يختلف الإرهاب الذى يواجه مصر الآن كليا عما كانت تتعرض له من أعمال عنف فى الماضى فالعنف المتوحد بالمطلق الدينى الذى بدأ يباغتنا منذ مطلع السبعينيات قد طرأ عليه تحولات نوعية من حيث: طبيعته، وأهدافه، وآلياته. ومن ثم فإن التوصيف العلمى الدقيق سوف يساعدنا على المواجهة وما تطلبه من استراتيجيات وسياسات ومواقف. خاصة أنه يبدو لى أن البعض منا لم يدرك بعد هذا التحول النوعي.
فالعنف المتوحد بالمطلق الدينى تحول من «أعمال عنف إرهابية» إلى إرهاب حربى شاملا. ماذا نعنى بذلك؟ أوما الفرق النوعى بينهما؟...فى هذا المقام يمكن رصد سبعة اختلافات نوعية وذلك كما يلي:
أولا: كانت أعمال العنف الإرهابية تعمل على ترويع المواطنين والضغط على الدولة. بينما يهدف الإرهاب الحربى الشامل إلى تفكيك الدول والمجتمعات، أو بلغة أخرى تدميرها من أجل تأسيس جديد. لذا ليس صدفة أن يسعى الداعشيون إلى تدمير الآثار التاريخية التى تعبر عن أى تعايش تاريخى حضارى بين المواطنين على اختلافهم.
ثانيا: كانت أعمال العنف الإرهابية فى الماضى تترك مساحة تمكنها من التفاوض تارة، والابتزاز تارة أخرى مع أطراف الدولة والمجتمع المختلفة، لاكتساب بعض المزايا. على النقيض يهدف الإرهاب الحربى الشامل إلى الإقصاء التام لكل ما هو قائم وغلق باب الحوار بالمطلق.
ثالثا: كانت أعمال العنف الإرهابية تنفذ من وقت لآخر على موجات متباعدة. وتتوقف هذه الموجات على الكثير من العوامل: الداخلية، والإقليمية، والدولية. فى المقابل فإن الإرهاب الحربى بعملياته الشاملة والمتعددة قد نشط منذ 2013 ووضعنا فى حالة استنفار مستمرة.
رابعا: انطلقت أعمال العنف الإرهابية فى الماضى من نصوص دينية متطرفة/ضعيفة سادت فى أزمنة الضعف السياسية وتم تجاوزها تاريخيا. وكانت قابلة للدحض فى المجمل. ولكن الإرهاب الحربى الشامل يؤسس لحركته فى ضوء نصوص أزمنة المواجهات التاريخية العسكرية بين الدارين والتى واكبتها اجتهادات متشددة.
خامسا: كان أقصى طموح للقائمين على أعمال العنف الإرهابية هو تأمين مساحة حضور مع الآخرين بدرجة أو أخري. وهو ما يتناقض كليا مع ما تسعى إليه عناصر الإرهاب الحربى الشامل التى تريد استبدال كل ما هو قائم لأنها تراه مُشركا. لذا رأيناها فى بعض الحالات تؤسس بحالة دولتية (نسبة إلى دولة) بديلة فتصمم أعلاما، وتسك عملات،...،إلخ.
سادسا: لم تثر أعمال العنف الإرهابية فى الماضى الكثير من القضايا التى من شأنها إشاعة انقسامات مجتمعية وقلقا حضاريا. بينما نجح الإرهاب الحربى الشامل فى إثارة الكثير من القضايا الإشكالية خاصة فى المساحات العرقية والإثنية والطائفية والمذهبية والدينية. ما أدى إلى حالة من القلق الشامل لم تستثن أحدا ولا حتى المتماثل دينيا ومذهبيا مع بداعشا.
سابعا: كانت جماعات العنف الدينى فى الماضى عبارة عن خلايا تنظيمية تراتبية أو عنقودية، أو...،إلخ. أما تنظيمات الإرهاب «الداعشى» فهى تقترب، فى هيكليتها وسلوكها وعلاقاتها، من الجيوش النظامية المُحاربة من حيث: العتاد، والعدة، والتجهيز، وممارستهم العملية للعنف كعملية حربية متكاملة الأركان ــ نسبيا ــ وليس أعمال عنف متناثرة. وعليه بات الإرهاب الداعشى حربيا، يستهدف الحرب الشاملة.
ويدعم ما سبق طريقة التجنيد والتجهيز والعلاقات الغامضة والمتشابكة بكثير من الأجهزة الاستخباراتية. لذا بات يطلق على إرهابيي «داعش» فى الأدبيات المعاصرة: بفواعل غير دولتية (نسبة إلى دولة). حيث أنهم لا ينتمون فعليا من الناحية التنظيمية إلى دولة ولكنهم يسلكون سلوك جيوش الدول. إنها حالة أقل من الجيش النظامى ولكنها ــ يقينا ــ أرقى من التنظيمات العُنفية القديمة، ومن العصابات المسلحة على الطريقة اللاتينية.
ولعل ما يصدره الداعشيون من بيانات مسبقة للعمليات وبعدها. تتضمن توجيهات معنوية للقائمين على العمليات وتبريرات لها يطبقون ما جاء فى المراجع المعتبرة بأهمية بالحرب النفسية كونها معركة الكلمة والمعتقد بحسب صلاح نصر فى مرجعه العمدة الذى يحمل نفس الاسم. وعليه يصبح غير المسلمين بجموع الصليبيين بما تحمل كلمة «صليبية» «Crusade»؛ من دلالة عسكرية، تاريخيا منذ حملات الفرنجة. كما يصير من يخرج على رؤيتهم الدينية خارجا على الدين وهكذا تنتفى أفكار العيش المشترك، والمُركب الحضارى المتعدد العناصر، والديمقراطية، والانفتاح على جديد العصر،...
ويبدو لي، أن جيشنا الوطنى هو الكيان الوحيد الذى يتعاطى مع هذا الإرهاب الوحشى بشكل مؤسسى صارم. ويلزم أن تواكبه باقى الكيانات فى المؤسسية والصرامة. وذلك دفاعا عن الدولة الحديثة، وحياتنا المشتركة وتعدديتنا، وقيم العصرنة وفى القلب منها المواطنة. والمواجهة الحاسمة لكل ما من شأنه السحب من رصيد الدولة الحديثة. وذلك بما أطلقت عليه بالثقافة المجتمعية المضادة والمانعة لتطبيق قيم الحداثة والمواطنة وأحكام الدستور والقوانين المفصلة لها. كذلك العدالة والكرامة والحرية. ما يلزم تطهير مصر ممن يريدون تغيير طبيعتها. وإحداث تغييرات جذرية وحاسمة فى مناهج التعليم، والرسائل الإعلامية، والمضامين الثقافية...إنها حرب تاريخية...ويبدو أن قدر مصر أن تواجهها وحدها.