» في جزئها الثاني. هذا بالإضافة إلى المسلسلات الاجتماعية التي تتخذ من التاريخ مادة خلفية لأحداث المسلسل مثل: ليالي الحلمية، وزينب والعرش، وزيزينيا،...،إلخ.
والثابت تاريخيا، أنه ما أن يبدأ عرض المسلسل التاريخي حتى تختلف الآراء حوله. وهو أمر طيب في ذاته. فليس من الطبيعي أو المنطقي أن يحظى العمل الدرامي أو الفني على الإجماع. فطبيعة الأمور هي الاختلاف. إلا أن الإشكالية تكمن في أمرين هما: الأول: حدة الاختلاف وتباين ردود الفعل. والانجرار إلى اتهام الأطراف المعنية بتهم تصل إلى حد التكفير والتخوين. الثاني: التعاطي مع التاريخ وشخصياته بقدر من العصمة والإطلاقية التي تحول دون رؤية الواقعة أو السلوك الشخصي، إلا من زاوية مثالية مطلقة. وأذكر مرة أن أحد الشخصيات العامة في معرض تعليقه على واقعة تاريخية تم تقديمها في أحد الأعمال الفنية أن قال: «لم تعجبني. واستطرد بقوله لا أعرف لماذا لم يأخذ الكاتب والمخرج بما فعلاه فلان وعلان من قبلهما عندما تناولا نفس الواقعة في عملهما الذي عرض قبل سنوات».
ويبدو لي أن التأمل في ردة الفعل تجاه الدراما التاريخية وتعليق الشخصية العامة ـ السابق ذكره ــ على أحد الأعمال. إنما يعكس رؤية عامة لدينا جميعا تجاه التاريخ وكيفية تناوله. وأيضا كيف يمكن إدارة حوار حضاري حوله.
وفي هذا المقام أذكر أنني رأيت فيلما ــ منذ أعوام ــ بعنوان: «مسيسيبي تحترق» «Mississipi Burning» (انتاج 1988)؛ حول واقعة تاريخية بطلها إحدى الجماعات المتطرفة الأمريكية عُرفت باسم «كو كلوكس كلان» (تأسست في 1866) يمينية فاشية تستظل بالدين لممارسة العنف تجاه الزنوج في أمريكا. وتمارس العنف وهي مقنعة. حيث قامت في ذروة انطلاقة حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية بعملية قتل في إحدى الولايات الأمريكية. ما استدعى تدخل الـ FBI. وبدأت اقرأ حول الواقعة وعرفت أن السينما الأمريكية قامت بإنتاج عدة أفلام تتناول نفس الواقعة. وتتبعت بعض ما كتب حول هذه الأفلام. وأطلعت على القواعد التي تم التوافق عليها عند تناول التاريخ دراميا بشكل عام. والواقعة التاريخية الواحدة بشكل خاص.
بداية، لا يوجد اختلاف على ضرورة الالتزام بالواقعة وتفاصيلها المادية. إلا أن المُبدع من حقه اختيار زالمعالجةس التي يرى أنها تحقق له تطلعاته الإبداعية. فواقعة «مسيسيبي» على سبيل المثال: هناك من عالجها من منظور مجتمع الزنوج، وهناك من قاربها من خلال حركة الحقوق المدنية، وهناك من تناولها من زاوية كيف يراها الـ FBI،...وهكذا. ويقينا ومع اختلاف المعالجات، تتراوح درجة الإبداع ومن ثم التلقي. إلا أن الأكيد هو أن الحدث بات: أولا: مصدرا للإدانة والرفض في الذهن الجمعي الأمريكي. وثانيا: مصدرا للإلهام نحو مزيد من الإبداع والاجتهاد في تناوله مجددا. وثالثا: أصبح مصدرا للنضال من أجل تجاوز الواقع التمييزي في الولايات المتحدة الأمريكية. والمفارقة أن هذه الواقعة قد فتحت بابا لإنتاج العديد من الأفلام لتناول وقائع مشابهة ليس فقط تعرض لها الزنوج وإنما الهيسبانيك والميكسيكانز،...،إلخ.
أذكر ما سبق، لتأكيد أهمية الدراما التاريخية. والأهم ضرورة فتح حوار يدفعنا للتأمل في دروس التاريخ وكيفية الاستفادة منها في واقعنا وحاضرنا وتعيننا في رسم مستقبل أفضل. أخذا في الاعتبار أن الدراما التاريخية لا تؤسس للذاكرة التاريخية أي أنها ليست مصدرا تاريخيا، وإنما هي نافذة نطل منها على التاريخ ومصادره ومدوناته. تجسد لنا وقائعه بطريقة درامية شريطة صحة ودقة الواقعة.
إلا أن ما يقلق هو «تسييس» الحوارات التي تدور عقب كل مسلسل تاريخي والتي توصله ــ كما ذكرنا ــ إلى: الحدة غير حميدة وأحيانا غير بريئة والدفاع المستميت عن قداسة التاريخ.
ويبدو لي أن فشل تعليمنا التاريخ أو بالأحرى غياب مناهج تاريخ جادة وعميقة. وإهمالنا الدائم في الحفاظ على ذاكرتنا الوطنية. وإذا ما علمنا التاريخ يكون في الأغلب تاريخ الحكام وتقديمهم في صورة تحول دون نقدهم. وقراءة التاريخ قراءة أقرب إلى القراءة الدينية. يؤدى بنا في النهاية إلى هذا التلقي الحاد للدراما التاريخية. والذي يمتد إلى كل مناحي الحياة.
إن جوهر الاجتماع السياسي يقوم على التنوع. كما أن تكوين المجتمعات وتقدمها يقوم على أصالة هذا التنوع ومشروعية التعدد على قاعدة المواطنة وفي القلب منها المساواة التامة بلا تمييز. وعليه قطع الطريق على ادعاء البعض باحتكار الحقيقة المطلقة. أو تشدد البعض في أن التاريخ يبدأ من عندهم ويتمحور حولهم...وظني أن حدة الحوار تمتد وتستشري في كثير من نقاشاتنا. ما يستدعي الحركة الفورية إلى تأمين حوار عقلاني ومعرفي ييسر لنا التواصل بين الجميع...